رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والقرن الإفريقى.. وقمة أسمرة

 

أصعب طريق أسلكه فى حياتى كان من العاصمة الإريترية أسمرة، وحتى شاطئ البحر الأحمر. العاصمة ترتفع عن سطح البحر بـ٢٣٢٥ مترًا. وهناك طريق وحيد يربطها بالبحر الأحمر حيث أهم الموانئ لديهم وهو ميناء مصوع. الطريق ضيق جدًا وغير ممهد تقريبًا. الأسفلت فيه قديم جدًا، وهو غنى بالحفر والمطبات.. معوج بشكل حاد وغريب. تشعر وأنت تسلكه وكأنك قد دخلت مدينة ملاهى عتيقة دون أى عوامل أمان أو تأمين. الطريق بناه الإيطاليون عندما احتلوا هذه المنطقة. ولقد استعمرت إيطاليا فى أوقات مختلفة وأشكال مختلفة منذ عام ١٨٨٥ «ابتداءً من العهد الملكى وانتهاءً بحكم موسولينى الفاشى» ثلاث دول إفريقية فى هذه المنطقة هى إريتريا وإثيوبيا والصومال، إضافة إلى ليبيا فى الشمال الإفريقى. وبقوا هناك ولم يخرجوا من هذه المستعمرات، إلا بهزيمة الفاشية فى الحرب العالمية الثانية. أعود لرحلتى والتى حدثت فى نوفمبر ٢٠١٧، فمع النزول السريع.. وقلة الأكسجين فى الأعلى، تشعر وكأن روحك تُسحب.. مع ارتفاع فى معدل ضربات القلب. لكن رغمًا عن ذلك تسحرك الطبيعة بجمالها وتنوعها. أكثر ما شدنى هو منظر الأعشاب البرية والزهور الخشنة، التى تخنق الطريق أكثر مما هو عليه، وكذلك كثافة أشجار التين الشوكى من حولنا مع تنوع أشكاله واختلاف مذاق طعم ثماره عن الموجود عندنا فى مصر. عند الوصول إلى شواطئ البحر الأحمر تعاين مدينة عتيقة جدًا لم تشهد أى مظاهر للحداثة تقريبًا، لكن تصدمك المعلومات الموثقة حين تكتشف أنه فى هذا المكان نزل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. حين نفذوا نصائح الرسول وهاجروا لأول مرة هروبًا بدينهم من مشركى مكة إلى الحبشة. شاطئ مصوع كان فيه مقر الملك النجاشى، المشهور بعدله وحكمته، حيث أكرم وفادة هؤلاء المهاجرين، وسمح لهم بإقامة أول مسجد خارج المدينة المنورة ومكة. وقبلته كانت فى اتجاه المسجد الأقصى. أطلال المسجد باقية على شاطئ البحر، لكنها فى حاجة لاهتمام وترميم. فى داخله قرأت الفاتحة على أرواح هؤلاء المهاجرين العظماء ومن آواهم هناك.

العاصمة أسمرة هى الأخرى دون منشآت حديثة ولا فنادق عصرية. فقط يوجد فندق أو اثنان حديثان، تديرهما الدولة بشكل مركزى. لا وسائل للترفيه أو التسلية ولا سلع استهلاكية مميزة بالعاصمة. لذلك أشفقت على الوفد الذى رافق الرئيس خلال زيارته المهمة يوم الخميس الماضى. لكن لمصر مكانة خاصة هناك. توجد إنجازات مهمة ونجاحات حققتها الدبلوماسية المصرية والأجهزة السيادية والتنفيذية الأخرى هناك. نمتلك أيضًا تراكمًا للخبرة والكفاءة فى العمل بملفات هذه المنطقة. أشهد بذلك دائمًا. نواجه عراقيل ومعوقات كثيرة، لكن إتمام زيارة الرئيس على هذا النحو وانعقاد القمة الثلاثية التى جمعت إلى الرئيسين السيسى وأسياسى أفورقى، رئيس الصومال حسن شيخ محمود، هو تتويج للعمل المكثف والناجح فى القرن الإفريقى، وهو دلالة فى تقديرى على أن مصر قد غيرت من نمط تعاملها مع الاستفزازات الإثيوبية فى هذه المنطقة الحساسة، وفيما يتعلق بتعطيل وتعقيد المفاوضات لمدة ١٣ عامًا مع دولتى المصب لنهر النيل، مصر والسودان حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، وكذلك تجاهل إثيوبيا بشكل تام مطالب دولتى المصب.

ولقد لمست من خلال حوارات ممتدة مع القادة فى أسمرة حجم الكراهية التى تجمع الشعب والقيادة تجاه أديس أبابا.

هناك آلاف الضحايا بين قتيل وجريح سقطوا فى أنحاء إريتريا خلال حرب التحرير القاسية عن إثيوبيا، والتى بدأت عام ١٩٦١ وانتهت بالاستقلال بعد ثلاثين عامًا، أى فى ١٩٩١.

إثيوبيا، صورتها الذهنية فى ذهن العامة هناك، تعادل صورة إسرائيل عندنا فى مصر.

لذلك كنت على ثقة من أن التقارب والتحالف بين إثيوبيا وإريتريا، والذى ظهر خلال مواجهة إثيوبيا مع جبهة تيجراى، كان عمره قصيرًا جدًا ولغاية محددة.. وسينتهى سريعًا. أسمرة عادت لرشدها وأدركت طبيعة الأطماع الإثيوبية القديمة والحديثة فى هذه المنطقة، وخاصة ما يتعلق برغبتها فى الوصول للبحر الأحمر عبر منفذ قد يتبع إريتريا أو الصومال. أتوقع خطوات جديدة تدعم هذا النهج المصرى الجديد، مع البحث عن مشروعات عملاقة تجمع كل دول المنطقة وتحقق الفائدة للجميع.

ولقد قرأت مؤخرًا عن دراسات مشروع «VICMED»، الذى يهدف للربط بين بحيرة فيكتوريا، والبحر المتوسط، وهو مشروع عملاق وواعد ويستحق التشجيع والدعم.. ويحتاج لمقال مستقل.