رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحج رحلة نفسية


رؤية نفسية لرحلة التخلص من الذنوب

ونحن صغار كانوا يقولون لنا إن المتدين لا يمكن أن يمر بأزمات نفسية أبدا، لأنه يعرف جيدا أن الأمر كله بيد الله، وما دمت فى يده فلا داعى للخوف ولا القلق ولا التوتر ولا الاكتئاب، لأنك لو مررت بأى حالة من هذه الحالات، فإن تدينك يكون منقوصا.

تجارب الحياة قاسية بالطبع، لا نصمد أمامها طويلا، نضعف أحيانا، نتردد أحيانا، ونسقط أحيانا، لكننا فى لحظة معينة تتكشف أمامنا أنوار الله، فنسند ظهورنا على كف رحمته، ونعرف أنه لن يخذلنا أبدا.
تحدد العلاقة النفسية بين الإنسان وربه من منطلق مهم جدا، قد لا نلتفت إليه كثيرا، وهو الذنوب، فإذا كنت طائعا، كانت حالتك النفسية مستقرة، وإذا كنت مذنبا فأنت فى حالة بحث دائمة عما يخلصك من هذا الذنب.

هل سمعتم قبل ذلك تعريف النبى محمود الدقيق جدا للإثم، اسمعوه صلى الله عليه وسلم يقول: الإثم ما حاك فى صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس.. هذه حالة متفردة جدا من التعمق فى النفس الإنسانية، ولن أبالغ إذا قلت إن النبى صلى الله عليه وسلم بحديثه هذا تجاوز مدارس علم النفس الحديث، فهو يتحدث عن دواخلالنفس الإنسانية.

فإذا أردت أن تعرف هل أنت مذنب أم لا، فما عليك إلا أن تعرض ما تفعله على نفسك، تأمله جيدا، قلبه يمينا ويسارا، فإذا رأيت نفسك مستقرا ومرتاحا له، ولا تخاف أن يطلع عليك الناس وأنت تفعله، فحتما ما تقوم به لا يغضب الله، أما إذا وجدت فى نفسك ضيقا وحرجا وتحرجا، وتخشى أن يعرف الناس عنك أنك أقدمت على هذا الفعل.. فتأكد دون أن تسأل أو تستفتى أحدا أن ما تقوم به خطأ كامل.

ولأن الله عليم بعباد ورحيم بهم، ويعرف أن الذنوب هى أكثر ما يثقل كاهلهم نفسيا، فقد جعل لهم فى العبادات مخرجا ومنفذا.

تذكرون الحديث النبوى الشريف: الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر.. إنه من ناحية نفسية يعتبر قمة العلاج للنفس المتعبة والمرهقة والمعذبة التى تنوء بحملها، ولا تعرف على وجه التحديدأين تضعه، فإذا بالنبى يضع الروشتة كاملة، ويضع آليات تنفيذها، فإذا تزاحمت على الذنوب، فما عليك إلا المزيد من الطاعة.

عندما نضع هذه الحالة على خارطة الحج الكبير، نجدها أن هذه الفريضة المقدسة تأتى على قمة العلاج النفسى لمن تزاحمت عليه ذنوبه، وهنا لابد أن تسمعوا لحديث نبوى آخر، أوجز فيه النبى ما يريده كل من قصد بيت الله الحرام ومسجد النبى الأعظم: من حج فلم يفسق ولم يرفث عاد كيوم ولدته أمه.

هذا هو المقصد الكبير لكل من يتكلف عناء الرحلة المادى والمعنوى، أن يعود من الزيارة المقدسة كيوم ولدته أمه بلا ذنوب ولا خطايا.

سمعت من أكثر من حاج أن اللحظة التى يرى فيها الكعبة المشرفة لأول مرة تكون لحظة فارقة جدا فى حياته، يشعر وكأنك هناك ما يزلزل كيانه، ويخلعه من نفسه، وقد أرجع كثيرون ممن مروا بهذه التجربة ما يحدث لهم أنهم يقفون أمام بيت الله الحرام، البيت الذى نسبه الله لنفسه مباشرة رغم أن كل المساجد فى كل البلاد هى بيوت الله.

الأمر على هذه الصورة ليس دقيقا بدرجة كبيرة، فما يحدث أن الحج عندما يرى الكعبة متسجدة أمامه يعرف أن رحلة تخلصه من ذنوبه بدأت، وقد يكون الشعور بالرهبة والهيبة يعود إلى أنه بعد أن يتخلص من الذنوب ستكون عليه مسئولية كبيرة، فلا يجب أن يعود بعد ذلك إلى الذنوب، ولأنه لن يقدر على ذلك، فالمسئولية تتجسد أمامه فى اللحظة التى يعرف أنه لا رجوع عن رحلة غسيل خطاياه.

لقد نزع الله قوانين كثيرة، يمكن أن تجدها فى كل مكان مزدحم، فطبقا للفلسفة الهندسية فإن الأماكن المزدحمة تغلب عليها حالات الشعور بالفوضى والعنف والتدافع والاحتكاك والتحرش البدنى، وهى أمور تحدث رغما عن أصحابها، لكن ورغم كل هذا الزحام فى الحج، إلا أن الاستقرار والهدوء والأمن والأمان النفسى هو ما يسيطر على الحجاج، فكل منهم لا يفعل أكثر من محاولة أن يسع من يطوفون أو يسعون بجواره.

لا أنكر بالطبع حالة الوجد التى زرعها الله فى نفوس وأرواح وقلوب الناس جميعا، وهنا تتجلى عطايا القرآن الكريم، اسمعوا خليل الله إيراهيم وهو يطلب من الله صراحة "واجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم".. استجاب الله، فزرع فى قلوب الجميع محبة أن يزورا المكان الذى استوطنته السيدة هاجر عليها السلام، وابنها إسماعيل.

يقولون فى الأثر إن نبى الله إبراهيم عليه السلام وقف على الكعبة المشرفة، ونادى فى الناس بالحج، القرآن أكد ذلك "وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق".. نادى إبراهيم وكان على الله أن يسمع العالمين نداءه.. ولا تتعجب عندما تقرأ فى كتب التراث، أن صوت النبى إبراهيم وصل إلى النطف فى أرحام الأمهات، فسمع البشر جميعا إلى نداءه، وهو ما يفسر حالة الشوق التى تسيطر على قلوب المسلمين فى كل مكان لزيارة المكان الذى ناداهم من عليه نبيهم الأول إبراهيم.

إذا أردتم أن تعرفوا الأثر النفسى للحج، تأملوا فقط فى وجوه العائدين، واستمعوا إلى ما يقولونه، لن أقول إن الإحساس الذى يسيطر عليهم هو الارتياح أو الاستقرار، ولكن الفرحة هى سيدة الموقف.

طبقا لأدبيات علم النفس فإن هناك ما يعرف بهرمون "الأوكسيتوسين".. وهو هرمون الحب، إفرازه يجعلك أكثر هدوءً وسكينة، وطبقا لبحث صادر عن جامعة كليرمونت للدراسات العليا فى عام 2011، فإن التجمع والاختلاط يعززان الثقة بالنفس، وهى حالة تساعد فى إفراز هذا الهرمون، وأعتقد أن 3 ملايين شخص وربما يزيد فى مكان واحد يجتمعون على محبة الله وطامعين فى فضله وكرمه ورحمته، مؤكدًا أن هرمون الحب يكون العامل المشترك بينهم.

الرحلة روحانية لا يمكن أن نجردها من ذلك، لكنها فى الوفت ذاته رحلة نفسية بامتياز، وأعتقد أن علماء النفس يحتاجون إلى تأملها، ففيها كثير من الأدوية التى تصلح لعلاج أمراض عصبية عليهم، ويكفى أن العلاج الأكبر الذى يلقاه المسلمون وهم ذاهبون إلى الله أنهم يرمون حمولهم عليه، وهو الفعل الذى يجعلهم يتحررون من كل مشاعرهم السلبية، فلا خوف ولا قلق ولا توتر وأنت فى حمى الله.