د.محمد الباز يكتب.. لماذا يقود صلاح دياب حملة التحريض ضد السيسى؟
لا ينافس بخل رجل الأعمال المعروف صلاح دياب، الذى يتندر به أصدقاؤه عليه، إلا تسرعه الشديد فى الحديث وندمه الأشد عليه.
هل لهذه المقابلة علاقة من أى نوع بحديث سيطول عن الصراع على كرسى الرئاسة فى مصر؟
أعتقد أن هناك علاقة وثيقة جدًا.
عندما كان السيسى يقابل فئات المجتمع المختلفة فى إطار حملته الانتخابية، جمعه لقاء مطول مع رجال الأعمال فى مايو 2014.
تحدث المرشح الرئاسى طويلًا عن التحدى الكبير الذى يواجه رئيس مصر القادم.
كان يدرك أن الإرهاب معركته الأولى، لكنه لم يغفل أبدًا أنه يحتاج إلى ميزانية ضخمة جدًا لإصلاح ما فسد، ليس فى عام الإخوان فقط، ولكن فى عقود سبقت، كان مبارك فيها يمارس تجريفًا حادًا لكل شىء فى مصر.
فى لقائه مع رجال الأعمال، أعلن السيسى للمرة الأولى أنه يحتاج 100 مليار دولار؛ ليواجه أزمات مصر الاقتصادية المتلاحقة.
لا أعرف بالضبط وقع الرقم على من شاركوا فى الاجتماع من رجال الأعمال.
لكننى عرفت بعضًا من رد فعل صلاح دياب، الذى ربما أدرك أن الرئيس القادم يجرى ما يشبه الاتفاق مع رجال الأعمال حتى يكونوا عونًا له وسندًا فى معركته القادمة.
لم يبتلع رجل الأعمال ريقه، قال للسيسى: ربنا معاك يا فندم.
أراد صلاح دياب فيما يبدو أن يتملص من أى مسئولية، أو ربما أراد أن يعلن موقفه بوضوح من البداية، فهو لن يشارك فى شىء.
فهم السيسى ما أراده صلاح دياب، فصحح له ما قاله: ربنا معانا يا فندم، فأنا لن أعمل وحدى، وأعتقد أنه آن الأوان أن تردوا بعضًا من فضل مصر عليكم، فقد منحتكم الكثير، والآن جاء دوركم.
خرج صلاح دياب من الاجتماع وفئران الدنيا كلها تلعب فى عبه، فهو حتمًا لن يدفع شيئًا، وهو حتمًا كان يعرف أنه سيكون فى مرمى السهام، لأنه سيخرج عن الخط العام المرسوم للكل، وهو خط كان يقتضى أن يسهم الجميع فيه من أجل الخروج من الأزمة، خاصة ممن هم مثل صلاح، الذين تراكمت ملياراتهم فى البنوك من خير هذه الأرض وعرق أبنائها.
كان القرار الذى استقر عليه عدد من رجال الأعمال (وهنا لا داعى لذكر أسمائهم، فهم معروفون تمامًا لمن يوثق تاريخ هذا البلد) أن يرهقوا عبدالفتاح السيسى.
عرفوا أنه سيكتسح الانتخابات الرئاسية، توقعوا أن تكون النتيجة صاعقة للجميع، فهو يحظى بشعبية طاغية، ولذلك كان القرار أن يفوز السيسى بنسبة معقولة، تجعلهم يضعونه فى خانة أنه لا يحظى بكل هذه الشعبية، وأن هناك من يرفضونه رئيسًا.
كان الطريق إلى اللعب فى الانتخابات مغلقًا، كما أن دخول رجال الأعمال فى أى تحالفات سيضعهم فى مأزق، خاصة أنه لا شىء فى مصر أصبح خفيًا على أحد.
لم يكن أمام رجال الأعمال إلا أن يفسدوا الانتخابات الرئاسية، وهو ما حدث بدرجة كبيرة.
عدد من رجال الأعمال أصدروا أوامر واضحة للعاملين فى شركاتهم ومصانعهم ألا يشاركوا فى الانتخابات الرئاسية، طلبوا منهم أن يمنعوا أسرهم كذلك من التصويت، وهو ما بدا فى اليومين الأول والثانى من الانتخابات التى امتدت ليوم ثالث.
كانت الرسالة واضحة.
أراد رجال الأعمال أن يقولوا لعبدالفتاح السيسى إنهم يقدرون على تحريك الشارع، وإنهم يستطيعون إحراجه وإفساد مشهد كان أى مراقب لمجريات السياسة فى مصر يعرف جيدًا أنه تم حصاره وتفريغه من مضمونه.
لم يلتفت السيسى إلى ما جرى، انتظر رجال الأعمال أن يتواصل معهم، لكنه مضى فى طريقه.
تعامل بالحسنى فى البداية، ذهب إلى البنك بنفسه حاملًا معه نصف مليون جنيه، وضعها فى حساب «تحيا مصر»، وهو الحساب الذى خصصه لتبرعات المصريين من أجل تمويل المشروعات التنموية، على أمل أن يقتدى رجال الأعمال به، لكن لا حياة لمن تنادى.
وهنا نجد صلاح دياب مرة أخرى.
كانت الرواية الشائعة أن نجيب ساويرس يقود مجموعة من رجال الأعمال، ليمنع وصول أى تبرع لصندوق «تحيا مصر»، لكن هذا لم يكن صحيحًا، فقد تبرع ساويرس وعائلته أكثر من مرة دون أن يعلن عن ذلك أو يتحدث عنه أحد من أشقائه.
الرواية الحقيقية تقول إن صلاح دياب هو الذى كان يقود هذه المجموعة، بل كان يجرى مكالمات تليفونية مطولة مع أصدقائه من رجال الأعمال، ومن بينهم ساويرس بالمناسبة، يطلب منهم صراحة ألا يذهبوا إلى صندوق «تحيا مصر»، وألا يضعوا فيه جنيهًا واحدًا.
كانت حجة صلاح دياب الحاضرة أنهم لو خضعوا مرة، فلن يستطيعوا أن يرفضوا بعد ذلك أى شىء يطلبه منهم الرئيس، لن يكتفى بتبرعهم مرة واحدة، بل سيكرر الطلب مرات ومرات، وعليه فيجب ألا يستجيبوا من البداية.
لم يكن هذا مسلك صلاح دياب وحده.
جرى ما أكد لى أن هناك رجال أعمال كثيرين يسلكون نفس المسلك.
فى أغسطس 2014 انفجرت معركة صاخبة بين رجل الأعمال نجيب ساويرس والنائب عبدالرحيم على.
اعترض عبدالرحيم أمام الرئيس فى أول لقاء جمعه بالصحفيين والإعلاميين على عدم تبرع ساويرس لصندوق تحيا مصر بمليم واحد، رد عليه ساويرس بعصبية عبر حسابه على «تويتر»، ووصفه بأنه مخبر، قامت قيامة عبدالرحيم على.
فى برنامجه «الصندوق الأسود» على قناة القاهرة والناس، هاجم عبدالرحيم ساويرس مرة أخرى؛ بسبب عدم تبرعه لصندوق تحيا مصر، فما كان من طارق نور، صاحب القناة، إلا أن أغلق البرنامج على الهواء.
اعتقد عبدالرحيم على وقتها أن طارق نور يجامل ساويرس، أو أن ساويرس على الأقل هو الذى طلب من نور أن يحجب البرنامج بالكلية.
بعدها بشهور كنت أتحدث مع طارق نور، وجدته يوضح لى بعضا من جوانب الصورة، قال لى إنه لم يغلق الهواء على عبدالرحيم على من أجل ساويرس، ولكن ببساطة لأنه كان يتحدث عن رجال الأعمال الذين لم يتبرعوا لصندوق تحيا مصر، وطارق نفسه رجل أعمال يعمل مع رجال أعمال آخرين، ولا يريدون أن يتبرعوا للصندوق، ولأنه اعتبر ما يقوله عبدالرحيم إحراجًا لهم، فقد أغلق البرنامج عليه.
صدقت طارق نور بالطبع، فهو لا يريد التبرع بعيدًا عن أى أهداف سياسية، فهو رجل إعلانات لا يعرف ولا يعترف إلا بالربح، وقد عرفت ذلك جيدًا عندما عرضت عليه فكرة برنامج اسمه «واجه الحكومة»، نواجه فيه الوزراء بأخطائهم ومشاكلهم، قال لى الفكرة حلوة، لكن مكلفة، ولو دفع الوزراء ثمنها يمكن أن أنفذها فورًا.
قد تقطع علىّ الطريق وتقول إن تصرف رجال الأعمال بهذه الطريقة لم يكن فيه صراع على السلطة، أو إنهم على الأقل لم يدخلوا فى منافسة مع السيسى، بل كانوا يحمون أموالهم وثرواتهم؟.
فيما تقوله بعض المنطق، لكن ليس فيه شىء من الحق.
اعتقد رجال الأعمال، وبعضهم لعب دورًا فى التمهيد لثورة 30 يونيو، أنهم شركاء فى الحكم، وأن السيسى ليس من حقه أن يطلب منهم شيئًا، اعتقدوا أيضًا أنهم فى لحظة معينة يمكن أن يكونوا أقوى منه، ولما وجدوا أنه يمضى فى طريقه، بدأوا فى العمل من أجل إفشاله، أو على الأقل جعله لا ينجح بما يكفى.
لم ينجح رجال الأعمال فى حصار السيسى بثرواتهم التى أحجموا عن التبرع منها لصندوق «تحيا مصر»، فبدأوا فى الاعتماد على أدواتهم الإعلامية، وليس عليكم إلا أن تراجعوا ما يقدمه موقع «المصرى اليوم» الإلكترونى والجريدة فى بعض الأحيان، وكثيرًا مما كان يقدمه طارق نور على شاشته، عبر برنامج إبراهيم عيسى وغيره.
فى أكتوبر 2015 حصلنا على بعض المعلومات عن اتصالات بين «بريان شوت» المستشار الإعلامى للسفارة الأمريكية، وهشام قاسم، الذى كان وقتها العضو المنتدب لجريدة «المصرى اليوم»، ودار النقاش عن إمكانية دعم السفارة للجريدة، تمهيدًا لتكوين جبهة من الصحف الخاصة تكون ناقدة ومعارضة لعبدالفتاح السيسى، وافق قاسم الذى كان قد حصل على ضوء أخضر من صلاح دياب لإتمام الاتفاق، ووصلت أول دفعة من الدعم إلى 3 ملايين دولار.
أعتقد أن ما نشرناه قطع الطريق على هذا المشروع من البداية، وجدت صلاح دياب يتحدث إلىّ، فى ظل صمت من هشام قاسم الذى يتحدث ويكتب كطاووس، رغم أن منطقه تافه وسمعته المهنية مصطنعة.
أنكر صلاح دياب أن يكون شىء من هذا جرى، قال لى إن جريدته لا تريد أن تحارب الرئيس، ولم أصدقه، ليس لأن لدىّ ما يثبت عكس كلامه، ولكن لأن نبرات صوته كانت تشى بأنه يكذب.
بعد شهور حصلت على صفحات من تقرير أعدته جهة سيادية، أنقل هنا بعضًا مما جاء فيه نصًا.
«نشرت جريدة المصرى اليوم بعددها الصادر يوم 22 نوفمبر 2016 مقالًا للدكتورة سحر نصر، وزيرة التعاون الدولى، بعنوان (لنثق بعبدالكريم... قطار التنمية لابد أن يصل للجميع ولا يترك خلفه أحدًا)... أشارت خلاله للظروف المعيشية القاسية لأحد أطفال سيناء، مطالبة بتضييق الفجوة فى (مستوى المعيشة – التعليم – الخدمات – معدل دخل الفرد) بين المواطنين المقيمين بالحضر والريف.
كما طالبت، خلال المقال المشار إليه، بالاهتمام بتحقيق التنمية الشاملة بجميع المحافظات خاصة (الوجه القبلى – الحدودية) منها، وعدم الاقتصار على المحافظات الكبرى».
يصل التقرير إلى ما نريده تمامًا، يقول: «أشارت المعلومات إلى اتفاق رجل الأعمال صلاح دياب، مالك غالبية أسهم المصرى اليوم، مع الوزيرة المذكورة على تحرير مقال أسبوعى بالجريدة المشار إليها، وتتسم تناولات الجريدة فى مجملها بالطابع السلبى حيال تطورات الأوضاع الداخلية للبلاد، ودأب رجل الأعمال توفيق دياب نجل رجل الأعمال صلاح دياب العضو المنتدب بمجلس إدارة الجريدة المشار إليها، على تكليف بعض الصحفيين بانتقاد القوات المسلحة بدعوى هيمنتها على كبرى المشروعات الاقتصادية، ويطرح ما سبق عدم ملاءمة اضطلاع السيدة الوزيرة بتحرير مقالات بالجريدة».
وهنا لابد من تسجيل ملاحظة على الهامش قبل قراءة دلالات هذا التقرير، وهى ملاحظة تتعلق بمصدره.
فحتمًا سيحلو لك السؤال عن مصدر التقرير، طالما أن جهة سيادية هى التى أعدته.
والإجابة ببساطة التى أعرف أنها لن تريحك، أننا حصلنا على هذا التقرير من مجلس الوزراء، فقد كان مطلوبًا من المهندس شريف إسماعيل أن يبلغ الوزيرة بأن كتابتها فى «المصرى اليوم» غير مرغوب فيها، لكن يبدو أنه لم يفعل ذلك، وهو ما قاله لى بعد ذلك المستشار الإعلامى لسحر نصر، فقد أكد لى ما أكدته له الوزيرة، من أن إسماعيل لم يتحدث معها فى هذا الموضوع نهائيًا.
أما عن التقرير فقد أكمل لنا الصورة.
فالحرب التى بدأها رجال الأعمال منذ اللحظة الأولى التى دخل فيها عبدالفتاح السيسى إلى قصر الاتحادية بهدف قطع الطريق عليه حتى لا ينجح، لم تتوقف عند سلاح الاقتصاد، بل كان الإعلام مساهمًا فيها بدور كبير، ولم تكن السفارة الأمريكية بعيدة عنه أبدًا، وهو دور أعتقد أننا سنعود إليه قريبًا.
ستقول إن هذا كان حديثًا ومضى.
سأوافقك تمامًا، لكن من قال لك إن شيئًا يمضى فى مصر إلى غير رجعة، فصلاح دياب ليس بعيدًا الآن عن التحالفات الجديدة التى تجهز أشخاصًا بأعينهم للمنافسة فى الانتخابات الرئاسية القادمة، وهو يعمل ذلك ليس لأسباب سياسية ولا لقناعة فكرية أو حتى موقف يمكن أن تعتبر أنه وطنى، ولكن لأسباب تتعلق بثروته ومشروعاته، وأخرى تتعلق برغبته فى الانتقام من النظام الذى تجرأ عليه واقتحم عليه بيته بعد اتهامه بحيازة سلاح دون ترخيص.
صلاح دياب ليس وحده، لكنه الأكثر وضوحًا.
ربما لأنه يعرف أن طريقه مقطوع مع النظام وأجهزته لأسباب يعرفها هو جيدًا، ولذلك يتعامل بمنطق أنه لن يخسر شيئًا إذا أصبحت أوراقه مكشوفة، وهو ما أشرنا إلى بعضه هنا دون الدخول فى مزيد من التفاصيل.
وربما لأنه يعتقد أن من يتحدث معهم كثيرًا عن مرحلة ما بعد السيسى يمكن أن يرغموا هذا الشعب على القبول بشىء لا يريده، أو التصويت لرئيس لا يثقون فيه.