محمد الباز يكتب: العائد من البيت الأبيض
لن يكون مرة أخرى «الرئيس الحذر» لكنه سيصبح «الرجل القوى» الذى يملك رؤية واضحة لحل مشكلات المنطقة.. وعلى الآخرين الإنصات
طى صفحة الخلاف بشكل كامل مع السعودية فى «زيارة أبريل».. و«نقلة هائلة» فى العلاقات المصرية الأمريكية
لن يعود الرئيس عبدالفتاح السيسى من زيارته إلى واشنطن كما ذهب.
هذه قناعتى التى بنيتها على ما شاهدته وسمعته وقرأته، فما حدث فى البيت الأبيض، وعلى هامش الزيارة، وما زامنها من ردود فعل فى عواصم العالم الكبرى، يشير إلى أننا أمام عصر جديد، يدخله الرئيس الذى يحسب خطواته جيدًا، ويعرف حجم المعركة التى خاضها منذ اللحظة التى قرر فيها أن ينحاز إلى جموع الشعب المصرى الغاضبة والراغبة فى عزل الرئيس الإخوانى وجماعته الإرهابية من الحكم.
بعد ساعات قليلة من بيان السيسى الذى ألقاه من وزارة الدفاع فى ٣ يوليو ٢٠١٣، معلنًا خلع المصريين حاكمهم الذى كان يستقوى بجماعته على شعبه- وصفته بالمستقيم.
كانت الاستقامة هى الصفة التى غطت على ما عداها من صفات السيسى، لم يخدع نفسه ولم يخدع الرئيس الذى أقسم أمامه يمين توليه أمر وزارة الدفاع، حيث ظل يقدم له النصح حتى اللحظة الأخيرة، بأن يكون رئيسًا لكل المصريين وليس زعيمًا لمافيا، وفى النهاية لم يخدع الشعب المصرى الذى طالبه بأن ينقذه من حكم الجماعة وإرهابها.
هذه الاستقامة نفسها التى لم يتخل عنها السيسى بعد أن أصبح رئيسًا للبلاد، هى ذاتها التى ستعصمه من الغرور الذى لابد أن يصيب كل من يتم استقباله بكل هذه الحفاوة والتعظيم من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة التى لا تزال لها الكلمة الأكثر تأثيرًا فى مجريات العالم.
كسر الرئيس الأمريكى كثيرًا من قواعد البروتوكول فى استقباله الرئيس السيسى، أثنى عليه أكثر من مرة، مدح شخصه، وعظم ما قدمه لبلاده فى ظروف صعبة لم تخف على أحد، ثم قال له بوضوح إنه سيجد له صديقًا فى البيت الأبيض، يقف وراءه، ويقدم كل الدعم لمصر فى حربها المقدسة ضد الإرهاب.
كان يمكن للرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن يكتفى بكلمات عابرة يستقبل بها ضيفه، الذى عاندته الإدارة الأمريكية السابقة، ثم تنتهى الزيارة بشكل اعتيادى لا جديد فيها، مؤتمر صحفى لا جديد فيما يقال فيه، ومباحثات ثنائية باردة، ثم غداء أو عشاء احتفائى يتم فيه تبادل بعض الكلمات الإنشائية الفارغة التى لا قيمة لها.
لكن الرئيس الأمريكى الذى يضع قضية الحرب على الإرهاب على قائمة أولوياته، اختار أن تكون الزيارة مختلفة وحقيقية، أعلن خلالها أن مصر ليست دولة حليفة فقط، رغم أهمية ذلك، ولكنها أصبحت دولة صديقة، وهو ما يعنى أن هناك ما سيترتب على الصداقة، ليس فى العلاقات بين البلدين، وهى علاقات تقطعت أواصرها، ولكن على المنطقة كلها، وما تموج به من صراعات وخلافات وحروب أيضًا.
استغرقتنا تفاصيل الزيارة السياسية، نقل الإعلام ما دار فى جلساتها على لسان أطرافها، بحث عن صورة جديدة ينفرد بها، حاول تتبع الدلالات والرموز خلف الكلمات والنظرات وطريقة الجلوس وأسلوب المصافحة، قارن بين المشاهد التى جمعت ترامب بالسيسى بمشاهده مع آخرين، حاول أن ينقل الصورة بموضوعية فيها كثير من الحماس لأن الزيارة ليست عادية، فنَّد هجمات المتربصين الذين أذلهم مشهد دخول الرئيس المصرى عرين سيد البيت الأبيض واثقًا مما لديه، ومدركا أهمية ما سيقوله.
وقبل أن يلملم الوفد المصرى أوراقه، رصدنا العائد الاقتصادى للزيارة، وهو مهم، ربما ينتظره المواطن العادى بأكثر مما يتوقع الجميع، فالمصرى الجالس فى بيته يتابع الصورة من على شاشة التليفزيون لا يفكر فى زيارات الرئيس الخارجية أو تحركاته الداخلية إلا بسؤال واحد، وهو ما الذى سيعود عليه فى حياته من هذه الزيارات أو التحركات.
رصدنا اجتماعات وزراء المجموعة الاقتصادية مع مسئولين ورجال أعمال أمريكان، ولقاءات الرئيس برؤساء شركات كبرى، نقلنا كل ما قيل عن برنامج الإصلاح الاقتصادى، وهو ما يمهد الأرض لاستثمارات كثيرة قادمة، وسمعنا الرئيس الأمريكى وهو يتحدث عن دعم اقتصادى وتعاون عسكرى ضخم، بما يمثل نقلة هائلة فى العلاقات المصرية الأمريكية، التى ما كانت هذه الزيارة إلا لترميمها بعد سنوات تعرضت فيها لتكسير مدمر.
لكن لم يهتم أحد بالأثر النفسى لهذه الزيارة، ليس على الوفد المرافق للرئيس، سواء كان رسميًا أو شعبيًا، ولكن على الرئيس نفسه، وأعتقد أنها مساحة مهمة ومؤثرة فيما هو قادم من أيام.
خلال السنوات التى أعقبت ثورة ٢٥ يناير، تنازع شركاء إقليميون مصر فى دورها بالمنطقة، تعاملوا معها كجسد ضعيف يجب أن يكون تابعًا لا متبوعًا، تعرضت هذه الدولة العظيمة إلى عمليات تحرش وابتزاز لا أول لها ولا آخر، استسلمنا لأقدارنا حتى جاءت ثورة ٣٠ يونيو، لا لتحررنا من كابوس جماعة الإخوان ورئيسها المتهافت، ولكن لتحرر إرادتنا وتعيد إلينا دورنا، عاندتنا دول تعانى عقدًا نفسية، تريد أن تتصدر الصورة على حساب الدولة الكبيرة، ولأنها بلا تاريخ فلم تستطع أن تخفى حقدها على مصر.
ما رأيناه فى زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يأتى تتويجًا لجهود متواصلة على مستوى العلاقات الخارجية، وهو تتويج يعنى أن مصر استردت دورها تمامًا، فرئيس أقوى دولة فى العالم يقدم نفسه إلى الرئيس المصرى على أنه صديق، وليس مجرد حليف، بما لعلاقة الحليف من ضرورات وواجبات، وما تعنيه الصداقة من مساحات ندية، وعمل مشترك.
عبدالفتاح السيسى العائد من البيت الأبيض لن يكون الرئيس الحذر، الذى يبذل جهدًا هائلًا فى السير على خط النار وسط أمواج من التربص به وببلده، ولكنه سيكون الرئيس القوى، الذى يملك رؤية واضحة لمشاكل المنطقة، وعلى الآخرين أن يسمعوا له ويطيعوا، ليس لأن الرئيس الأمريكى سيأمر بذلك، ولكن لأن الصورة التى بدا عليها السيسى فى البيت الأبيض كانت دالة، وأعتقد أن الإشارات وصلت بوضوح إلى العواصم الكبرى فى المنطقة، وهى عواصم كان قادتها ينتظرون بلهفة ما ستسفر عنه الزيارة.
نفسية الرئيس القوى على مستوى الإقليم سترتب أداء مختلفًا فى علاقات مصر بدول المنطقة، وأعتقد أن زيارة السيسى للمملكة العربية السعودية، ــ وهى زيارة منتظرة خلال أيام ــ ستكون مختلفة تمامًا، فأصداء ما دار فى البيت الأبيض أحدثت ولا تزال تحدث دويًا فى الرياض، التى كانت علاقتها معقدة جدًا بالقاهرة، وقد بدأت التعقيدات فى الحل خلال قمة «البحر الميت»، وستزول كلها بعد زيارة واشنطن، والأيام القادمة حتما ستشهد ذلك.
لم يخضع عبدالفتاح السيسى وهو رئيس لأى ضغوط خارجية، يمكن أن تصف سياسته بالمواءمة، فهو يعرف جيدًا الظروف التى تعيشها مصر، ويعرف أن المواجهات الحادة يمكن أن تضعف الكيان الذى خلفته العقود الأخيرة ضعيفًا بلا حول ولا قوة، وهو ما جعله يمد خطوط التفاهم مع الجميع، ينصت ويفكر ويحاول أن يصل إلى حلول تحفظ لمصر ماء وجهها، ولا تتجاهل الظرف التاريخى الصعب الذى تعيش فيه.
لن أكون مبالغًا إذا قلت إن مصر عادت قوية من البيت الأبيض.. حصدت هناك ما زرعته بعد 30 يونيو من جهود لمواجهة الإرهاب، ومحاولة العمل من أجل أن نقف على أقدامنا، وهو ما جعل من يتعامل معنا بحياد وموضوعية يقدر لنا ما فعلناه.
لن يكون بعيدًا عن الصورة أن الرئيس العائد من البيت الأبيض سيعيد النظر فى أشياء كثيرة، من بينها وهذا ليس بعيدًا، عن التصور العام ما يحتاجه من الاعلام، وما يريده من رجال الأعمال، وما يرغبه من رجال إدارته، وما يحب أن يسمعه من الناس، وما يتوقعه من المجتمع المدنى والأحزاب، وما ينتظره من البرلمان.
يعود السيسى وهو يشعر بأن هناك دورًا استردته مصر، ولابد أن يكون الجميع على حجم هذا الدور، لم تعد هناك أى رفاهية لتضييع وقتنا فى مناقشات فارغة، وتعاطى شائعات لا أساس لها من الواقع، ومطاردة أكاذيب يرددها الخصوم، ونظل ننفى فيها بلا طائل، فلا أحد من خصومنا سيصدقنا.
يعود السيسى فعليًا وهو رئيس منتصر، فى معركته الأولى وهى البقاء، فقد أقنع العالم كله بأهمية الحرب على الإرهاب، وحصل على دعم مطلق فى حربه، التى لم تصبح حربه وحده، بل أصبحت حرب العالم كله، وفى معركته الثانية وهى البناء، فقد أقر العالم بأنه الرئيس الذى جاء ليبنى بلده، وليس ليهدمه كما يحاول خصومه أن يصوروه.
قد تتوقع أن السيسى سيبتعد عن الناس، وسيخفف من اجتماعاته ومؤتمراته مع الشباب، فما الذى يريده بعد أن حصل على اعتراف العالم كله بدوره وإنجازه، وهو توقع ليس صحيحًا بالمرة، لسبب بسيط وهو أن السيسى يعرف جيدا أن قوته التى ذهب بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية هى القوة التى حصل عليها من شعبه وناسه، وهى قوة لن يفرط فيها أبدًا، لأنها سره الذى يمنحه القدرة على الاستمرار.
لقد نجحت زيارة السيسى إلى الولايات المتحدة الأمريكية نجاحًا لم يكن يتوقعه أحد، وأعتقد أنها سيكون لها ما بعدها... وهو أمر سيكون علينا انتظاره وليس تعجله.