تحرك خفى.. خطة إسرائيل الأمنية لإعادة احتلال غزة
رغم المفاوضات والمطالب الدولية، يبدو أن إسرائيل تخطط للبقاء فى قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، مع استمرار سيطرتها فيما يعرف بـ«اليوم التالى»، حتى وإن كانت الخطة الإسرائيلية حيال القطاع فيما بعد الحرب غير واضحة أو تامة، حتى فى أذهان الإسرائيليين.
ويؤكد هذا التوجه الإسرائيلى وضع بعض الشروط فى كل مقترحات وقف إطلاق النار التى قدمت، سواء حاليًا أو سابقًا، وطبيعة المراوغات التى تمت خلال تلك المفاوضات، إلى جانب عدد من المؤشرات على الأرض، وهو ما نكشف عنه فى السطور التالية.
الإصرار على رفض الانسحاب الكامل والمراوغة فى المفاوضات
بعد وقت قصير من بدء الحرب فى السابع من أكتوبر الماضى، قدم ٤ باحثين إسرائيليين وثيقة، من ٣٢ صفحة، إلى مجلس الأمن القومى الإسرائيلى واللجنة الحكومية المسئولة عن إدارة الحرب، بعنوان «من مجتمع قاتل إلى مجتمع معتدل»، تقدم- حسب رأى باحثيها- حلًا للقضية الكبرى وهو: مَن سيحكم غزة فى اليوم التالى للحرب؟
وحينها وصف رئيس مجلس الأمن القومى الإسرائيلى تساحى هنجبى الوثيقة بـ«الرائعة»، وكشف خلال برنامج على قناة «i٢٤NEWS» العبرية تفاصيلها، التى تبنى خطتها على شرط الهزيمة الكاملة لحركة «حماس»، قبل أن تحاول الإجابة عن تساؤل رئيسى، وهو: هل نحن فى الطريق إلى نظام عسكرى إسرائيلى فى غزة؟
وتفترض الوثيقة العبرية افتراضين أساسيين: الأول هو أنه بعد ٧ أكتوبر ثبت أنه لا يمكن لإسرائيل أن تعيش إلى جانب دولة «تسيطر عليها منظمة إرهابية مثل حماس»، أما الافتراض الأساسى الثانى فهو أن غزة يجب أن تظل عربية وفلسطينية.
وقال الباحث دانى أورباخ، أحد مُعدى الوثيقة الأمنية، إن «هذين الافتراضين يؤديان إلى استنتاج، مفاده أن هناك حاجة للتحول فى غزة»، مضيفًا: «لكن من أجل ذلك تحتاج إسرائيل إلى التخلص من حساسيتها تجاه إدارة السكان المدنيين».
وأوضح أنه من أجل إحداث هذا التحول فقد درس الباحثون الأربعة حالات مماثلة فى التاريخ، وهى اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والحكم العسكرى الأمريكى فى العراق بعد حرب الخليج.
وقال إن الحالة الأولى- أى ألمانيا واليابان- تشكل مثالين للنجاح الباهر، وإن الذى أدى إلى التغيير الشامل فى المجتمعات فى هذين البلدين هو «الهزيمة الكاملة لأيديولوجية قاتلة»، وفقًا للباحثين.
وأضاف: «تشمل هذه الهزيمة نزع السلاح وإزالة الآليات السامة للحكم. وبعد ذلك، ووفقًا لدراسة البلدين المذكورين، فقد كانت هناك حاجة إلى إعادة الإعمار، وهو أمر ضرورى لتجديد القبول فى أسرة الأمم وإعادة التأهيل».
وتابع: «يتم ذلك بمساعدة اجتثاث التطرف من الأفكار الأيديولوجية المتشددة، وبناء بنى تحتية سلطوية جديدة، وتدمير رموز النظام القديم، وإجراء محاكمات صورية لمجرمى الحرب، وإيقاف استخدام الكتب القديمة والمتطرفة، وعرض الثقافة اليهودية فى المدارس وغيرها».
واستطرد: «وفقًا للوثيقة، فإنه حتى لو كانت إسرائيل لا ترغب فى حكم غزة وتفضل إقامة حكومة مدنية أخرى فى القطاع، فإن خيار الحكم العسكرى يظل حاضرًا، لوقف دفع الأموال لمن وصفهم بالإرهابيين، مع منع نمو حركة حماس مرة أخرى».
الأوضاع العسكرية والسيطرة على المعابر تكشف نية البقاء لفترة غير محدودة
تعى إسرائيل أن احتلال قطاع غزة والسيطرة عليه سيتطلبان موارد كثيرة وجهدًا، فضلًا عن عوائق تتعلق بالإدارة المدنية للقطاع، بالإضافة إلى أن فكرة احتلال القطاع سترسخ أمام العالم أن إسرئيل هى دولة احتلال، لأن القطاع هو أراض تابعة للفلسطينيين، ومسألة الوجود الإسرائيلى فيه هى انتهاك صارخ للقوانين الدولية.
لكن، رغم تكرار الحديث من قبل قادة إسرائيل وساستها حول عدم وجود نية فى احتلال القطاع لفترة طويلة فيما بعد الحرب، فإن احتلال إسرائيل أجزاء فى القطاع والاحتفاظ بها لفترة غير محدودة لا تزال على طاولة القادة فى تل أبيب.
وتظهر المؤشرات أن الجيش الإسرائيلى يخطط للبقاء لفترة من الوقت داخل القطاع، وأنه لا يزال يرى ضرورة استراتيجية للبقاء فى عدة مناطق وأماكن عمليات متنوعة، وأنه يقوم بتوسيع القواعد ويقيم البنى التحتية ويشق الطرق، رغم استهداف «حماس» قواته.
وحسب صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، فإن التحليلات، التى أُجريت بناءً على صور الأقمار الاصطناعية والمعلومات المعلنة، توضح أن مساحة المناطق التى يسيطر عليها الجيش الإسرائيلى من القطاع تصل إلى نحو ٢٦٪.
وحسب مقال نشرته «هآرتس» للباحثين يردين ميخائيل وآفى شراف، فإن ضابطًا رفيع المستوى أوضح أن احتلال مناطق فى وسط القطاع يشير إلى أن الأمر يتعلق باحتلال متواصل، مع توفير الدعم لمن يؤيدون الاستيطان فى تلك المناطق، وخلق واقع جديد وسيطرة إسرائيلية لفترة طويلة.
وأوضح المقال أنه بعد تسعة أشهر من الحرب، فإن الأماكن الاستراتيجية التى خرج منها الفلسطينيون دخلها الجيش الإسرائيلى، بل وقام بتسويتها لخلق مناطق سيطرة، أو مناطق عازلة على طول الحدود، مع تسوية جميع المبانى فيها تقريبًا، ومنع دخول الفلسطينيين إليها.
وأشار إلى أنه، بالإضافة إلى ذلك، سيطر الجيش على المنطقة المعروفة بمحور «نتساريم»، ومنع الفلسطينيين من الوجود فيها، بل وأقام فى منتصفها ما لا يقل عن ٤ قواعد عسكرية، مع شق طريق لاستخدامه فى فصل شمال القطاع عن جنوبه، والسيطرة على حركة الفلسطينيين، وكنقطة انطلاق للعمليات.
ولفت إلى أنه فى نهاية ممر «نتساريم» يوجد الرصيف البحرى الذى أقامته الولايات المتحدة لإدخال المساعدات لغزة، والذى تحطم وتم تفكيكه مرتين.
الرغبة فى إعادة السيطرة على القطاع بدأت منذ 7 أكتوبر وناقشتها الحكومة والأجهزة الأمنية
بالإضافة إلى الوثيقة التى ناقشتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والمؤشرات العسكرية على الأرض، التى تؤكد كلها نية إسرائيل فى البقاء فى غزة، فإن هناك بعض الثغرات الواضحة فى مفاوضات وقف إطلاق النار، والتى يبدو من خلالها أن إسرائيل تخطط للعودة إلى القطاع حتى فى حال تم قبول الصفقة الأمريكية، التى اشترطت انسحاب إسرائيل منه.
تأتى الثغرات والمراوغات فى المفاوضات فى الوقت الذى نادى فيه كُتاب وساسة من اليمين الإسرائيلى بأن تعلن إسرائيل لحلفائها فى العالم أن كل الخيارات مطروحة بالنسبة إليها، وأنها ستعود للسيطرة على المناطق التى انسحبت منها إذا كان هذا ضروريًا، وأن احتلال غزة من جديد، وحتى الاستيطان الإسرائيلى فيها، هو سيناريو واقعى جدًا فى حال عودة «حماس» للهجوم عليها.
ويؤكد كتّاب إسرائيليون أنه على تل أبيب بعد هجوم ٧ أكتوبر أن ترسخ معادلة جديدة مفادها «إن هناك طريقًا للعودة مرة أخرى إلى الوراء»، وأنه رغم اتفاقية أوسلو وخطة الانفصال أحادى الجانب، فإن «كل شىء يمكن إلغاؤه حسب الأوضاع فى الميدان».
ويرى هؤلاء أنه رغم المفاوضات الجارية، ورغم العديد من المقترحات داخل إسرائيل التى تدفع بقبول الصفقة الأمريكية لتحرير المحتجزين الإسرائيليين داخل قطاع غزة، مقابل «الخروج المؤقت» من القطاع، فإنه من المتوقع أن تنسحب إسرائيل من المفاوضات فى المرحلة الثانية من الصفقة، وأن تعود للسيطرة على قطاع غزة من جديد، بمجرد انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق.