رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل تُحوِّل العملية العسكرية الإسرائيلية لبنان إلى «غزة ثانية»؟

العملية العسكرية
العملية العسكرية الإسرائيلية لبنان

خلال الأسابيع الأخيرة، حدثت عدة تغييرات دراماتيكية بين إسرائيل و«حزب الله» اللبنانى، وبدا واضحًا أن سياسة احتواء التصعيد التى اتبعها الطرفان منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قد انتهت.

جاء ذلك بعد عدة تحركات متتالية لإسرائيل، بدأت بعملية تفجير أجهزة الاتصال اللا سلكى لآلاف من ناشطى «حزب الله»، والتى تلتها عملية اغتيال زعيم التنظيم، حسن نصر الله، ثم بدء عملية برية إسرائيلية فى لبنان. ويطرح تغيير قواعد الاشتباك بين الطرفين والتطورات المقلقة سؤالًا مهمًا، هو: هل حقًا ستحقق إسرائيل تهديدها، وتعيد لبنان إلى «العصر الحجرى»، أو تحوله إلى «غزة ثانية»، مثلما هددت بذلك كثيرًا، أم أن العملية الإسرائيلية فى لبنان لها أهداف أخرى تتطلب التزامًا بالخطط والمهام، خلافًا لما حدث فى حرب غزة المستمرة منذ أكثر من عام؟

 

إسرائيل تستهدف إبعاد «حزب الله» عن الحدود لا القضاء عليه مثل «حماس» 

 

بدأت إسرائيل غزوًا عسكريًا للبنان، قالت إنه سيكون «محدودًا»، بعد أيام من حملات القصف المتعددة، التى وصلت إلى قرب العاصمة بيروت.

وأعلن الجيش الإسرائيلى عن أنه حرك فرقة عسكرية يبلغ قوامها نحو عشرة آلاف جندى إلى الحدود اللبنانية، وطلب من المدنيين اللبنانيين فى نحو عشرين قرية فى الجنوب اللبنانى التحرك شمالًا.

وحسب تقارير فى الصحف الإسرائيلية، فإنه، وخلال ٤٨ ساعة من المحادثات رفيعة المستوى بين المسئولين الأمريكيين والإسرائيليين، أكد الإسرائيليون للبيت الأبيض أن الخطة تشمل أهدافًا محددة بدقة، وتركز على تطهير البنية التحتية لـ«حزب الله» بالقرب من الحدود الإسرائيلية، ثم سحب القوات الإسرائيلية، فيما لا تتوقع إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن غزوًا على نطاق حرب لبنان عام ٢٠٠٦.

ورغم تصريحات إسرائيل بأن العملية العسكرية «محدودة ومُكثفة» فإن هناك مخاوف من أن تتضخم المهمة الضيقة التى تضطلع بها إسرائيل إلى شىء أكبر، تمامًا كما حدث بالفعل فى غزة.

ولفهم احتمالات حدوث ذلك، فإنه من الضرورى فهم أهداف إسرائيل من العملية فى لبنان، ومقارنتها بأهداف الحرب على غزة. تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو كشفت عن أن الهدف الإسرائيلى من الحرب فى غزة هو القضاء على حركة حماس، سلطويًا وعسكريًا، وتدمير بنيتها التحتية، لجعلها لا تتمكن من تنفيذ هجوم آخر مثل هجوم ٧ أكتوبر، إلا أن العملية فى لبنان لها أهداف مختلفة تمامًا، فالقيادة الإسرائيلية لا تستهدف القضاء التام على «حزب الله»، بل إن الهدف الواضح للعملية هو إبعاد «قوة الرضوان»، التابعة لـ«حزب الله» عن الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وهى القوة التى تطلق صواريخ على البلدات الإسرائيلية على الحدود اللبنانية، مما أسفر عن نزوح نحو ٨٠ ألف إسرائيلى من بيوتهم. وتقول إسرائيل إنها تريد ضرب البنية التحتية لـ«حزب الله» لجعله غير قادر على صد أى هجوم إسرائيلى على المنشآت النووية الإيرانية، وهو ما يطرح احتمالًا واضحًا حول أن العملية الإسرائيلية ضد «حزب الله»، حال حققت أهدافها، فقد يتبعها هجوم إسرائيلى على المنشآت النووية الإيرانية.

ولا يمكن تجاهل أن إسرائيل تريد عودة الردع، وإرسال رسائل إلى كل اللاعبين فى الشرق الأوسط بأن بإمكانها أن تضرب فى كل مكان وفى وقت واحد، ومن الأفضل ألا يقوم أحد باستفزازها.

 

تدمير لبنان يؤثر على الدعم الأمريكى لـ«نتنياهو» بسبب الانتخابات

 

لا يمكن تجاهل الضوء الأخضر الأمريكى فى العملية الإسرائيلية على لبنان، وهو واضح من خلال تصريحات المسئولين الأمريكيين، إذ لم يعرب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر عن أى معارضة لعملية برية محدودة محتملة فى إفادته مع الصحفيين.

وقال «ميلر» إنه فى حين لا تزال الولايات المتحدة تدعم وقف إطلاق النار، فإن «الضغوط العسكرية يمكن أن تساعد الجهود الدبلوماسية فى بعض الأحيان».

ولكن، أيضًا، لا يمكن تجاهل أن إدارة بايدن لا تزال قلقة من احتمال أن تتحول العملية، التى من المفترض أن تكون محدودة زمنيًا وجغرافيًا، إلى شىء أكبر وأطول أمدًا.

ونظرًا إلى أنه حتى الآن لا توجد لدى الإدارة الأمريكية خطة بديلة، فقد قامت بصوغ سياستها «بسرعة» على خلفية الانتخابات الرئاسية، مع إدراك أن كل خطوة تتخذ يمكن أن تكون لها تداعيات سلبية على إمكان فوز مرشحة الحزب الديمقراطى فى السباق الرئاسى الجارى.

وعلى هذه الخلفية، وفى ضوء الحساب الدامى للولايات المتحدة مع «حزب الله»، فإن الإدارة الأمريكية ليست مهتمة بالضغط على إسرائيل، «وربما غير قادرة على ذلك»، وما دام الجهد العسكرى الإسرائيلى ما زال يتمحور حول ضرب قدرات «حزب الله»، ولم ينزلق إلى تدمير واسع للبنى التحتية اللبنانية وإصابة المدنيين بصورة واسعة، فهى قادرة على استيعاب العملية.

وكما هو واضح، فإن الولايات المتحدة لا تزال تمول حروب إسرائيل، ولكن كما يبدو فإن لديها بعض التخوفات، فقد بلغت تكلفة الحرب فى غزة طوال العام الماضى نحو ٢٥٠ مليار شيكل، أى نحو ٦٧ مليار دولار. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ملتزمة بتقديم مساعدات طارئة لإسرائيل، بقيمة ١٤ مليار دولار، بالإضافة إلى المساعدات العسكرية الاعتيادية، البالغة ٤.٥ مليار دولار، فإنه وفقًا للمعلومات المتاحة لم يتم تحويل سوى جزء بسيط فقط من المساعدات الطارئة لإسرائيل، حتى الآن، وهذا ليس من قبيل الصدفة، فالأمر يمكن فهمه على أنه استياء لدى الإدارة الأمريكية من نزعة المغامرة لدى رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، المتمسك بكرسيه، ومن أجل هذا، فهو مستعد لمواصلة الحرب بلا نهاية، أو على الأقل، إلى أن يكون واثقًا من فرصه فى الفوز فى الانتخابات المقبلة.

وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن للإدارة الأمريكية دورًا مهمًا وحاسمًا، ومن الممكن القول بأن الولايات المتحدة- التى نجحت حتى الآن فى ردع إيران عن التدخل فى القتال- ستحاول استغلال الرغبة الإيرانية فى تجديد الحوار مع الغرب للضغط على طهران، التى على ما يبدو ليست مهتمة بتصعيد إقليمى- وذلك للتأثير فى «حزب الله» ودفعه للموافقة على تسوية سياسية بمعزل عن التسوية فى غزة، لكن ثمة شك فى تحقق هذا فى المدى الزمنى القريب.

 

قدرات التنظيم اللبنانى تسمح بمواصلة القتال فترة طويلة حتى بعد اغتيال قادته

تحركات إسرائيل وأهدافها من الحرب فى لبنان، تجعل من الممكن الحديث فعلًا عن عملية عسكرية «محدودة ومركزة» قد تنتهى فى أسابيع قليلة، مع الأخذ فى الاعتبار الارتباك الذى يعانى منه «حزب الله» عقب اغتيال قادته، لكن هناك أيضًا بعض الاعتبارات التى قد تغير هذه الخطة.

من بين هذه الاعتبارات مسألة أن القضاء على البنية التحتية لـ«حزب الله» أو حتى إضعافها لن تكون مهمة سهلة أمام إسرائيل، فاغتيال «نصر الله» وعدد من القيادات لا يعنى القضاء على زعماء وقادة وعشرات الآلاف من عناصر التنظيم اللبنانى، الذى لا يزال يمتلك ما يكفى من السلاح للاستمرار فى القتال، ما سيسفر عن وقوع ضحايا من المدنيين، وهو ما من شأنه أن يعزز الدوافع لدى تنظيمات أخرى فى المنطقة إلى بدء هجمات على إسرائيل، الأمر الذى يفتح مجددًا سيناريو الحرب الشاملة فى الشرق الأوسط. إسرائيل من جانبها، لا تزال متمسكة بهدفها الأول، وهو إعادة سكان المستوطنات الشمالية، وإبعاد قوات «حزب الله» عن الحدود، وهو ما يعنى عمليًا أن هذه الحملة بإمكانها أن تتوقف إذا نجحت الولايات المتحدة فى أن تدفع نحو معاهدة مع لبنان تضمن تطبيقًا مختلفًا تمامًا لقرارَى مجلس الأمن رقم ١٥٥٩ و١٧٠١؛ بحيث يستند التطبيق هذه المرة إلى منظومات رقابة وإنفاذ فعالة، وإلى إغلاق الحدود السورية اللبنانية، ومنع عمليات تهريب السلاح، كما يضمن نزعًا تامًا للسلاح فى المنطقة الواقعة جنوب خط الليطانى، والتعامل مع هذه المطالب بصفتها مطالب لا تقبل التفاوض أو المهادنة. وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك اتجاهات داخل إسرائيل، خاصة من اليمين، تدفع نحو ضرورة احتلال مساحات من الأراضى داخل لبنان، إلا أن توجه حكومة نتنياهو حاليًا لا يبدو أنه يشمل هذا السيناريو، الذى سيكون له كُلفة كيبرة بشرية ومادية وكذلك سياسية أمام العالم، بينما التوجه الآن فى إسرائيل هو التوغل البرى فى لبنان من أجل إجبار «حزب الله» على الانسحاب إلى ما وراء نهر الليطانى ووقف إطلاق النار فى اتجاه شمال إسرائيل. والخلاصة من كل التطورات الأخيرة أنه إذا لم نشهد مفاجآت كبيرة، كتلك التى تحدث طوال الوقت فى الشرق الأوسط، فإنه من الممكن أن يتم قبول وقف إطلاق النار بين الطرفين، وبذلك تنشأ معادلة جديدة للهدوء، وإلا فإن السيناريو الآخر هو أن يزداد توغل إسرائيل فى العمق اللبنانى، ولحماية القوات الإسرائيلية سيكون من الضرورى القيام بهجمات جوية كثيفة تستهدف البنية التحتية فى لبنان، مما يجعلها عمليًا نموذجًا ثانيًا من غزة، لكنه لا يزال احتمالًا بعيدًا.