رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دبلوماسية القاهرة تُحبط مخططات حميدتى وأبى أحمد

بظهور مرتبك، وبلغة المهزوم، ظهر قائد ميليشيا الدعم السريع فى السودان، محمد حمدان دقلو «حميدتى»، خلال ظهوره بمقطع فيديو الأربعاء الماضى، اتهم فيه مصر بالمشاركة فى الضربات الجوية على قواته فى منطقة جبل موية وسط السودان.. وأثارت كلمة حميدتى، التى امتدت إلى نحو أربعين دقيقة، الجدل بين رواد العالم الافتراضى فى فضاء وادى النيل، السودان ومصر.. فبدأ بعض الناشطين كتابة الملاحظات على خطابه، وكيف ظهر فيه.. إذ قال أحدهم، إن قائد الدعم السريع ظهر مرتبكًا بشكل كبير.. وأشار آخرون إلى أنه خارج الخرطوم فى إحدى الدول التى تدعمه، واستدلوا على ذلك بتورطه بكلمة «أحييكم من هنا)».. ولاحظ ناشطون أن مفردات خطابه توحى بالشعور بالهزيمة، وكذلك عدم مساندته من داعميه فى الإقليم، وأن الكلمة مُتخبطة وتعرضت للمونتاج أكثر من مرة.. بينما لفت البعض الانتباه إلى أن معلوماته عن الطيران المصرى مرتبكة، خصوصًا فيما يتعلق باستخدام مقاتلات سوخوى.

كتب وزير المالية وزعيم حركة العدل والمساواة السودنى، جبريل إبراهيم، معلقًا بالقول، «قد لا يدرى قائد الميليشيا دقلو، أنه بخطابه الحزين قد نعى عمليًا من حيث يدرى أو لا يدرى مغامرته لحكم السودان، وأعلن عن هزيمة أوغاده، وتبرأ من جرائمهم النكراء، التى أفقدته كل شىء، ولكن بعد أن تلبسته من قمة رأسه إلى أخمص قدميه».. ورأى البعض أن اتهامات قائد ميليشيا الدعم السريع لمصر، دليل على حالة الإفلاس التى تعيشها الميليشيا، التى ارتكبت جرائم كبرى فى حق أهل السودان، واستعانته بالمرتزقة من خارج البلاد، والهدف هو تفتيت السودان.. واعتبر سودانيون أن حميدتى ألقى أسوأ خطاب له منذ بدء الحرب، مضيفًا هزائم سياسية إلى خسائره العسكرية الأخيرة، كما أنه أقر بانتهاكات قواته بصورة غير مباشرة، وهاجم الاتفاق الإطارى، محملًا إياه مسئولية الحرب، فى توافق مع موقف الجيش.. كما لفت انتباه بعض المغردين، أن قائد قوات الدعم السريع أغلق خاصية التعليق على مقطع الفيديو، الذى نشره عبر حسابه على منصة إكس.

وفى كل الأحوال، فجَّر خطاب حميدتى بشأن الأوضاع السياسية والعسكرية، جدلًا فى المشهد السودانى، وغضبًا مصريًا لاتهامه القاهرة بقصف قواته، ودعم الجيش السودانى بالمقاتلات، فى حين يعتقد محللون أن الخطاب عكس إحباطه من التراجع العسكرى والمواقف الخارجية المناهضة له.. ومن قلب السودان، يرى المحلل ورئيس تحرير صحيفة «التيار»، عثمان ميرغنى، أن خطاب حميدتى أُعد على عجل، ويبدو أنه جاء رد فعل لموقف ما، قد يكون متعلقًا بمستقبله السياسى.. وعدَّ عثمان الخطاب، إعلان فشل للمشروع السياسى الذى اندلعت بسببه الحرب، وحمَّل المسئولية لقوى الحرية والتغيير، بما يعنى فك الارتباط السياسى مع تحالف «تقدم»، كما أن الخطاب يُعد عمليًا، إعلان هزيمة عسكرية فى الميدان، رغم الهجوم بمليون مقاتل الذى توَّعد به، ويكشف أيضًا عن انحسار القوى البشرية والإمداد التسليحى، وربما المالى أيضًا وفقًا لعثمان.. وما هجوم حميدتى على بعض الدول، إلا نتيجة لصدمة الأزمة التى يواجهها، حيث يعانى ارتباكًا وانهيارًا، وأن الاتفاق الإطارى كان ذريعة لانقلابه الفاشل، الذى أدى لإشعال الحرب، وأصبح «وصمة» يهرب منها.

قد يكون قائد الدعم السريع تلقى رسائل مؤثرة من الخارج ومن داعميه، بأن «اللعبة انتهت»، وللولايات المتحدة ومصر دور مهم فى هذا الجانب، كما يقول الباحث والمحلل السياسى، خالد سعد.. لذا، فإن التفاوض قادم لإنهاء الحرب، وفق خارطة طريق تنتهى بتعزيز قيادة الجيش الوطنى للعملية السياسية فى البلاد، لسنوات تزيد وتنقص، حسب مستجدات البيئة السياسية، وقدرة القيادة على إدارة المرحلة التى تلى وقف إطلاق النار، وإعادة هندسة المشهدين الأمنى والسياسى، وهما عنصران يتقاطعان، ولا يقل أحدهما أهمية عن الآخر.. وهذه المسألة لن تتم دون مقاومة، وتتطلب الخطوة المدعومة أمريكيًا، أن يحقق الجيش انتصارات معتبرة وسريعة فى الميدان الحربى، لاستعادة رمزيته التى تعرضت لهزات مؤثرة فى مشروعيته الوطنية والمهنية، وبالتالى توسيع حاضنته الاجتماعية والسياسية للمرحلة التى تلى الاتفاق.. ويرى الباحث خالد سعد، أن الجيش يحتاج إلى رديف سياسى من القوى التى أسهمت فى الإطاحة بالنظام السابق أو التى كانت رديفًا له، وتجرى جهود موازية لتوحيد هذه القوى فى هذا الصدد، عبر القاهرة، بعيدًا عن أى تفاهم سابق مع الدعم السريع، مثل «إعلان أديس أبابا» الموقع بين تنسيقية تحالف «تقدم» والدعم السريع.

غير أن الكاتب والمحلل السياسى، محمد لطيف، يعتقد أن خطاب قائد الدعم السريع هو الأخطر منذ بداية الحرب، وعدَّه «حالة طوارئ» و«إعلان حرب»، حيث لم يشر للمفاوضات أو السلام وإنهاء الحرب، كما وجه انتقادات مباشرة وغير مباشرة للمجتمع الدولى، بدلًا عن دوره فى السلام.. وفسر الخطة «ب» التى توَّعد بها حميدتى، بأنها تعنى الحرب الأهلية، بعدما اتهم الجيش باستهداف الحواضن الاجتماعية للدعم السريع فى دارفور عبر القصف الجوى، بينما لا يقصف هو قوات الجيش فى مناطق وجودها بمناطق حجر العسل وقرى بولاية نهر النيل فى شمال البلاد، التى يعتبرها مناطق حواضن للجيش!!.. وفى المقابل، رأى الصحفى حافظ كبير، تعليقًا على خطاب حميدتى، أن «المعارك المقبلة مختلفة تمامًا، وفى ظل الموجهات التى صدرت بصورة مباشرة، الرمال الساكنة ستتحرك نحو وجهات جديدة».. وسارع مسئولون فى إقليم دارفور بالتعليق على الخطاب، إذ قال حاكم الإقليم، منى أركو مناوى، إن حميدتى «اعترف أن الاتفاق الإطارى وراء اندلاع الحرب.. وما قاله حذرنا منه ونصحناه هو وقوى الحرية والتغيير قبل أكثر من عامين، لكنهم لم يستبينوا نصحنا.. والآن، بدأت تظهر مفاصل المؤامرة على السودان»، ورأى، أن الحل الوحيد هو الاعتراف بالأخطاء من أجل أبناء السودان.. لكن ذلك لن يحدث، كما وصف خالد عمر يوسف، عضو المكتب القيادى لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، خطاب قائد الدعم السريع بأنه تصعيد خطير فى لغته ضد عدد من القوى الخارجية، فى منحى يُعقد الأزمة ولا ينتج لها حلولًا.

●●●
وقبل استرسالنا فى الحديث عن ردود الأفعال على خطاب حميدتى، وبيانه المكتوب، والتى حرصنا أن نجعلها سودانية خالصة، حتى لا نُتهم بانحيازنا إلى مصريتنا، تعالوا نجيب عن السؤال الأهم: لماذا انفجر غضب حميدتى من مصر فجأة؟

تجنب قائد الدعم السريع العداء المباشر مع مصر طوال الأشهر الماضية، لأنه ذلك ليس من مصلحته، نظرًا لأهميتها وقوتها فى المنطقة، ولذلك فإن الانتقاد الحاد الأخير للقاهرة، يحمل دلالات مهمة، أبرزها غضبه الشديد مما يحدث فى أرض المعركة، خصوصًا اعتقاده بتدخل مصر لصالح الجيش، واستعداده للدخول فى معارك قادمة أكثر شراسة وعنفًا.. ويرى الخبير السياسى السودانى، محمد الصالح، أنه «بجانب التدخل العسكرى، فإن التحالفات الدبلوماسية الجديدة التى تقودها القاهرة مع الدول الإفريقية تثير غضب حميدتى، مع ظهور محور إقليمى جديد يضم مصر وإريتريا والصومال.. ومع نفى القاهرة ضلوعها فى الحرب الدائرة بالسودان، وردها على تصريحات، حميدتى، التى اتهم فيها مصر بالمشاركة فى ضربات جوية على قواته، إلا أن «خطاب حميدتى الأخير حمل تهديدات واضحة ومباشرة، قد تكون لها تبعات خطيرة فى الفترة المقبلة، محليًا وإقليميًا»، ومن المتوقع أن يشهد السودان تصعيدات عسكرية كبيرة من الدعم السريع والجيش، «ورد الفعل العنيف الذى يخطط له حميدتى، يحاول استباقه بقلب الرأى العام المحلى والدولى على الجيش، بإظهاره بمظهر الضعيف والعميل، الذى يستعين بدول أجنبية، مثل مصر»، متناسيًا وجود اتفاقية دفاع مشترك بين القاهرة والخرطوم، سابقة على تفجر الصراع فى السودان.

توقع حميدتى، من خلال التقرب من رئيس الوزراء الإثيوبى، آبى أحمد، ومحاولته التودد إلى رئيس دولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد، أن يتمكن من الانتصار محليًا وكسب القبول الإقليمى والدولى، لكن الأمور لم تسر لصالحه.. كما يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، كريم أبوالمجد، والمتخصص فى الشأن الإفريقى، كان حميدتى يتمنى أن «يُعامل كرجل دولة، وأن يتم الاعتراف به إقليميًا ودوليًا، وأن يتخلص من لقب قائد ميليشيات، لكن هذا لم يحدث، وهو ما أثار غضبه تحديدًا تجاه مصر، بسبب تحركاتها الأخيرة سياسيًا ودبلوماسيًا فى منطقة القرن الإفريقى، التى أثرت بدورها عليه بشكل سلبيى».. بالنسبة للإمارات، فزيارة الشيخ محمد بن زايد رئيس البلاد لمصر وحضوره حفل تخرج دفعة جديدة من الأكاديمية والكليات العسكرية، تهدف لإرسال رسالة، تتمثل فى أن العلاقات بين مصر والإمارات لم تتأثر رغم الاختلافات فى بعض الملفات، ومنها السودان.. وأنه «لحماية مصالحها فى السودان، حاولت الإمارات مساعدة حميدتى بالأسلحة والأموال، لكن يبدو فى الفترة الأخيرة أنها تراجعت عن دعمه، بعد الخسائر التى لحقت بميليشياته، مقابل تعهد مصر والجيش السودانى حماية مصالحها فى السودان، وهو ما أثار غضب حميدتى تجاه القاهرة».
أما بالنسبة لرئيس وزراء إثيوبيا، آبى أحمد، الذى يدعم حميدتى، فيرى أبوالمجد أن «التحركات المصرية الأخيرة فى القرن الإفريقى، تضعه فى موقف حرج، وتزيد عزلته عن الدول المجاورة، كما تبعده عن الاستمرار فى مساندة ودعم حميدتى فى السودان»، بعد التقارب بين آبى أحمد وحميدتى، الذى اتضح فى سبتمبر 2023، عندما توجه حميدتى، فى ثانى جولة إقليمية له منذ اندلاع الحرب بين قواته والجيش السودانى، إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، على رأس وفد يضم عددًا من مساعديه. واستُقبل استقبالًا رسميًا من نائب رئيس الوزراء، دمقى مكونن، وآبى أحمد.. إلا أن التحركات المصرية الأخيرة أثرت سلبًا على آبى أحمد نفسه، «توجه الرئيس السيسى، قبل أيام، لزيارة عاصمة إريتريا، أسمرة، بدعوة خاصة من الرئيس الإريترى، أسياس أفورقى، الذى كان سابقًا من أقرب حلفاء وداعمى آبى أحمد.. واتفق الزعيمان مع الصومال على تعزيز العلاقات العسكرية والاقتصادية فى منطقة القرن الإفريقى، وهذا سيشمل تمكين الجيش الصومالى من التصدى للإرهاب، وحماية حدودها البرية، وطرد القوات الإثيوبية من أرض الصومال».. وبشكل عام، فإن هجوم حميدتى الحاد على مصر يرجع إلى «إحساسه بتخلى حليفيه الأساسيين عنه، الإمارات وإثيوبيا، ودور القاهرة فى ذلك، فضلًا عن تكبده خسائر عسكرية على الأرض».

●●●
لم يكن حميدتى يومًا ديمقراطيًا، ولم يُضبط متلبسًا بالسعى إليها، نظامًا للحكم فى السودان، فبعد أن بنى إمبراطوريته العسكرية الاقتصادية الضخمة، وذاق حلاوة السلطة وبهرجة الكرسى وصوت «السارينا» الذى يتقدم مواكبه والطائرات والحرس والأبهة، كما تقول الكاتبة السودانية، أمل محمد الحسن، لم يكن يريد لكل ذلك أن يمضى وينتهى ويصبح ماضيًا، بل أراد أن يتذاكى ويطأطئ للعاصفة ويلبس عمامة الديمقراطية ويكرر عبارات التغيير، حتى يلتف على الأوضاع ويأتى من باب آخر مترشحًا للرئاسة!!.. وقد كشف حميدتى بنفسه عن تلك النية فيما خرج من فلتات لسانه؛ عندما قال «سأخلع الزى العسكرى وأرتدى الجلباب وآتيكم عبر الانتخابات»!!.. كانت تلك هى خطته بعيدة المدى، التى حاول أن يمدد من أجلها دمج قواته لعقدين من الزمان، ثم فاوض حتى صارت عقدًا، عشر سنوات كاملة، يستغلها فى الصولات والجولات وسط الإدارات الأهلية والأقاليم، مستخدمًا الأموال الهائلة التى بين يديه، ليدفع الرشاوى ويشترى الذمم بالسيارات الفارهة والأموال التى تُحمل على ظهور الشاحنات.

بنى حميدتى لنفسه دولة داخل دولة؛ انتشرت قواته فى جميع المناطق الاستراتيجية، تمددت علاقاته الخارجية لتشمل روسيا والإمارات، وأنشأ لنفسه استثمارات فى عدد من الدول الإفريقية، ووصل به الأمر لكسر الأعراف الدبلوماسية، بالسفر إلى تشاد بعد يوم واحد من زيارة البرهان لها، فى أواخر أيام علاقتهم المتوترة!!.. مشاركته فى الحرب الآن، وارتكاب قواته كل تلك الجرائم، لم تجعله يتراجع خطوة واحدة، وكلما ردد فى خطاباته التى يلقيها من قارة لأخرى، ويقول فيها إنه يوصى قواته بالمواطن «المواطن ثم المواطن..» يموت العشرات وهم يحاولون صد عدوان قواته فى قرى بعيدة، تُسرق فيها كرامة الإنسان قبل أمواله، وتتم فيها الاعتقالات ويغيب القانون ويموت الأمل!

كان يسعى للسلطة وهمه السلطة، ويقاتل الآن من أجل السلطة، يريد أن يحقق حلمه بالجلوس على كرسى، حتى وإن كان مصنوعًا من جماجم أبناء الشعب السودانى!.. لن تجلب الحرب الديمقراطية للسودان، ولن تجلب أى خير، وفى كل يوم تستمر فيه، تموت آمال الشعب، بعد أن مات منهم الزوج والبنت والولد، وشقت على الناس الحياة، وحاصرهم الجوع وتقطعت بهم السبل.. وعليه الآن أن ينزل رايات دعاياته الحربية الكاذبة ويتوقف عن القتال، حتى لا نفقد السودان كما نعرفه، ووقتها، سيهرب كل واحد من تحمل كل تلك الفواجع والدمار الذى حاق بالوطن، لو كانوا يفهمون حقيقةً معنى الوطن!

حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين