رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التعليم أولًا والتعليم أخيرًا


من منظار مقرّب للصورة (تليسكوب)، أتطلع إلى مقومات تقدم الشعوب، لا سيما مصر، صاحبة تاريخ لا تنافسه دول كثيرة، من حضارة وعلوم قبل ألفى عام، وفى مراجعة سريعة لأفضل الدول التى ازدهرت فيها نظم التعليم، ومتطلعًا إلى أفضل عشرين دولة تعليميًا كانت النتيجة غيبة عربية وشرق أوسطية من القائمة، بل لم أجد الولايات المتحدة حتى قرابة نهاية القائمة، حيث جاء ترتيبها الرابعة عشرة. أما الدولة الأولى فهى كوريا الجنوبية، تليها اليابان، فسنغافورة، ثم هونج كونج، وبعدها فنلندا والمملكة المتحدة «بريطانيا»، ثم كندا وهولندا وأيرلندا وبولندا فالدنمارك وألمانيا وروسيا، ثم الولايات المتحدة ونيوزيلندا وإسرائيل، ثم بلجيكا فالتشكيك، وآخر قائمة العشرين تأتى سويسرا.
لقد أسفت كل الأسف أننى لم أجد بلادى ولا من يجاورها ضمن القائمة.. فدولة مثل فنلندا ليست أقوى الدول عسكريًا، ولا أغناها ماليًا، ولا أكثرها عدديًا، ولا أقدمها تاريخيًا، فما إذن سر تفوقها تعليميًا حتى على أقوى دولة من جوانب كثيرة، منها التقدم الحضارى والحريات والقدرات المالية، وهى الولايات المتحدة التى احتلت المرتبة الرابعة عشرة؟.. أما فنلندا الدولة الصغيرة عددًا، فقد ركزت كل اهتماماتها على التعليم، فقد حصلت على المركز الأول عام ٢٠١٥، وفقًا لتقرير التنافسية العالمية، وجاء التقرير عن أسباب هذا التفوق فى الخطوات التالية:
أولًا: احترام التعليم واعتباره جزءًا أصيلًا من الهوية الفنلندية. ويقول وزير تعليمها السابق «بار ستاندار» إن التعليم والتعلم فى بلدنا يعتبران من أساسيات الثقافة الفنلندية، حيث يأتى التعليم فى المرتبة الأولى، واعتبار التعليم حقًا للجميع مع ملاحقة تطوير التعليم بشكل أكبر ومستمر.
ثانيًا: الاهتمام الأكبر بإعداد المعلم حتى شاع القول إنه من الصعب أن يصبح أحد معلمًا فى فنلندا. فالمعلم يتم اختياره بعناية فائقة، فليس كل متعلم يستطيع أن يعلم، بل لا بد من توفر كفاءة عالية ورغبة وحماس لهذه العملية التعليمية، فهى ليست وظيفة كسائر الوظائف، فالمعلم المتقدم لهذا العمل لا بد من حصوله على درجة الماجستير بعد التخرج فى الجامعة، ونسبة الذين يتم اختيارهم بدقة شديدة لم تتجاوز ١١ فى المائة كأعلى تقدير لمن تتوفر فيهم الرغبة والحماس والعلم.
ثالثًا: يتميز المعلم بساعات عمل أقل وراحة أكثر، فالمعلم لا يعمل أكثر من أربع ساعات فى اليوم، أى عشرين ساعة أسبوعيًا، بما فيها ساعات إعداد الدروس، وتأخذ من الوقت أكثر من نصفه.
رابعًا: لا تفريق بين الطلبة وفقًا لقدراتهم أو درجة ذكائهم التعليمى، والشعار الذى تبنته بعد ذلك أمريكا «لا تترك الطفل بالخلف»، فهم لا يعزلون الطالب الضعيف عن زميله القوى، فالمعلم يعطى اهتمامًا أكبر لمن هم أقل مستوى من بقية الزملاء، ولا يألو المعلم جهدًا حتى يصل الضعيف إلى مستوى الأقوياء، حتى حصلت فنلندا على سمعة طيبة بأن المدرسة لا تترك فرصة لأحد من طلابها أن يتخلف عن باقى زملائه.
خامسًا: الارتباط القوى بين المعلم والطالب، فالمعلم ينتقل مع تلاميذه حتى الصف الخامس دون تبديل حتى يتآلف التلاميذ مع معلمهم طوال هذه المدة الطويلة، مع الوضع فى الاعتبار أن عدد التلاميذ بالفصل لا يتجاوز العشرين، مما يزيد من ترابط المعلم والطالب «يعنى أسرة كبيرة بعض الشىء»، وللقارئ أن يتخيل: معلم مع عشرين تلميذًا لمدة خمسة أعوام.
سادسًا: المساواة الكاملة بين التلاميذ. فنظام التعليم الفنلندى، يؤكد مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة والعدل بين جميع التلاميذ، فلا فرق بين تلميذ القرية أو المدينة، سواء كان أحدهم غنيًا والآخر فقيرًا، فالتعليم كما يقول قادتهم ليس سلعة للبيع والشراء وليس مرتبطًا بالسياسة أو الطبقية، فكل المدارس تمول شعبيًا، وتوزع الأموال على جميع المدارس بالتساوى، كما لا يوجد تنافس بين مدرسة وأخرى، فالكل على ذات القدر وعلى ذات المستوى، والأهداف هى قومية لا شخصية ولا حزبية ولا طبقية.
سابعًا: ارتفاع أعداد المتقدمين للجامعات، لقد فاقت نسبة المتقدمين للجامعات الفنلندية نسبة الأمريكيين بأكثر من سبعة عشر فى المائة، حيث إن ثلاثة وتسعين فى المائة من طلاب المدارس العليا يتقدمون للجامعات، بينما نسبة الأمريكيين لا تتعدى ستة وستين فى المائة، مع العلم أن ما تنفقه فنلندا على طلابها أقل مما تنفقه الولايات المتحدة على طلابها.. أما ما يميز فنلندا، كما تقول حكومتها، أنها تحظى بالحرية وبالأمن والأمان، وأنها بلا جيش، دونًا عن سائر بلدان العالم، وتحت شعار «بلد الأمن والأمان بلا جيش».
إنها حقًا بلد يحسد على ما يتمتع به، فهل يتعلم حكام وشعوب العالم الدرس من بلد صغير، لكنه فاق الجميع فى العلم والتعليم والسلام والتنظيم؟، ومن الجدير بالذكر أن تعداد فنلندا، وفق آخر تعداد أُجرى فى عام ٢٠١٦ هو خمسة ملايين ونصف المليون.. والسؤال: كيف نقارن بيننا وبين دولة لا يتجاوز تعدادها عدد سكان محافظة متوسطة العدد فى مصر أو فى بعض دول الجوار فى المنطقة، فعدد السكان إذن ليس هو العائق، فلدينا دويلات صغيرة ولكن أنظمتها التعليمية لا تتجاوز كثيرًا أكبر دول المنطقة، ومصر فى المقدمة، ولدينا دول أقل عددًا وأكثر رخاء ومالًا، ولكن مستوى التعليم بها لا يصل إلى المستوى المرغوب فى القوائم العالمية، ودول أخرى فى الجوار الأكثر مالًا بمراحل ولا تعانى عجزًا فى المبانى ولا فى المناهج ولا حتى فى الوظائف، ولكنها لا تصل حتى إلى ذيل القوائم العالمية لا بين العشرين دولة ولا حتى بين المائة، فهل نعترف أولًا بموقعنا وبقدرنا التعليمى حتى نصحح من مكانتنا ونعود إلى تاريخنا، ولا أقول إلى فنلندا؟.