رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحلقة الثالثة

إلى الرئيس السيسى .. فليكن نيلاً جامعاً


فى الحلقة السابقة من مقالنا تحدثنا عن المشروعات المائية فى كل من مصر والسودان وأوغندا، وفى هذه الحلقة نتناول الأصل التاريخى لأزمة سد النهضة، ومن المعلوم أن اتجاه إثيوبيا لإنشاء السدود على مجرى النيل بها ليس بالأمر الجديد، فقد سبق وحصلت «أديس أبابا» على الموافقة الضمنية أو الصريحة من دولتى المصب «مصر والسودان» بإنشاء عدة سدود منها سد «فينشا»، وهذا السد تم إنشاؤه على مرحلتين الأولى عام 1976 على نهر فينشا – أحد روافد النيل الأزرق - والثانية بتحويل رافد إماراتى – من روافد النيل الأزرق أيضاً – إلى سد فينشا بهدف توليد 100 ميجاوات من الطاقة الكهربائية.

وخلال العقد الماضى وافقت مصر والسودان بصورة ضمنية على إنشاء ثلاثة مشروعات مائية على مجرى نهر النيل بإثيوبيا وهى مشروع كلكل كبه وسد تيكيزى وسد تانا بليس.

سد النهضة

سد النهضة ليس هو المشروع الأول أو الأخير فى إثيوبيا، ففى الفترة فيما بين عامى 1959 و1964قام مكتب استصلاح الأراضى الأمريكى بدعوة من الحكومة الإثيوبية بدراسة إمكانية تنمية حوض النيل الأزرق بعد قرار مصر ببناء السد العالى، وبعد دراساته المستفيضة قام المكتب الأمريكى بنشر نتائج دراساته فى تقرير و5 ملاحق، كان من أبرز النتائج التى توصلت إليها الدراسات الأمريكية أنه لا توجد أراضٍ فى حوض النيل الأزرق تصلح للزراعة، لكن توجد أراضٍ فى الهضاب المحيطة يمكن توصيل المياه إليها وزراعتها خصوصاً حول بحيرة تانا ورافدى إنجار وفينشا، كما أكدت الدراسات الأمريكية أنه يمكن إنشاء نحو 33 سداً على مجرى النيل الأزرق منها 14 سداً لتوفير مياه الرى، ونحو 11 سداً لتوليد الكهرباء، وحوالى 8 سدود تصلح لتوفير المياه لكل الاحتياجات .

وللمفارقة فإن سد النهضة هو السد نفسه الذى اقترحته الدراسات الأمريكية تحت اسم سد «بوردر».

وبدأ التفكير فى إنشاء سد النهضة بمبادرة من رئيس الوزراء الإثيوبى الراحل «ميليس زيناوى» فى أبريل من عام 2010 – وإن كان أصل فكرة المشروع يرجع إلى الدراسات الأمريكية فى ستينيات القرن الماضى - أطلق عليه فى البداية اسم المشروع «x»، وعند طرح هذه الفكرة لاقت معارضة شديدة من قطاعات كبيرة داخل إثيوبيا لتكلفة بنائه المرتفعة، فضلاً عن أن إنشاءه سيفتح باب الحرب مع مصر .. ورغم المعارضة الداخلية فى البداية فإن العمل بدأ فى مشروع السد فى 2 أبريل من عام 2011 فى منطقة «بنى شنقول» على بعد نحو 40 كيلو متراً من الحدود الإثيوبية- السودانية، وقد تعمدت إثيوبيا البدء فى تنفيذ المشروع فى هذا التوقيت حتى تضمن انشغال مصر بشئونها الداخلية بعد الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك.

ويهدف مشروع السد إلى تخزين نحو 74 مليار متر مكعب سنوياً، بالإضافة إلى توليد كميات من الطاقة الكهرومائية تقدر بنحو 6000 ميجاوات سنوياً، المشروع تموله الصين بشكل أساسى والتى دفعت أيضاً نحو مليار دولار لإنشاء خطوط نقل الكهرباء المنتجة فى السد بعد الانتهاء من إنشائه، أما المصدر الثانى للتمويل فهو تبرع الإثيوبيين بنحو 8 % من دخولهم الشخصية.

وتقوم شركة إيطالية تدعى «سالينى» بتنفيذ المشروع وهى أيضاً التى وضعت تصميمه تحت إشراف شركة استشارية فرنسية، وتقدر التكلفة الإجمالية لإنشاء السد بنحو 4,8 مليار دولار.

ويوفر مشروع السد فرص عمل لنحو 5 آلاف مواطن إثيوبى، وبعد الانتهاء من إنشائه سيعمل على استمرار تصدير إثيوبيا للطاقة الكهربائية إلى الدول المجاورة ... وقد انتهت إثيوبيا من إنجاز نحو 40% من إنشاءات سد النهضة رغم اعتراض مصر وكذلك فإن تقرير اللجنة الثلاثية حذر من مخاطر السد على كل من مصر والسودان .. وللمفارقة فإن السودان أعلن فى البداية رفضه إنشاء السد، ثم تراجع عن معارضته فجأة لدرجة أن وزير الإعلام السودانى قال: «ما أثير حول سد النهضة زوبعة تفتقد النظرة الثاقبة الواعية ... وسد النهضة فيه فوائد للسودان» .. ثم أعلنت الخرطوم أنها على الحياد وتلعب دور الوسيط فى المفاوضات بين مصر وإثيوبيا، وهى المفاوضات التى فشلت على مدار 5 جولات بداية من نوفمبر 2013 وحتى الخميس الماضى.

وقبل أن أعرض للآثار المتوقعة عن إنشاء سد النهضة على كل من مصر والسودان... فلنلقى نظرة على ما سجلته الأدبيات عن تأثير إنشاء السدود أو إقامة أى مشروعات مائية فى منابع النيل على مصر، ومنها ما قاله البريطانى «سكوت منكريف»: «من يستولى على أعالى النيل يملك زمام مصر.. فدولة متمدينة فى أعالى النيل يمكنها أن تبنى قناطر عبر مخرج بحيرة فيكتوريا وتسيطر عليها كما تسيطر «مانشستر» على «ثرلمير» وسوف تكون العملية سهلة... ولو تمت مرة فإن إمداد النيل سوف يكون فى أيدى هذه الدولة المتمدينة... وإذا نشبت حرب بينها وبين مصر المسكينة تستطيع أن تغرقها بالفيضان أو تقطع عنها المياه عندما تشاء».

مصر والسودان .. بعد سد النهضة

الوضع فى مصر والسودان سيتم حسابه على أساس قبل وبعد تشغيل سد النهضة وذلك نظراً للتأثيرات السلبية المتوقعة بعد تشغيل السد الإثيوبى على كل من مصر والسودان، فأفضل السيناريوهات فيما يتعلق بالسدود الإثيوبية خاصة سد النهضة وبما فيها تقرير اللجنة الثلاثية لدراسة آثاره، تؤكد أن مصر والسودان ستتأثران سلباً بعد إنشاء هذه السدود.. ويمكن إجمال هذه الآثار السلبية فى النقاط التالية :

1- السعة التخزينية لسد النهضة تبلغ نحو 74 مليار متر مكعب سنوياً من مياه النيل، بالتالى فإن تخزين هذه الكمية من المياه فى بحيرة السد الإثيويى ستؤثر وبعنف فى حصة مصر المائية، حيث ستقل هذه الحصة وكذلك حصة السودان، بالتالى ستنخفض كميات الكهرباء المنتجة فى السد العالى والتى يتوقع البعض انخفاضها إلى النصف، وسوف تزداد حدة هذه الآثار السلبية خلال فترات الجفاف، لدرجه أنه سيخصم من حصة مصر السنوية من مياه النيل والتى تقدر بنحو ٥٥٫٥ مليار متر مكعب سنوياً نحو ١٤٫٥ مليار متر مكعب .

2- خفض الحصة المائية المصرية سيؤدى إلى بوار مساحات كبيرة من الأراضى الزراعية فى مصر ويقدرها البعض بنحو 5 ملايين فدان من جملة الأراضى الزراعية فى مصر والتى تبلغ نحو 9.2 مليون فدان، بالتالى حدوث أزمات غذائية وتشريد ملايين الأسر، وزيادة التلوث فى المسطحات المائية وكذلك ستحدث مشكلات فى مياه الشرب والصناعة، وسيتأثر النقل النهرى سلباً وكذلك المزارع السمكية ... وهذا السيناريو مرشح للتطبيق فى السودان أيضاً.

3- انهيار سد النهضة – وهو أمر متوقع – سيؤدى إلى حدوث كوارث فى مصر والسودان ومنها: غرق العديد من المدن والقرى وبالتالى تصبح حياة الملايين فى خطر، لدرجة أن هناك سيناريوهات تتوقع أن انهيار سد النهضة كفيل بمحو العاصمة السودانية «الخرطوم» من الوجود، بل وكل مدن صعيد مصر، لدرجة وصول آثار انهياره إلى الإسكندرية.

سد النهضة .. والقانون الدولى

فى عام 1997 صدَّقت منظمة الأمم المتحدة على اتفاقية «استخدام المجارى المائية الدولية فى الأغراض غير الملاحية»، ودخلت حيز التنفيذ منذ هذا التاريخ، وبتطبيق بعض بنود هذه الاتفاقية على عملية «إنشاء سد النهضة الإثيوبى»، نجد أن إثيوبيا تخالف هذه الاتفاقية وبالتالى القانون الدولى، فنصت المادة الخامسة من الاتفاقية على أن تنتفع دول المجرى المائى – وهو فى هذه الحالة نهر النيل - كل فى إقليمها بالمجرى المائى الدولى بطريقة منصفة ومعقولة وبصورة خاصة تستخدم هذه الدول المجرى المائى الدولى وتنميه بغية الانتفاع به بصورة مثلى ومستدامة والحصول على فوائد منه مع مراعاة مصالح دول المجرى المائى المعنية، على نحو يتفق مع توفير الحماية الكافية للمجرى المائى.

أما المادة السابعة، فنصت على أن تتخذ دول المجرى المائى عند الانتفاع بمجرى مائى دولى داخل أراضيها كل التدابير المناسبة للحيلولة دون التسبب فى ضرر ذى شأن لدول المجرى المائى الأخرى، متى وقع ضرر ذو شأن لدولة أخرى من دول المجرى المائى تتخذ الدول التى سبَّب استخدامها هذا الضرر فى حالة عدم وجود اتفاق على هذا الاستخدام كل التدابير المناسبة مع المراعاة الواجبة لأحكام المادتين 5، 6 وبالتشاور مع الدولة المتضررة من أجل إزالة أو تخفيف هذا الضرر والقيام حسب الملائم بمناقشة مسألة التعويض .

ولو طبقنا هاتين المادتين على وضع سد النهضة لوجدنا أن إثيوبيا ببنائها هذا السد تمنع كميات كبيرة من مياه النيل من الوصول إلى مصر والسودان عن طريق استخدام غير منصف لمياه النيل، وبذلك لم تتخذ الإجراءات المناسبة لمنع وقوع أى أضرار على مصر والسودان، فضلاً عن أنها خالفت نص المادة الثانية عشرة من نفس الاتفاقية والتى تنص على «الإخطار المسبق» بمعنى أنه إذا كانت دولة ما تخطط لمشروع ما، أو لاتخاذ تدابير أخرى قد يكون لها تأثير ضار ذو شأن على دولة أخرى أو دول أخرى تتشاطر معها فى مجرى مائى دولى، فعلى هذه الدولة التى تخطط لاتخاذ التدابير على أرضها أن ترسل وبوقت كاف إخطاراً إلى الدول الأخرى بهذه الخطط، حيث إن إثيوبيا لم تخطر مصر والسودان منذ البداية بعزمها إنشاء سد النهضة حتى بعد أن بدأت فى إنشائه، وتم تشكيل لجنة ثلاثية من مصر والسودان وإثيوبيا وبمشاركة 4 خبراء دوليين لبحث تأثيراته على مصر والسودان، فإن إثيوبيا لم تمد هذه اللجنة بمعلومات كافية عن السد، وقامت بتحويل مجرى النيل الأزرق قبل أن تنتهى اللجنة من كتابة تقريرها.

بالإضافة إلى ذلك، فإن بناء السد الإثيوبى يتناقض مع الاتفاقيات التاريخية المنظمة لمياه النيل والتى حددت لمصر حصتها من مياه النيل وتلزم دول المنابع بالحصول على موافقتها – أى مصر- عند قيامها بإنشاء أى مشروعات مائية على نهر النيل.

خاتمة

الخلاصة أن سد «النهضة» الإثيوبى يمثل كارثة حقيقية على كل من مصر والسودان، لأنه سيمنع التدفق الطبيعى لمياه النيل و سيخفض من حصتى الدولتين من مياه النيل، فضلاً عن أن بناء هذا السد يأتى فى إطار رفض دول المنابع للاتفاقيات التاريخية لمياه النيل، وكذلك تكمن خطورته فى كونه جزءاً من مخطط إثيوبى يستهدف إنشاء ثلاثة سدود أخرى على مجرى النيل الأزرق، الرافد الأساسى لمياه النيل التى تأتى إلى مصر، بالتالى التحكم فى حصة مصر المائية وإنهاء – أو على الأقل تقزيم – دور السد العالى الذى لعب ومازال دوراً مهماً فى تحقيق الأمن المائى لمصر .

كما أن بدء إثيوبيا فى بناء هذا السد فتح الباب أمام دول منابع النيل الأخرى لتحذو حذو إثيوبيا فى إنشاء سدود جديدة على مجرى النيل دون إخطار أو موافقة مصر أو السودان .

ولكن هل من مخرج؟!.. لن تحل أزمة مياه النيل إلا بدخول دول حوض النيل وباقتناع تام فى منظومة تعاون، وآفاق التعاون بين دول حوض النيل رحبة وتسع الجميع ومنها وقف إهدار المياه فى دول حوض النيل والتى تقدر بنحو 70 مليار متر مكعب سنوياً تذهب دون استفادة بسبب التبخر وفى المستنقعات، ذلك من خلال مشروعات تشترك فيها كل دول الحوض وفى القلب منها مشروع «قناة جونجلى» المعطل الذى لو تم تنفيذه سينتج عنه فى مرحلته الأولى فقط نحو 25 مليون متر مكعب يومياً، لترتفع هذه الكميات فى مرحلته الثانية لتصل إلى نحو 55 مليون متر مكعب، يمكن تقسيمها بالتساوى بين مصر والسودان وجنوب السودان، هذه الكميات للأسف تضيع هباء فى جنوب السودان يومياً بسبب التبخر والمستنقعات.

وفيما يتعلق بأزمة «سد النهضة» فعلى دول حوض النيل الشرقى – مصر والسودان وإثيوبيا – الدخول فى مفاوضات جادة وفق إطار زمنى محدد لا يتجاوز ستة أشهر مع إيقاف إثيوبيا العمل فى بناء السد الذى بلغت نسبة الإنجاز به نحو 30%، وذلك من أجل التوصل إلى صيغة توافقية حول سد النهضة، فإذا فشلت المفاوضات فيمكن لمصر – المتضرر الأكبر من السد – اللجوء لمحكمة العدل الدولية.. فإذا أصدرت المحكمة حكماً فيجب على كل الأطراف احترامه.