محمد العسيرى يكتب: مهرجان تكدير السلم العام فى الجونة
٥٠٠ كيلو تقريبًا تفصلنى عن مدينة الجونة التى وصفتها شيرين رضا بأنها المدينة الفاضلة، ٥٠٠ كم فقط لكنها أبعد من الجنة بالنسبة لعشرات الملايين من المصريين.
هى مجرد منتجع سياحى بالقرب من الغردقة.. مثلها مثل عشرات المنتجعات التى يذهب إليها البعض منا.. ويسكنها البعض الآخر.. ويستثمر فيها وفى خيراتها بعض ثالث لا أعرفه ولا أحسده ولا أحقد عليه.. ولا أطلب منه شيئًا أكثر مما نطلب من الجميع.. أن يدفع ما عليه من حقوق لهذه الدولة التى سمحت له دون غيره بأن يمتلك هذه المنتجعات بملاليم، فى صفقات غامضة ليس هذا أوان الحديث عنها.
قبل أن يفهم أحدهم.. أو يحاول أن يفهم أننى ضد الاستثمار أو ضد رجال الأعمال.. أو يحكم أننى على العكس من ذلك.. أتمنى أن يفعل عشرات رجال الأعمال مثلما يفعل آل ساويرس فى الجونة أو غيرها.. أن يستثمروا داخل البلد كل ما يملكونه أو بعضه.. المهم أن يعملوا.. وفق القانون.
طيب.. إيه الحكاية؟.. ولماذا نرى فى مهرجان الجونة السينمائى، مهرجانًا لتكدير السلم العام؟.. هل تعترض أنت الآخر على ملابس الفنانات العارية.. أو الغالية.. بعضها وصل إلى مليون جنيه بالاكسسوارات طبعًا؟.
الإجابة الحاسمة منى.. لأ طبعًا.. ده مهرجان سينما.. فى مدينة سياحية.. والطبيعى جدًا أن يذهب إليه نجوم السينما، فهم إحدى أدوات لتسويقه ونجاحه، ولأنهم مش رايحين «عزا».. لازم يكونوا على سنجة عشرة وفق معايير المهرجانات المشابهة، فى كل دول العالم.. وبعضها دول عربية إسلامية وفى مقدمتها «دبى» مثلًا.
طب إيه الموضوع بقى.. الموضوع يا سيدى باختصار أن ثمة ملاحظة تقودنى إلى أن هناك حالة من التنمّر تزداد يومًا بعد الآخر تجاه قطاع من الفنانين.. بدأت تظهر بوضوح أثناء مرافقة وفد من الفنانين للاعبى المنتخب الوطنى فى روسيا فى كأس العالم.. يومها لم نتوقف عند سوء مستوى لاعبينا.. ليس كلهم بالطبع.. ولم نتوقف عند أن فريقنا كان آخره يروح كأس العالم.. وأن مدربنا راجل على باب الله مش أكتر.. وأن إدارة منظومتنا الرياضية بمجملها سيئة وفاشلة.. فقط توقفنا عند الفنانين الذين ذهبوا إلى هناك وحملناهم نتيجة خسارتنا.. كان الهجوم عدائيًا.. يكشف عن نظرة خطيرة لمفهوم الفنانين، ودور الفنانين الذين حصرناهم فى كونهم شوية مطبلاتية بيقبضوا ملايين ع الفاضى.. والناس مش لاقية تاكل.
نفس الأمر.. حدث هذا الأسبوع وبحدة أكبر من سابقتها.. هجوم عنيف على أزياء الفنانين واكسسواراتهم وعلى الجونة ومن يعيشون فيها ومن يملكونها.. لكن أخطر ما توقفت أمامه.. هو أن هؤلاء الذين كانوا هناك ليسوا من مصر.. ولا لوم عليهم.. وأن الجونة «عزبة» خاصة بساويرس يفعل فيها ما يشاء.. يجيب اللى يجيبه.. ويودى اللى يوديه.. المهم ما يتكلمش باسم مصر.. ولا فن مصر.. ولا ناس مصر.
مصر اللى إحنا عارفينها.. هكذا يتحدث الناس اللى مش لاقية تاكل.. تعانى من أزمات فى الصحة والتعليم والشوارع.. ناس بتشحت النفس عشان تعيش.. ليس هذا فقط.. بل وباعتراف حكومى.. مصر التى نعرفها مديونة لشوشتها.. وحسب تصريحات وزير المالية وصلنا إلى مرحلة «لازم تسدد اللى عليك».. فهل سدد السادة الذين يملكون الجونة.. والذين يعيشون فيها.. والذين ذهبوا إلى مهرجانها بفساتين تعدى الواحد منها المليون جنيه.. ما عليهم؟.. هل سدد هؤلاء نصيبهم فى ديون مصر؟.. هل دفعوا الضرائب اللى عليهم؟.. بالمناسبة لماذا لا يخرج السيد وزير المالية ويعلن بشفافية عن موقف آل ساويرس من الضرائب.. وبالمرة طابور الفنانين.. الناس يفرسها الكتمان على اللغط.. ويدفعها إلى ذلك الإحساس المزعج بتقسيم البلاد وتسليم خيراتها لصالح حفنة صغيرة العدد.. وربما يكون الأمر برمته مجرد إشاعة.. ولماذا لا يخرج السيد نجيب- بلدياتى الصعيدى- ويعلن بصراحة شديدة عن موقفه من الضرائب فيريح ويستريح.. أنا شخصيًا معنديش أى مانع إنى أصدقه لو قال إن المصلحة تغالى فى تقديراتها لضرائب شركاته، وإنه لجأ إلى القضاء ليحكم بينه وبين المصلحة.
يا سادة.. لقد وصل الأمر بالناس إلى مرحلة مفزعة.. ولم يعد أمر تبرع أحدهم لعلاج طفل.. أو دفع ثمن كرتونة أكل لجمعية خيرية أمرًا يريح النفوس.. بل أصبح سببًا لزيادة الاحتقان.
لقد كنت أتعجب من قدرة الشاعر جمال بخيت عندما كتب لنانسى عجرم «خدو بالكو دى مصر المنصورة مش أيها مصر».. يومها سألت نفسى هوه إحنا عندنا كام مصر.. مصر التى أعرفها واحدة ولا يجوز تقسيمها، وهو معنى لم يخطر فى ذهن صديقى الشاعر الكبير حتمًا.. لكنه الآن فى عيون وصدور معظم أهالينا.
الحقائق على الأرض تقول إن عددنا زاد على المائة مليون.. منهم ٩٠ مليونًا يقاسون الأمرّين عشان يعرفوا يعيشوا.
فلو كان هناك عشرة ملايين فقط يستطيعون امتلاك فيلات فى الجونة وشبيهاتها.. فحتمًا هذه دولة أخرى.. مصر أخرى.. على ساكنيها أن يتطهروا.. وأن يحموا أموالهم التى جمعوها بالحق وبالباطل بدفع ما عليهم من حقوق.. فقط لا يعقل أن يكون هناك بلد فيه عشرة ملايين ملياردير يعيشون فى مدينة فاضلة، ويكون هذا البلد «مديون لشوشته».. ويوم أن يحدث ذلك لن يحقد أحدنا على مهرجان الجونة.. ولا يفكر أحدنا مطلقًا فى أنه أصبح أحد عوامل إذكاء «الحقد الاجتماعى».. وتكدير السلم العام فى البلد.. بدلًا من أن يكون أحد روافد صناعة البهجة.