رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إلى مَن ينحاز العرب.. فى حرب إيران وإسرائيل؟

على مدى الأسابيع القليلة الماضية، كانت منطقة الشرق الأوسط، وما زالت، تخشى اندلاع مواجهة شاملة بين إيران وإسرائيل.. بل ومنذ الحادى والثلاثين من يوليو الماضى، عندما قالت طهران إن إسرائيل هى من قتلت رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، إسماعيل هنية، على الأراضى الإيرانية، وتعهدت بالرد بقسوة.. إلا أن الحساب المهم، الذى قد يجعل إيران تتوقف قليلًا، هو جيرانها العرب، والجانب الذى ستتخذه هذه الدول فى حالة اندلاع حرب بين إيران وإسرائيل.
كانت الخطوط العريضة للإجابة عن هذا السؤال واضحة بالفعل فى التاسع عشر من أبريل الماضى، عندما هاجمت إيران إسرائيل مباشرة، لأول مرة فى تاريخها، بإطلاق أكثر من ثلاثمائة صاروخ وطائرة بدون طيار، ردًا على هجوم إسرائيلى فى الأول من أبريل على مبنى قنصليتها فى دمشق، والذى اعتُبر مُقدسًا- عند طهران- نظرًا لوضعه الدبلوماسى، ولكنه كان يضم أيضًا مسئولين رفيعى المستوى من فيلق القدس التابع للحرس الثورى الإسلامى، الذين شاركوا فى تنسيق محور المقاومة فى المنطقة.. فى تلك الهجمات، انضم إلى إيران الحوثيون فى اليمن، وحزب الله فى لبنان، والميليشيات الشيعية العراقية، بينما تلقت بعض الدعم من الجيش السورى.. وعلى الجانب الآخر، لم يساعد دفاع إسرائيل حلفاؤها الغربيون فقط- الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا- ولكن أيضًا جارتها العربية الأردن، حيث ورد أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تقاسمتا المعلومات الاستخباراتية حول الهجمات.. باختصار، احتاجت إيران إلى الاعتماد فى الغالب على الجهات الفاعلة غير الحكومية، فى حين ساعدت بعض الدول الكبرى فى الشرق الأوسط إسرائيل.
لكن دعم الدول العربية إسرائيل لم يكن مباشرًا.. فبعد أشهر من هجومها الوحشى على قطاع غزة، والذى أسفر عن مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، أصبح هناك الكثير من الغضب تجاه إسرائيل فى الشارع العربى وفى العواصم العربية.. وكانت الدول العربية التى ساعدت إسرائيل فى أبريل، مترددة فى الإعلان عن دعمها علنًا.. ونفت المملكة العربية السعودية بعض التقارير الإسرائيلية حول تعاونها، فى حين أكدت الأردن أن ذلك كان لحماية مجالها الجوى فحسب.. وكانت الإمارات العربية المتحدة أول دولة تدين الهجوم الإسرائيلى على دمشق، وهو الأمر الذى فعلته أيضًا المملكة العربية السعودية، وجميع الدول الأعضاء الأخرى فى مجلس التعاون الخليجى، باستثناء البحرين، التى لا تربطها علاقات بطهران.. وباختصار، دافعت بعض الدول العربية عن إسرائيل ضد إيران، ولكن ليس من دون تحفظات.
كانت المواجهة التى اندلعت فى أبريل محدودة.. فقد صدَّت إسرائيل وحلفاؤها الهجوم الإيرانى «المُبهرَج»، ولم يتسبب الهجوم إلا فى إصابة خطيرة واحدة، لطفل عربى إسرائيلى.. وكان رد إسرائيل اللاحق، فى التاسع عشر من أبريل، هجومًا رمزيًا بسيطًا فى أصفهان، موطن إحدى المنشآت النووية الإيرانية الرئيسية، والذى بدا وكأنه لم يدمر سوى نظام دفاع جوى بعيد المدى قابل للاستبدال.. وكانت يمكن للنتيجة أن تكون مختلفة تمام الاختلاف، لو اندلع صراع أكثر خطورة بين إيران وإسرائيل.
●●●
فى البداية، لا بد من التأكيد على أن الدول العربية أعطت الأولوية، فى السنوات الأخيرة، لإنهاء الصراعات والنزاعات فيما بينها، للتركيز على إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية، وقد أحرزت تقدمًا ملحوظًا فى هذا الاتجاه.. فى عام 2020، تم إصلاح الخلاف الكبير داخل مجلس التعاون الخليجى، حيث أعادت قطر العلاقات مع الرياض والمنامة.. وهذا بدوره ساعد تركيا- حليفة قطر- على إصلاح العلاقات مع الرياض وأبوظبى.. وخلال نفس العام، أدت اتفاقيات إبراهام إلى اعتراف أربع دول عربية- الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان- لثلاث منها الآن علاقات دبلوماسية وعسكرية مهمة مع إسرائيل.. حتى النظام السورى، تم الترحيب به مرة أخرى فى جامعة الدول العربية، ويتمتع الرئيس بشار الأسد الآن بعلاقات مع الإمارات العربية المتحدة.. كما استأنفت مصر العلاقات مع تركيا، فى وقت سابق من هذا العام، وهى الآن على اتصال منتظم مع إيران، على الرغم من أن البلدين لا يزالان يفتقدان إلى العلاقات الكاملة.. والأهم من ذلك، فى العام الماضى، أعادت إيران والمملكة العربية السعودية العلاقات الدبلوماسية بمساعدة الصين كوسيط، منهية بذلك خلافًا كبيرًا بدأ فى عام 2016، وأدى إلى خفض مستوى العلاقات مع العديد من الدول العربية فى الخليج العربى.. ومنذ ذلك الحين، أعادت إيران علاقاتها مع جميع دول مجلس التعاون الخليجى، باستثناء البحرين، التى أعربت مؤخرًا عن اهتمامها بتجديد العلاقات مع طهران.
باختصار، حاولت الدول العربية تخفيف حدة التوتر فيما بينها، ومع دول أخرى فى المنطقة.. وفى الأشهر القليلة الماضية، ضغطت الدول العربية أيضًا على الولايات المتحدة وإسرائيل، للتوصل إلى وقف لإطلاق النار وتجنب مواجهة أوسع نطاقًا مع إيران.. كانت هذه بوضوح، الرسالة التى أُرسلت فى الرابع من أغسطس الماضى، عندما زار وزير الخارجية الأردنى، أيمن الصفدى، طهران، وهى أعلى زيارة على مستوى عالٍ منذ عشرين عامًا.. قال الصفدى: «نريد أن تعيش منطقتنا فى أمن وسلام واستقرار، ونريد أن ينتهى التصعيد».. وأكد لاحقًا: «لن نكون ساحة معركة لإيران أو إسرائيل».. وأصدرت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودول عربية أخرى دعوات مماثلة لخفض التصعيد.
بالإضافة إلى ذلك، يرتبط الموقف العسكرى للدول العربية ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة.. وهذا مهم، لأن أى حرب بين إيران وإسرائيل ستشمل حتمًا الولايات المتحدة، التى زادت عدد قواتها فى المنطقة إلى أربعين ألفًا، وقدمت التزامات أمنية صارمة لإسرائيل، إذ أرسلت مؤخرًا منظومات صواريخ «ثاد»، لدعم منظومة الدفاع الجوى الإسرائيلى، بما فى ذلك، القوة العددية اللازمة من الجنود والضباط، اللازمين لتشغيل هذه المنظومات.. وتوجد قواعد أمريكية فى جميع الدول الأعضاء الست فى مجلس التعاون الخليجى، بالإضافة إلى العراق وسوريا والأردن وإسرائيل وتركيا وجيبوتى.. وتغطى القيادة المركزية الأمريكية العمليات الأمريكية فى المنطقة، والتى شملت، منذ عام 2021، إسرائيل وكذلك الدول العربية، مما يوفر خلفية للتعاون الإسرائيلى  العربى.. وتربط الصفقات الدبلوماسية والتجارية أيضًا الولايات المتحدة وإسرائيل ارتباطًا وثيقًا بالعديد من جيرانها العرب، بما فى ذلك، الولايات المتحدة والهند والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، والممر الاقتصادى الهندى الشرق الأوسط- أوروبا، الذى يربط الهند وأوروبا عبر المملكة العربية السعودية والإمارات.
إن أى تحرك من جانب إيران أو الميليشيات المتحالفة معها، من الممكن أن يأتى بنتائج عكسية.. فبادئ ذى بدء، لا يؤيد الرأى العام فى هذه البلدان ذات الأغلبية السنية- بما فى ذلك فى كل البلدان العربية، باستثناء العراق والبحرين وربما لبنان- إيران ذات الأغلبية الشيعية بالضرورة.. ولكن هناك عوامل أخرى تلعب دورًا فى هذا السياق.. فى لبنان المضطرب اقتصاديًا، يتمتع حزب الله ببعض الدعم حتى بين السكان غير الشيعة، بسبب موقفه المناهض لإسرائيل.. ويُنظر إليه على أنه يعارض هجمات إسرائيل على أراضى لبنان.. ولكن إذا كان يُنظر إلى الميليشيا على أنها تدفع البلاد إلى حرب لا تستطيع تحملها، فقد تواجه أيضًا رد فعل عنيف.. فى العراق، يتمتع رئيس الوزراء، محمد السودانى، بدعم الأحزاب السياسية والميليشيات المدعومة من طهران، لكنه واصل أيضًا على الأقل بعض محاولات سلفه، مصطفى الكاظمى، لتأكيد السيادة العراقية عن طهران، وتوسيع علاقاتها مع الدول العربية الأخرى، مثل مصر والأردن والمملكة العربية السعودية.
فى أبريل الماضى، بدا السودانى يشبه إلى حد كبير قادة دول مجلس التعاون الخليجى، عندما قال إن المنطقة لا تستطيع «تحمل التوتر» بين إيران وإسرائيل.. وفى الثالث عشر من أغسطس، تحدث مع وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، وأكد على «أهمية منع التصعيد».. حتى سوريا، الحليف العربى الأكثر ثباتًا مع إيران، تفكر فى تعزيز روابطها مع جامعة الدول العربية والإمارات العربية المتحدة.. وهذا هو السبب وراء توقف دمشق عن الاعتراف بالحوثيين وطرد مبعوثيهم الدبلوماسيين العام الماضى.. ويُعد الحوثيون من بين أهم حلفاء إيران، ويمكنهم استخدام موقعهم الاستراتيجى لتعطيل التجارة فى البحر الأحمر، واستئناف الهجمات على السعوديين.. لكنهم يحافظون أيضًا على حوار منتظم مع الرياض، وقد لا يرغبون فى استئناف الحرب اليمنية- السعودية التى كانت خاملة فى الغالب منذ عام 2022. 
باختصار، فى حالة اندلاع حرب أوسع نطاقًا، ستجد إيران نفسها محاطة بدول عربية تستضيف قواعد أمريكية، ولديها العديد من الأسباب لعدم الرغبة فى الصراع.. ومن المرجح أن تكون عواقب مثل هذه الحرب كارثية لجميع الأطراف المعنية.. ومع ذلك، وعلى الرغم من سنوات من بناء محور المقاومة من الميليشيات العربية بصبر، فإن إيران لن تدخل بقوة فى أى صراع، يمكن أن يجر جيرانها العرب نحو الحرب.
●●●
ويبقى لدينا سؤال: بعد رفض دول خليجية السماح لإسرائيل باستخدام مجالها الجوى.. هل تستطيع تل أبيب تنفيذ ضربات ضد إيران؟.
لقد اتخذت ثلاث دول خليجية رئيسية، هى السعودية والإمارات وقطر، موقفًا حازمًا برفض السماح لإسرائيل باستخدام مجالاتها الجوية، لتنفيذ أى ضربات محتملة ضد إيران، بالتزامن مع تحذيرات إيرانية عبر قنوات دبلوماسية، حيث أوضحت طهران أنها سترد بقوة على أى دولة تسمح باستخدام مجالها الجوى لتنفيذ هجمات ضدها.. إضافةً إلى ذلك، انضمت الأردن إلى هذه الدول برفضها أى مشاركة عسكرية فى هذا الصراع، مع التركيز على الحفاظ على أمنها واستقرار المنطقة.. ولم تكتف هذه الدول بالضغط فقط لعدم استخدام أجوائها، بل تحث أيضًا الولايات المتحدة على منع إسرائيل من استهداف حقول النفط، فى ظل تهديدات إيرانية باستهداف منشآت نفطية خليجية، من خلال حلفاء طهران فى حال تصاعد النزاع.
وبحسب تقارير، سعت دول الخليج إلى طمأنة إيران، من خلال تأكيد موقفها الحيادى فى حال اندلاع صراع بينها وبين إسرائيل، محاولة الحفاظ على التوازن الهش فى المنطقة.. فى الوقت الذى تواصلت الجهود الدبلوماسية لاحتواء التصعيد، حيث أجرى الرئيس الأمريكى، جو بايدن، محادثات مع رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، فى مسعى لمنع الرد الإسرائيلى من التحول إلى حرب إقليمية واسعة.. وتعقّد هذه المواقف الخليجية من خطط إسرائيل، حيث تعتمد العمليات العسكرية الإسرائيلية المحتملة ضد إيران بشكل كبير، على استخدام الأجواء الإقليمية القريبة، لتقليل مسافات الطيران وتجنب اكتشاف الهجمات مسبقًا.. ومع هذا الرفض، قد تجد إسرائيل نفسها مضطرة للبحث عن مسارات بديلة، أو التفاوض مع دول أخرى لتأمين طريق آمن لضرب إيران.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.