رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ربط نهر النيل ب (( الكونغو )) .. هل هو الحل ؟!


لاينكر منصف أهمية نهر النيل بالنسبة لمصر فقد نشأت منذ فجر بين الإنسان المصرى ونهر النيل علاقة تفاعلية حيث ساهم نهر النيل فى قيام الحضارة المصرية على ضفافه كما نقل لمصر تربتها الخصبة ، فالنيل ببساطة هو مصر ومصر هى النيل ، بدون النيل العظيم تتحول مصر إلى صحراء جدباء .

ومع تفاقم أزمة مياه النيل والتى بلغت ذروتها بقيام إثيوبيا بالبدء فى بناء سد النهضة الذى يعد بمثابة التطبيق العملى الأول للإتفاقية الإطارية لمياه النيل والتى تعرف بإسم (( إتفاقية عنتيبى )) والتى وقعت عليها أديس أبابا مع خمس من دول المنابع وهى أوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندى بداية من 14 مايو من عام 2010 ، بدأ البعض فى طرح السيناريوهات البديلة للتعامل مع الأزمة التى تهدد أهم مورد بالنسبة لمصر وسر وجودها وهو نهر النيل ، ومن بين هذه السيناريوهات برز مشروع ربط نهر النيل ب (( نهر الكونغو )) ويقوم على نقل مياه نهر الكونغو الذى يلقى فى كل دقيقة بنحو 3 ملايين متر مكعب من مياهه فى المحيط الأطلنطى دون أدنى إستفادة منها ، وللحق فقد  ملأ هذا المشروع الدنيا وشغل هذا الناس ... ولعل السؤال الذى يطرح نفسه هو : هل مشروع ربط نهر النيل بنهر الكونغو هو الحل لأزمة مياه النيل عموماً .. وأزمة سد النهضة الإثيوبى على وجه الخصوص ؟!

القاصى والدانى يعلم أن  أزمة المياه الحالية بين مصر من ناحية ودول منابع النيل من ناحية آخرى انطلقت شرارتها الأولى  من (( كينشاسا )) عاصمة الكونغو الديمقراطية  فى إجتماع وزراء مياه دول حوض النيل فى مايو 2009 وخلال هذا الاجتماع طالبت دول المنابع كلها بإستثناء إريتريا التى تتمتع بصفة المراقب وتدعم حقوق مصر فى مياه النيل بأن توقع دول الحوض على الاتفاقية الاطارية لمياه النيل التى اطلق عليها فيما بعد (( اتفاقية عنتيبى )) وتأجيل البنود التى تطالب بها مصر والسودان الى وقت لاحق - وهى بنود الامن المائى والاخطار والاجماع وهى البنود التى تحفظ حقوق مصر والسودان فى مياه النيل - ... وقد صدم وفد السودان من مطالب دول المنابع لدرجة انه غادر الكونغو بعد ساعة من بدء الاجتماع ... وظل الوفد المصرى برئاسة وزير الرى الاسبق الدكتور محمد نصر الدين علام حاضرا الاجتماع رغم دهشة دول المنابع .... واعلن  وزير الرى وقتها رفض مصر مطالب دول المنابع ... وتم ترحيل الخلافات الى الاجتماع الذى عقد فى الاسكندرية فى يوليو 2009 ، وفى هذا الاجتماع تصاعدت الخلافات بين دول المنابع من ناحية ومصر من ناحية اخرى وسط رفض دول المنابع ادارج البنود الثلاثة التى تطالب بها مصر والسودان  وفشل الاجتماع فى حل الخلافات ، وتم ترحيلها مرة آخرى الى اجتماع شرم الشيخ فى ابريل 2010 وفى هذا الاجتماع فشلت كل الجهود الساعية لتطويق الخلافات بين دول حوض النيل ،  واصدرت دول المنابع بياناً وكان من بينها الكونغو قالت فيه إنها ستوقع على الاتفاقية الإطارية لمياه النيل  منفردة دون مصر والسودان وهى الإتفاقية التى لاتعترف بحقوق القاهرة والخرطوم فى مياه النيل  ، وقد تم بالفعل  التوقيع عليها فى 14 مايو 2010 فى مدينة عنتيبى الاوغندية حيث وقعت كل من اثيوبيا واوغندا وراوندا وتنزانيا ... ثم تبعتها كينيا بعد اسبوع ... وبوروندى بعد 7 اشهر .. واعلنت الكونغو انها مع دول المنابع وان توقيعها على الاتفاقية مسألة وقت ليس إلا ... وبالتالى فإن الكونغو الديمقراطية إحدى دول منابع النيل والتى تساهم بالجزء الأكبر من مائية نهر الكونغو  كغيرها من دول المنابع لا تعترف بحقوقنا فى مياه النيل فكيف توافق على نقل مياه نهر الكونغو إلى نهر النيل !!

وهناك إعتبار آخر يجعل مشروع ربط النيل بالكونغو (( مستحيلاً )) .. وهو أن القانون الدولى يمنع نقل المياه من حوض نهر دولى إلى حوض نهر آخر ، بالتالى لا يصح قانوناً أن يتم ربط النيل بالكونغو ، فضلاً عن الصعوبات التمويلية  الإجرائية والفنية التى ستواجه هذا المشروع الذى يتطلب رفع المياه إلى مستوى المرتفعات التى تفصل بين حوض نهر النيل وحوض نهر الكونغو وهو مايتطلب مليارات الدولارات .. كما أن من يروجون للمشروع يتحدثون عن نقل نحو 100 مليار متر مكعب من مياه نهر الكونغو إلى نهر النيل .. فى حين أن مجرى لايستوعب هذه الكميات الهائلة من المياه .

.. الخلاصة أن هذا المشروع يعد مشروعاً (( وهمياً )) وبإمتياز ... وهدفه (( دغدغة )) مشاعر المصريين بمشروع يفتقر إلى الواقعية  ، كما أن طرح هذا المشروع غير مفيد بقضيتنا العادلة فى (( مياه النيل )) بل يضر بها ويضربها فى مقتل ، فإلى جانب أنه يلفت الإنتباه عن قضيتنا الأساسية وهى (( مياه النيل )) إلى قضية عبثية لا طائل من ورائها وتدخل فى إطار (( السفسطة النظرية المملة )) ، فإنه يمثل خطورة بالغة على حقوقنا الطبيعية والتاريخية فى مياه النيل ، فإسرائيل تتواجد فى دول منابع النيل وبقوة ونفوذ بالغ فى دول منابع النيل وخاصة فى إثيوبيا والكونغو الديمقراطية ، هنا قد تجد إسرائيل ضالتها فى هذا المشروع الوهمى العبثى المسمى بمشروع (( ربط )) النيل بالكونغو ، فإسرائيل طلبت من مصر مراراً وتكراراً أن تشترى منها 1% من حصتها من مياه النيل ، وكانت مصر تقابل الطلب الإسرائيلى بالرفض وإن كان الرئيس المصرى الراحل محمد أنور السادات قد بدأ فى نهاية حكمه بمد قناة كان مخططاً لها أن تصل إلى القدس حاملة مياه النيل مروراً بصحراء النقب الإسرائيلية ، إعتقاداً منه أن هذا المشروع سينشر السلام فى ربوع المنطقة ، لكن هذا المشروع توقف بعد إغتيال السادات على يد الجماعات المتطرفة عام 1981 ، ولكن الآن فالفرصة مناسبة لإسرائيل فقد تطلب من الكونغو الديمقراطية – حليفتها التقليدية منذ أن كانت تحمل إسم زائير –  أن توافق لمصر على بدء مشروع نهر الكونغو ، وفى الوقت ذاته تطلب إسرائيل من إثيوبيا أن تشترى منها جزء من مياه النيل لنقله عبر الأنابيب عن طريق البحر الأحمر وصولاً إلى إسرائيل ، ونقل مياه النيل عبر البحر الأحمر أيسر من نقلها من الكونغو إلى النيل ، وبالتالى ستنجز إسرائيل مشروعها قبل مشروع ربط الكونغو بالنيل ، وحينها وبكل أريحية ستعمل إسرائيل على وقف مشروع ربط النيل بالكونغو كما حدث من قبل أن ساهمت فى وقف العمل فى قناة (( جونجلى )) بجنوب السودان فى ثمانينيات القرن الماضى ، حينها سنفقد مياه النيل ، ونساهم فى تقنين نقل مياه الأنهار الدولية من حوض إلى آخر بل وتسعير المياه .

ماسبق ليس تهويلاً  بل هو سيناريو متوقع حدوثه ، وعلى صانع القرار المصرى أن يوجه جهوده للحفاظ على حصتنا من مياه النيل من خلال إستخدام  جميع الوسائل ، وطرح مشروعات قابلة للتنفيذ فى إطار المنطق والقانون ومنها مثلاً إستكمال قناة جونجلى ذلك الحلم الذى  يراود كل من فكر فى وقف إهدار مياه النيل فى مستنقعات جنوب السودان أو توفير كميات مياه إضافية لمصر والسودان ، قد بدأ تنفيذه بالفعل فى يونيو من عام 1978 ،لكن سرعان ما توقف العمل به مع نشوب الحرب فى جنوب السودان عام 1984 ،كان مقرراً لهذا المشروع – حال تنفيذه – أن تنقل قناته نحو 25 مليون متر مكعب يومياً فى مرحلته الأولى ، لتصل إلى 55 مليون متر مكعب يومياً فى مرحلتها الثانية تضيع هباءاً بسبب التبخر والمستنقعات كان سيتم تقسيمها بالتساوى بين مصر والسودان ، فضلاً عن أن هذه القناة حال إنشائها كانت ستغير النمط الإقتصادى للمنطقة إلى الأفضل من خلال مجالات الزراعة وصيد الأسماك ، كانت ستتحول إلى مورد مهم يمد سكان المنطقة بإحتياجاتهم من المياه .

وعلى حكومات مصر والسودان وجنوب السودان أن تتفق فيما بينها لإعادة العمل فى مشروع قناة جونجلى الذى ستمتد فوائده لتشمل الدول الثلاث .... وإن كان تواجد إسرائيل فى حوض النيل يعرقل أية مشروعات تستهدف الخير لشعوب المنطقة وخاصة أبناء وادى النيل  ، و كذلك تطهير بحيرة نو من المستنقعات وبما يكفل المحافظة على حصتنا من مياه النيل بل وزيادتها .

وفى النهاية .. أعيد التأكيد على أزمة مياه النيل لن تحل إلا بدخول دول حوض النيل وبإقتناع تام فى منظومة تعاون، وآفاق التعاون بين دول حوض النيل رحبة وتسع الجميع ومنها وقف إهدار المياه فى دول حوض النيل والتى تذهب دون إستفادة بسبب التبخر وفى المستنقعات، ذلك من خلال مشروعات تشترك فيها كل دول الحوض ، وفيما يتعلق بأزمة سد النهضة فعلى دول حوض النيل الشرقى - مصر والسودان وإثيوبيا - الدخول فى مفاوضات جادة وفق إطار زمنى محدد لايتجاوز ستة أشهر مع إيقاف إثيوبيا العمل فى بناء السد وذلك من أجل التوصل إلى صيغة توافقية حول سد النهضة، فإذا فشلت المفاوضات فيمكن لمصر - المتضرر الأكبر من السد - اللجوء لمحكمة العدل الدولية. فإذا أصدرت المحكمة حكماً فيجب على كل الأطراف إحترامه.