رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحلقة الأولى

إلى الرئيس السيسى.. فليكن نيلاً جامعاً


غالباً مايرتبط ملف «سد النهضة الإثيوبى» فى أذهان البعض بوجهتى نظر كليهما على النقيض أولهما تقوم على أن مصر تمارس ضغوطاً دائماً على دول منابع النيل وعلى رأسها إثيوبيا لمنعها من الاستفادة من مياه نهر النيل التى تنبع من أراضيها، لتحتكر هذه المياه التى قال عنها «هيرودت» إنها وهبت لمصر الحياة، وعلى النقيض تأتى وجهة النظر الأخرى التى تتبنى طرحاً مفاده أن إثيوبيا ببنائها سد النهضة «تقتل» المصريين الذى يعد نهر النيل شريان حياتهم.. وبين الطرحين السابقين ضاعت حقائق كثيرة نحاول من خلال هذا المقال أن نعيدها لنصابها الصحيح.. وفى الوقت نفسه اعتبر مقالى هذا بمثابة خطاب موجه إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى لإنقاذ نهر النيل من الضياع تحت شعار «فليكن نيلاً جامعاً».. وكلى يقين أنه لن يخذلنى.. وسينقذ النيل من الضياع كما أنقذ رقابنا من الإخوان.

ولنبدأ بالبداية المعاصرة لأزمة مياه النيل التى يعد سد النهضة من أبرز إفرازاتها، ففى صيف 2009 تصاعدت حدة الخلافات بين مصر والسودان من ناحية ودول منابع النيل من ناحية أخرى وتطورت هذه الخلافات لتصنع أزمة حقيقية بين دولتى المصب مصر والسودان - ودول منابع النيل مازالت تداعياتها مستمرة حتى الآن، من ينظر إلى هذه الأزمة لأول وهلة يعتقد أنها طارئة، لكن فى الواقع فإن أزمة مياه النيل لها جذور تاريخية.

مبدأ نيريرى

وكان استقلال «دول المنابع» عن الدول الاستعمارية. كلمة السر فى أزمة مياه النيل، المحرك الأساسى لرفض هذه الدول الاعتراف بحصتى مصر والسودان من مياه النيل، أعلنت كل من إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا عقب استقلالها عدم اعترافهم بالاتفاقيات المنظمة لتقاسم مياه النيل وخاصة اتفاقيتى 1929 و1959، عللت هذه الدول رفضها لهذه الاتفاقيات التاريخية بأن هذه الاتفاقيات تم توقيعها بين مصر والسودان من ناحية والدول الأوروبية الاستعمارية من ناحية أخرى، نيابة عن دول منابع النيل والتى كانت تقع تحت احتلال الدول الاستعمارية وبالتالى بحسب زعمهم كانت دول المنابع دولًا غير مكتملة السيادة.

وأيدت دول المنابع ما أطلق عليه «مبدأ نيريرى» الذى نسب إلى الرئيس التنزانى الأسبق جوليوس نيريرى والذى أكد فيه «أن الدولة المستقلة عن الاستعمار غير ملزمة بما سبق أن وقعته الدول الاستعمارية قبل الاستقلال من اتفاقيات ومعاهدات».

وعلى الرغم من أن إثيوبيا كانت هى الدولة الوحيدة من دول منابع النيل التى كانت تتمتع بالاستقلال وقت توقيع الاتفاقيات التاريخية لمياه النيل وبالتالى فإن اعترافها بهذه الاتفاقيات وخاصة اتفاقية 1902 كان بمطلق إراداتها حيث إنها دولة مستقلة، إلأ أن إثيوبيا مع بدء مصر فى بناء السدالعالى فى خمسينيات القرن الماضى بالتوافق مع السودان أبدت معارضة لإنشاء السد العالى وبعثت إثيوبيا بمذكرة رسمية إلى الخارجية المصرية فى 23 سبتمبر من عام 1959 احتجاجاً على بناء السد العالى دون التشاور معها وجاء فيها «إن أى دولة نهرية تنوى القيام بإنشاءات كبيرة كتلك التى تقوم بها مصر يتوجب عليها بحكم القانون الدولى أن تخطر مقدماً الدول النهرية الأخرى وتتشاور معها.، ولكن سرعان ماتلاشت المعارضة الإثيوبية للسد العالى المصرى بفعل عامل الوقت، وفى السبعينيات ومع قرار الرئيس الراحل أنور السادات بحفر ترعة السلام والتى كان يرغب فى أن تحمل مياه النيل إلى القدس المحتلة أبدت إثيوبيا معارضتها لهذا المشروع وأعلنت رفضها لنقل المياه خارج حوض نهر النيل، ولكن عامل الوقت أخمد هذه المعارضة.

ولكن كيف كان موقف إثيوبيا من مبدأ نيريرى، على الرغم من أن دول المنابع الاستوائية وتحديداً أوغندا وكينيا وتنزانيا هى التى أعلنت عن هذا المبدأ ورحبت به إلا أن هذا المبدأ رحبت به إثيوبيا بل ووظفته.. ولكن كيف ؟!

رغم رفض دول المنابع للاتفاقيات التاريخية لمياه النيل إلا أنها لم تتحرك لتغييرها لعدة أسباب:

1- ارتباط اتفاقيات تقاسم المياه بالاتفاقيات الحدودية، لذا كان من الصعب نقض هذه الاتفاقيات خاصة مع إصدار منظمة الوحدة الأفريقية قراراً يلزم دولها بالاعتراف بل وبقدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار.

2- دور السياسة المصرية النشطة فى أفريقيا خصوصاً فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، التى لعبت دوراً فى إجهاض أى تحركات من قبل دول المنابع لتغيير واقع الاتفاقيات التاريخية.

3- ضعف خبرة دول المنابع بمجالات المياه والرى.

4- عدم اهتمام بعض دول المنابع بموضوع «إعادة تقاسم مياه النيل» خاصة بوروندى ورواندا والكونغو الديمقراطية لإنشغالها بمشكلاتها الداخلية مع وفرة المياه بها وعدم اعتمادها على مياه النيل.

.. واستمر الوضع على ماهو عليه من رفض دول المنابع للاتفاقيات التاريخية لمياه النيل مع عدم تحركها لتغييرها لأسباب داخلية، لكن مع موجة الجفاف التى ضربت دول منابع النيل فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى عادت نغمة «تقاسم مياه النيل» مرة أخرى.. فماذا حدث؟!

موجة الجفاف الأفريقى.. ومياه النيل:

خلال أواخر الثمانينيات ومع موجة الجفاف الأفريقى، علت فى دول منابع النيل اللهجة التنافسية على المياه، حملت حكومات هذه الدول مصر مسئولية الاستحواذ على كميات كبيرة من مياه النيل، بالتالى حرمان شعوب هذه الدول من مياه النيل، نشر فى تلك الفترة كتاب لباحث إثيوبى يعمل أستاذاً فى جامعة أديس أبابا ويدعى «ونديمينية تيلاهون» تحت عنوان «الأطماع الإمبراطورية لمصر تجاه بحيرة تانا والنيل الأزرق»، نقل الأستاذ الإثيوبى فى كتابه تصريحاً لأحد وزراء الحكومة الإثيوبية آنذاك قال فيه بالنص «مامن أحد عاقل يمكن أن يشكك فى حق إثيوبيا الذى لاينازع فى الاستفادة من مواردها الطبيعية لمصلحة جماهيرها المناضلة.. وتود إثيوبيا الثورية أن توضح بجلاء لا يقبل اللبس أن لها مطلق الحرية وكامل الحق فى استخدام مواردها الطبيعية من أجل تقدم شعبها».

ويذهب المؤلف الإثيوبى إلى أبعد من ذلك موضحاً سبب رفض إثيوبيا للاتفاقيات التاريخية لمياه النيل فيقول «إن اتفاق 1906 هو عبارة عن التزام شخصى من إمبراطور الحبشة السابق ولايعبر عن الحكومة الإثيوبية»، يقول عن الاتفاق البريطانى الإيطالى حول مياه النيل «إنه لايرى مبرراً للاعتراف به؛ لأنه وقع بين قوى استعمارية فى حين كانت إثيوبيا تحت الاحتلال».

وفى كينيا وفى نفس الفترة حمل رئيسها السابق «دانيال أراب موى» مصر والسودان مسئولية فشل خطة حكومته لاستصلاح الأراضى تحت زعم «أن مصر والسودان يستحوذان على كميات مبالغ فيها من المياه».

ومع الوقت خفت اللهجة التنافسية من قبل دول المنابع على مياه النيل.. ولكن إلى حين لتعود هذه اللهجة مرة أخرى مع نهاية تسعينيات القرن الماضى.. والبداية من إثيوبيا.

إثيوبيا.. و«مياه النيل»:

وبعد هدوء نسبى للخلافات حول تقاسم مياه النيل من جانب دول المنابع التى انشغلت بشئونها الداخلية فى مطلع تسعينيات القرن الماضى، عادت الخلافات ونغمة ظلم مصر لدول المنابع ورفض الاتفاقيات التاريخية لمياه النيل على يد إثيوبيا التى اتخذت مكانها فى قيادة دول المنابع للبحث عن مياه النيل، بدأها مندوب إثيوبيا فى المؤتمر السابع لدول حوض النيل والذى عقد فى القاهرة فى مارس من عام 1999 عندما قال» إن تحقيق الأمن الغذائى لبلاده وإنتاج الطاقة الكهرومائية يوجبان إعادة توزيع مياه النيل».

وأضاف المسئول الإثيوبى بقوله «إن الذى يجرى فى حوض النيل حالياً لايمكن استمراره فى المستقبل؛ لأن فيه استخداماً غير متوازن لمياه النيل.. وأن اتفاقيات مياه النيل الحالية يجب أن تلغى لتحل محلها اتفاقية تقوم على مبدأ الاستخدام العادل لموارد نهر النيل».

وفى عام 2003 استمرت لغة رفض الاتفاقيات التاريخية المنظمة لمياه النيل، صدرت حينها تصريحات منسوبة لمسئولين فى دول منابع النيل تطالب بإعادة توزيع الحصص المائية بين دول الحوض وضرورة تسعير المياه، ثم أعلنت إثيوبيا عن بدء دراسات الجدوى الخاصة بإنشاء سد على النيل الأزرق، كما سعت بعض دول المنابع إلى طرح رغبتها فى تغيير واقع توزيع حصص مياه النيل الذى تراه – حسب نظرتها – يعطى كل المكاسب لمصر، على اجتماعات قادة الاتحاد الأفريقى لكنها لم تفلح فى هذا الأمر.

ثم خفت حدة الخلافات بين مصر والسودان من ناحية ودول منابع النيل من ناحية أخرى، بعد دخول دول الحوض فى مفاوضات حول الاتفاقية الإطارية لمياه النيل بهدف صياغة اتفاقيى ترضى جميع الأطراف، بالفعل تم الانتهاء من صياغة أغلب بنود هذه اتفاقية بحلول عام 2009، لكن الخلافات عادت مجدداً فى ربيع عام 2009 مع تمسك دول منابع النيل بتوقيع الاتفاقية الإطارية لمياه النيل دون تضمينها بنود الأمن المائى والإخطار والإجماع، هى البنود التى تمسكت كل من مصر والسودان بإدراجها فى الاتفاقية الجديدة للمحافظة على حقوقهما الطبيعية والتاريخية فى مياه النيل، لأن توقيع مصر والسودان على الاتفاقية الإطارية لمياه النيل دون إقرار هذه البنود الثلاثة يعنى إقرارهما بأن الاتفاقيات التاريخية لمياه النيل أصبحت باطلة ولاغية.. وهو ما سأتناوله تفصيلاً بعد أن نعرض أهم الاتفاقيات التى تنظم مياه النيل، وتستند عليها كل من مصر والسودان كحجج تحفظ حقوقهما فى مياه النيل.

«اتفاقيات مياه النيل»

ينظم وصول مياه النيل إلى كل من مصر والسودان إلى جانب قانون الطبيعة عدة اتفاقيات وهى:

1 - «بروتوكول روما»:

وقد تم توقيع هذا البروتوكول فى روما فى 15 أبريل من عام 1891 بين كل من بريطانيا وإيطاليا، فيه تعهدت إيطاليا وتحديدًا فى مادته الثالثة بـ«عدم إقامة أى منشآت لأغراض الرى على نهر عطبرة يكون من شأنها تعديل تدفق مياهه إلى نهر النيل على نحو محسوس».

2 - «المعاهدة البريطانية الإثيوبية»:

ووقعت هذه المعاهدة بين بريطانيا وإثيوبيا التى كانت تسمى آنذاك بالحبشة فى 15 مايو من عام 1902، فيها تعهد ملك الحبشة لحكومة بريطانيا بـ «أن لا يصدر تعليمات أو يسمح بإصدارها فيما يتعلق بعمل أى شيء على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط يمكن أن يسبب اعتراض سريان مياهها إلى النيل دون الموافقة المسبقة لحكومة بريطانيا وحكومة السودان».

3- «اتفاقية 1929»:

وقد وقعت هذه الاتفاقية بين مصر من ناحية وبريطانيا وكيلًا عن السودان من ناحية أخرى، قد نتجت هذه الاتفاقية عن الأزمة التى نشبت بين مصر وبريطانيا بسبب تأجيل مصر للأخذ بتوصيات لجنة «ماكدونالد» التى رأسها السير مردوخ ماكدونالد ونشر تقريرها فى عام 1920، أوصت هذه اللجنة بإنشاء خزان سنار على النيل الأزرق لتأمين مياه مشروع الجزيرة بالسودان، إنشاء خزان فى جبل الأولياء لتأمين احتياجات مصر من المياه صيفًا.

ولكن بريطانيا استغلت مقتل السردار البريطانى فى عام 1924، أنذرت الحكومة المصرية بأنها ستستخدم ما شاءت من مياه نهر النيل لتزرع ما تريده من الأراضى فى السودان إذا لم تقم الحكومة المصرية بتشكيل لجنة دولية تبت فى مسألة نصيب كل من مصر والسودان من مياه النيل، قد استجابت الحكومة المصرية حينها وقامت بتشكيل لجنة لبحث نصيب كل من مصر والسودان من مياه النيل، تشكلت هذه اللجنة برئاسة المهندس الهولندى «كانتر كرمرز» وبعضوية «عبدالحميد سليمان» ممثلًا لمصر و«ماكجريجور» ممثلًا لبريطانيا.

واعترف تقرير هذه اللجنة بحق السودان فى التوسع الزراعى بشرط ألا يسبب ذلك افتئاتًا على حقوق مصر التاريخية فى مياه النيل، حددت حصة كل من مصر والسودان بناء على احتياجات الأراضى التى كانت تزرع فى البلدين حينها بنحو 48 مليار متر مكعب سنويًا لمصر و4 مليارات متر مكعب سنويًا للسودان.

وأخذ ما انتهت إليه «لجنة كرمرز» فى تقريرها أساسًا للاتفاقية التى وُقعت بين مصر وبريطانيا فى مايو من عام 1929 بل وأصبح هذا التقرير جزءًا من الاتفاقية.

4- «اتفاقية 1959»:

فى 8 نوفمبر من عام 1959 وقَّعت كل من مصر والسودان الاتفاقية الخاصة بانتفاع البلدين بمياه نهر النيل وقد نصت الاتفاقية على عدة بنود أهمها أن ما تستخدمه مصر من مياه نهر النيل حتى توقيع هذه الاتفاقية هو الحق المكتسب لها قبل الحصول على الفوائد التى ستحققها مشروعات ضبط النهر ويقدر حق مصر المكتسب بنحو 48 مليار متر مكعب عند أسوان سنويًا، كما نصت الاتفاقية على أن ما يستخدمه السودان وقت توقيع الاتفاقية هو الحق المكتسب له قبل الحصول على فائدة المشروعات المائية، وقدر حق السودان فى مياه النيل بنحو 4 مليارات متر مكعب سنويًا.

وبموجب هذه الاتفاقية وافق السودان على إنشاء السد العالى فى أسوان كأول حلقة فى مشروعات تخزين المياه على مجرى نهر النيل.

وطبقًا لهذه الاتفاقية وزع صافى الفائدة من المياه الناتج من بناء السد العالى على الدولتين لتصبح حصة مصر السنوية من مياه النيل نحو 55.5 مليار متر مكعب ولتصل حصة السودان السنوية من المياه إلى نحو 18.5 مليار متر مكعب.

الاتفاقيات التاريخية لمياه النيل والقانون الدولى:

استقر الفقه الدولى على إطلاق وصف «النهر الدولى» على الأنهار الممتدة بين إقليمى دولتين أو أكثر، ويعد نهر النيل بحسب الفقه الدولى «نهرًا دوليًا» شأنه فى ذلك شأن نهرى «الراين والدانوب» وغيرهما.

وقد جرت العادة على أن تدخل الدول المشتركة فى أحواض الأنهار فى اتفاقيات تنظم طريقة استغلال الأنهار الدولية، كما أن مبادئ عامة يحددها القانون الدولى يجب مراعاتها عند التعامل مع الاتفاقيات التى تنظم استغلال مياه الأنهار الدولية ومنها بالطبع نهر النيل، ومن أهم هذه المبادئ: مراعاة الحقوق المكتسبة للدول المشتركة فى النهر من حيث كميات المياه التى كانت تحصل عليها كل دولة فى الماضى، ومراعاة التوزيع العادل لمياه النهر ويتم ذلك عن طريق تقدير حاجة كل دولة من دول الحوض على حدة، ومدى اعتمادها على مياهه، كما يجب على الدول المشتركة فى أحواض الأنهار الاعتداد بالقواعد التى اتفقت عليها من قبل الدول المشتركة فى النهر الدولى، كذلك تؤكد هذه المبادئ أن الدولة التى ترغب فى إدخال تعديلات فى طريقة الانتفاع بنهر معين مثل إنشاء مشروع مائى جديد، أو تحويل مجرى النهر أن تدخل فى مفاوضات مع الدول الأخرى المشتركة معها فى النهر الدولى للحصول على موافقتها، فإذا لم يتم الاتفاق بين هذه الدول يتم عرض الأمر على التحكيم الدولى، لتقريب وجهات النظر والوصول إلى حل يرضى جميع الأطراف، فإذا قامت الدولة بمثل هذه المشروعات أو التعديلات دون موافقة الدول الأخرى وبدون عرض النزاع على التحكيم الدولى فإنه يترتب على ذلك مسئولية هذه الدولة عن الأضرار التى تصيب تلك الدول نتيجة هذه الأعمال.

والاتفاقيات والمعاهدات وقواعد القانون الدولى لا تلغى بالتقادم ولا تخضع للانتقائية، كما أن هذه الدول الأوروبية قامت بحكم قواعد القانون الدولى عند احتلالها لدول منابع النيل بتوقيع هذه الاتفاقيات فيما بينها لتنظيم العلاقات فى الدول الواقعة تحت احتلالها.

ومما يؤكد ذلك الحكم الذى أصدرته محكمة العدل الدولية فى عام 2010 بمناسبة النزاع بين الأرجنتين وأوروجواى وكذلك فى النزاع بين المجر وسلوفاكيا، حيث أكدت المحكمة أن المعاهدات ذات الطابع الإقليمى ومنها الاتفاقيات المتعلقة بالأنهار الدولية هى من المعاهدات التى لا يجوز المساس بها نتيجة للتوارث الدولى، أى إنها من المعاهدات الدولية التى ترثها الدولة الخلف المستقلة - عن الدولة السلف المحتلة، ولا يجوز التحلل منها لأى سبب من الأسباب.

ومن الأهمية أن نتناول الوضع المائى فى دول حوض النيل ليساعدنا ذلك فى رسم صورة أكثر وضوحاً لأزمة مياه النيل وفى القلب منها «سد النهضة».

الوضع المائى فى مصر

تعانى مصر الفقر المائى حيث إن مواردها المائية المتاحة محدودة، وتعتمد مصر على أربعة مصادر مائية هى:

1- نهر النيل:

ويعد هذا المصدر المائى هو الأهم بالنسبة لمصر، وتصل نسبة الاعتماد عليه كمصدر لمياه الرى والاستخدامات المنزلية والصناعية إلى مايقرب من 97 %، يمثل هذا المصدر حصة مصر من مياه النيل والتى تقدر بنحو 55,5 مليار متر مكعب سنوياً، هى حصة ثابتة غير قابلة للزيادة، بل هى معرضة الآن للنقصان بسبب الخلافات بين مصر ودول منابع النيل.

2- الأمطار:

تصنف مصر ضمن الدول شحيحة الأمطار، حيث تسقط الأمطار عليها بمعدل سنوى يتراوح فيما بين 50 و250 ملليمتر، ففى الساحل الشمالى الغربى تسقط أمطار يتراوح معدلها السنوى فيما بين 50 و150 ملليمتر، على هذه الأمطار تنشأ زراعة الشعير، تصل المساحات المزروعة على هذه الأمطار إلى 100 ألف فدان فى أفضل الأحوال.

3- مياه الصرف المعالجة:

ويقصد بها مياه الصرف الزراعى والصحى التى تتم معالجتها قبل استخدامها مرة أخرى، تعد مياه الصرف الزراعى المعالجة من أهم مصادر تنمية الموارد المائية فى مصر ويمكن الاعتماد عليها مستقبلاً، مع الوضع فى الاعتبار تحسين نوعيتها من خلال معالجة مياه المصارف الفرعية.

وتقدر كميات مياه الصرف الصحى المعالجة – سواء الزراعى أو الصحى – بنحو 9 مليارات متر مكعب سنوياً.

4- المياه الجوفية:

تكلفة استخراج المياه الجوفية هى الأعلى بين مصادر المياه فى مصر، بصفة عامة ويبلغ حجم المياه الجوفية المستخدمة فى مصر نحو 3 مليارات متر مكعب سنوياً.

مما سبق يتضح لنا أن مصر تعانى «الفقر المائى» وليس أدل على ذلك مما توصلت إليه الدراسات من أن موارد مصر المائية من المتوقع أن تصل بحلول عام 2017 إلى 71٫4 مليار متر مكعب فى حين أن الاحتياجات المائية فى نفس العام ستصل إلى 86٫2 مليار متر مكعب، وبالتالى، فإن هناك فجوة واضحة بين الموارد المائية المتاحة واحتياجات السكان.

كما أن نصيب الفرد من المياه فى مصر أقل من «خط الفقر المائى» – خط الفقر المائى هو 1000 متر مكعب من المياه سنوياً – حيث وصل عام 2010 إلى 700 متر مكعب سنوياً، ومن المتوقع أن ينخفض إلى 350 مترًا مكعبًا سنوياً بحلول عام 2050، فى حين أن دولة من دول منابع النيل مثل إريتريا يبلغ متوسط نصيب الفرد فيها من المياه بها نحو 1136 متر مكعبًا سنوياً.

إذن لدينا «فقر مائى مدقع» يتزامن مع أزمة مع دول منابع النيل حول «اتفاقية عنتيبى» والتى ترفض هذه الدول بمقتضاها حصولنا على حصتنا التاريخية من مياه النيل والتى تقدر بنحو 55,5 مليار متر مكعب سنوياً، ومع إثيوبيا التى قامت بالبدء فى بناء «سد النهضة» التطبيق العملى الأول لاتفاقية عنتيبى.

اجتماع كينشاسا.. وتجدد الأزمة

بعد فترة هدوء بدأت منذ عام 2004، اختفت فيها تصريحات المسئولين بدول منابع النيل التى ترفض «الاتفاقيات التاريخية» لمياه النيل وتحمل مصر مسئولية تردى الأوضاع فى دول منابع النيل، ذلك مع دخول دول حوض النيل فى مفاوضات تستهدف التوصل إلى اتفاقية شاملة ترضى كل دول الحوض وفى نفس الوقت تحفظ حقوق مصر والسودان فى مياه النيل، كان الأمل فى هذه المفاوضات كبيراً.

لكن دول حوض النيل عقدت اجتماعاً استثنائياً فى 22 مايو من عام 2009 فى العاصمة الكونجولية «كينشاسا»، خلال هذا الاجتماع طرحت دول منابع النيل طرحاً مفاده: «أن دول حوض النيل تتفاوض بشأن الاتفاقية الإطارية لمياه النيل منذ عام 2000 وحتى عام 2009.. ولم نتوصل إلى حل بسبب إصرار مصر والسودان على إدراج بنود الأمن المائى والإخطار والإجماع ضمن الاتفاقية الإطارية».. وكان الحل من وجهة نظر دول منابع النيل أن توقع دول حوض النيل بما فيها مصر والسودان على الاتفاقية الإطارية خلال اجتماع كينشاسا على أن يتم تأجيل مناقشة البنود الثلاثة الأخرى إلى وقت لاحق.

وقد كان اقتراح دول المنابع صادماً لمصر والسودان لدرجة جعلت الوفد السودانى يغادر مكان الاجتماع بعد ساعة واحدة من بدايته احتجاجاً على هذا الاقتراح، كما رفض وزير الموارد المائية والرى المصرى حينها الدكتور محمد نصر الدين علام التوقيع على الاتفاقية الإطارية لمياه النيل دون اشتمالها على البنود الثلاثة التى تحفظ حقوق مصر والسودان فى مياه النيل.

وانتهى اجتماع وزراء المياه بدول حوض النيل فى كينشاسا دون أن يتوصل إلى حل يرضى كل دول الحوض، بل إنه أعاد الخلافات لدول المنابع من ناحية ودولتى المصب – مصر والسودان – إلى سابق عهدها.

كان اجتماع وزراء المياه بدول حوض النيل الذى عقد فى الإسكندرية فى صيف عام 2009 وتحديداً فى 25 يوليو من ذلك العام، بمثابة العاصفة التى أسقطت ورقة التوت عن الخلافات بين دول حوض النيل، فالخلافات بين دول الحوض قبل هذا الاجتماع كانت تدور فى غرف الاجتماعات المغلقة، فضلاً عن بعض التصريحات المرتبطة بمناسبة هنا أو هناك، لكن فى هذا الاجتماع كان «التوتر»» هو المسيطر على أجواء الاجتماع، حيث كان كاتب هذه السطور متواجداً هناك بصفة صحفياً يقوم بتغطية الاجتماع لصحيفته وشاهد هذه الأجواء المشحونة ب «التوتر» و«الغضب».

ورغم أن الاجتماع عُقد فى فندق فلسطين بحدائق المنتزه وهى منطقة تشع بهاءً، لكن حتى أشجار المنتزه بدا عليها الحزن متأثرة بخلافات مصر مع دول منابع النيل التى قد تحرمها من نسمات ترعة المحمودية.. وحتى جدران قصر المنتزه السامقة بدت كئيبة فمؤسس الدولة العلوية – محمد على باشا – الذى ينتسب إليها هذا القصر.. كم أنفق للوصول إلى منابع النهر الخالد الذى يربط بين دوله برباط لا ينفصم!!

وفى صالة الاستقبال بفندق فلسطين بالإسكندرية كان يمكن لأى عابر أن يستشف مايحدث فى القاعة التى تضم اجتماع وزراء المياه بدول حوض النيل – والتى تقع على مقربة من صالة الاستقبال- على مدى أربعة أيام هى مدة انعقاد المؤتمر، فأصوات وفود دول حوض النيل فى مناقشاتها – خلافاتها – كانت مرتفعة، حتى فى فترات الاستراحة فى صالة استقبال الفندق كانت «الخلافات هى المسيطرة».. وكأن دول الحوض لايربطها رباط مقدس يدعى «نهر النيل»!!

ودفعت هذه الخلافات كاتب هذه السطور أن يعد تقريراً صحفياً فى إطار متابعته اليومية للمؤتمر تحت عنوان يكشف لك حجم الخلافات بين دول حوض النيل وهو «تصاعد الخلافات بين مصر ودول حوض النيل فى اجتماع وزراء المياه».

ومع تصاعد الخلافات بين دول حوض النيل هددت دول منابع النيل بالإنسحاب من الاجتماع وتوقيع الاتفاقية الإطارية لمياه النيل دون مصر والسودان، هنا حضر رئيس الوزراء المصرى الأسبق الدكتور أحمد نظيف وبصحبته وزراء الزراعة والكهرباء والتعاون الدولى، فى محاولة لامتصاص غضب وزراء مياه دول منابع النيل، حيث اجتمع نظيف حينها مع وزراء مياه دول منابع النيل وتناول معهم الغداء، بعدها اتفق وزراء المياه بدول حوض النيل على منح دول الحوض مهلة مدتها 6 أشهر للتفاوض حول البنود الثلاثة المختلف عليها.

وحاولت مصر خلال هذه المهلة أن تجعل التعاون هو السمة المميزة لعلاقاتها مع دول منابع النيل فقام وزير الزراعة حينها أمين أباظة بزيارة إثيوبيا، حيث أكد من أديس أبابا فى أكتوبر من عام 2009: «علاقاتنا مع إثيوبيا فى تقدم مستمر».. وفى ديسمبر من عام 2009 قام رئيس الوزراء المصرى حينها الدكتور أحمد نظيف بزيارة إثيوبيا بهدف دعم العلاقات بين البلدين، وحثها على عدم التوقيع على الاتفاقية الإطارية لمياه النيل بشكل منفرد.

ولكن هل استجابت دول منابع النيل للتحركات المصرية فى المهلة.. وهل سيكون اجتماع وزراء المياه بدول حوض النيل.. مختلفاً ؟!