رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرقيب محمود شمندي عن أسره 23 يوما: «فشلوا فى تعذيبنا نفسيًا»

الرقيب محمود شمندى
الرقيب محمود شمندى

بطولات لا تنتهى ما زالت تحفظها ذاكرة أبطال حرب ٦ أكتوبر عام ١٩٧٣، فرغم مرور ٥١ عامًا على هذا الانتصار العظيم، لم ينسَ أبناء النصر لحظةً واحدةً من كفاح الحرب ودموع الاستشهاد ولحظات الأسر، وصولًا إلى فرحة العودة للوطن، ولذة الانتصار وتحرير الأرض. 

من بين هؤلاء النقيب شرف معاش محمود شمندى، أحد أبطال حرب أكتوبر، الذى كان يخدم وقتها برتبة «رقيب أول»، والتقته «الدستور» ليتذكر معنا ما جرى فى هذه الأيام الخالدة، خاصة أن «مخيلته لا تزال تحتفظ بتلك الأيام جميعها كأنها حدثت للتو»، كما أشار لنا.

كنا نشعر بأن الله أمدنا بـ«جنود إضافية» لحظة العبور

قال النقيب محمود شمندى: «كانت خدمتى فى الجيش الثالث الميدانى، وشعرت قبل اندلاع الحرب بيومين بأننا قريبون منها للغاية، وتحديدًا فى يوم ٤ أكتوبر، حين قررت القيادة أن نجمع الأغراض الشخصية الموجودة لدينا كى نعيدها إلى منازلنا، نظرًا لأن هناك حالة طوارئ عالية». 

وأضاف «شمندى»: «قبل الحرب بيومين، سمحوا لى، ضمن مجموعة أخرى من زملائى، بالنزول لإعادة أغراضى الشخصية، وعدة أغراض أخرى تخص زملائى، وعندما كنت فى المنزل حاولت التلميح لأسرتى بشعورى بأننا سنحارب، لأمهد لهم الأوضاع حال قدر الله لى الاستشهاد».

وواصل: «فى تلك الأثناء، وصل لى خطاب داخله عبارة (قدم نفسك للوحدة فورًا)، وقد كان، فودعت أسرتى المكونة من زوجة وثلاثة بنات حينها، أكبرهن كانت تبلغ ٨ سنوات فقط».

وأكمل: «خلال حالة الطوارئ الطويلة التى سبقت حربنا فى أكتوبر، كنا نتدرب بشكل شاق للغاية، ولكن نمارس حياتنا بشكل طبيعى ونأخذ إجازاتنا، لأننا نعلم أن العدو يشاهدنا، فنتجمع ونستمع إلى الأغانى ونتسامر ليلًا». 

وواصل: «كانت هناك حالتان (رفع ١)، وهى حالة الطوارئ التى تدربنا فيها لوقت كبير قبل اندلاع الحرب، و(رفع ٢)، والتى تعنى أننا سنشن حربًا إذا ما أُمرنا بها». 

وعن اللحظات الأولى من عملية العبور، قال «شمندى»: «كنت على ثانى دبابة فيها، وعندما وصلت الدفعة الأولى من القوات إلى الجهة الثانية من قناة السويس، صعد عدد من الجنود إلى ربوة مرتفعة، ووضعوا عليها العلم المصرى ورفعوه لأعلى، وبدا يرفرف فوق أرض سيناء، وذلك المشهد منح لنا قوة إضافية، جعلتنا أكثر عزيمة وثقة بأننا سنتمم عبور القناة وننتصر بتحرير أرضنا». 

وأضاف: «العسكرى الواحد كان يحمل (RPG) وبندقية ورشاشات وذخيرة، وغيرها من الأسلحة، وكنا نقاتل ونركض إليهم رغم معرفتنا بأن هناك ألغامًا مزروعة أمامنا، لكننا شعرنا بأن هناك جنودًا إضافية تحارب معنا ومنحتنا قوة أكبر».

وواصل: «كان الإسرائيليون يجرون أمامنا خوفًا من مصيرهم إذا أمسكنا بهم، ويصرخون (ما تموتنا يا مصرى)، فقد كانوا جبناء للغاية، بينما نحن، مسلمين ومسيحيين، وطوال القتال والحرب كنا نردد بصوت عالٍ (لا إله إلا الله) ونهتف أيضًا (الله أكبر)». 

خبر استشهادى وصل أسرتى لكن زوجتى لم تصدقه.. ورفضت العزاء

كشف النقيب «شمندى» عن أنه بقى داخل سيناء لمدة ١٧ يومًا تلت اندلاع الحرب، وكان إطلاق النار لا يزال مستمرًا، ولم تصل المفاوضات بين إسرائيل ومصر إلى وقفه بعد، بينما فى القاهرة كانت توجد أسرته، زوجته وبناته اللاتى يتابعن الأخبار التى تتوارد من هناك عبر التليفزيون أو جهاز الراديو، وتختلط عليهن مشاعر الفرحة بانتصارات الجيش، والخوف على رب الأسرة، مع الدعاء لتحرير وطنهن وعودته سالمًا إليهن. 

وعن لحظة أسره، قال «شمندى»: «أسرونى من وسط جثامين زملائى، فقد كنا ٥ جنود داخل الخندق، وأطلقوا علينا قنابل من الجهتين، وعلى الفور بدأ إطلاق النار المتبادل بيننا، وفتحوا هم نيران الرشاشات، وشعرت بشىء ما دافئ للغاية يُسكب على جسدى، وسقط أصدقائى علىَّ، فسارعت لأن أنتشلهم كى نكمل القتال لكنى وجدتهم قد استشهدوا، ونزل إلىَّ نحو ١٠ جنود إسرائيليين، وتم أسرى». 

فى الساعات التى أعقبت أسره، وصل الخبر إلى أقاربه، ومنهم شقيقه «جميل» الذى يخدم فى الشرطة العسكرية، عبر أحد العائدين من الحرب، والذى قال لهم إن «شمندى استشهد»، وطلب منهم إبلاغ أسرته الصغيرة بذلك، والتى صُدمت من الخبر، حتى إن زوجته رفضت إقامة أى عزاء، معتمدة على إحساسها بأنه لم يستشهد، وعلى أملها فى أنه سيعود. 

داخل الأسر، ولأكثر من ٣ أسابيع، ظل المقاتل حبيس زنزانته، وطوال هذه المدة كانت أسرته ترفض تصديق فكرة استشهاده، لأنهم لم يكونوا قد أبلغوا رسميًا بذلك، كما كانت زوجته تشعر بأنه حى يرزق، ويتشبث الجميع بالأمل فى عودته القريبة. 

وتابع «شمندى»: «مكثت ٢٣ يومًا فى الأسر داخل إسرائيل، وكنا مجموعة كبيرة، وفى البداية عاملونا بشكل سيئ للغاية وغير آدمى، والزنزانة الواحدة كان يوجد بداخلها ٤ أشخاص، ويحاولون إرهابنا بقتل أصدقائنا الأسرى أمام أعيننا أو دهسهم بالدبابات، وكانوا يحققون معنا كثيرًا، ويسعون إلى هدمنا نفسيًا، بادعاء أن قاداتنا موجودون فى الزنازين المجاورة، ولكننا جميعًا كنا نعلم أسلوبهم جيدًا، فلم نتجاوب معهم أو يصبنا الإحباط». 

وأضاف: «كانوا يتعمدون إضعافنا جسديًا، وكانوا يطعموننا نصف رغيف ومعه بصلة فقط، ويستغلون السليم منا فى أعمال خارج مكان الأسر، مثل الحفر ودفن الجثث وغيرهما، وفى بعض الأوقات كنا نعمل بالقرب من شجر الخروب، فكنا نقطف منه ونأخذه مخبأ فى ملابسنا كى ننقله إلى أصدقائنا الأسرى المصابين، سواء جراء الحرب أو التعذيب داخل الأسر».

وواصل: «كنا نواسى بعضنا البعض، ونتحدث عن أسرنا، وكيف استدعونا للحظة الحرب، ونسترجع ذكريات كثيرة، سواء مع أهلنا، أو خلال الحرب ونجاح العبور لتحرير أرض سيناء، وكيف أن الجنود الإسرائيليين جبناء للغاية، فكان يتجمع عشرة منهم لضرب أو أسر واحد منا فقط، خوفًا من قوتنا التى ظهرت حينها». 

كان الإسرائيليون يقولون لنا «بتضربونا فى عيد الغفران»

واصل «شمندى» تذكر ما حدث معه فى الأسر، قائلًا: «كان الإسرائيليون غاضبين منا بشدة، ويقولون لنا (أنتم بتضربونا فى عيد الغفران!)، وبعضنا يتساءل: ماذا سيفعلون بنا؟، فنرد بأننا لقناهم درسًا قاسيًا، فلماذا نقلق؟».

وأضاف: «كنا نحكى بفخر عما فعلناه أثناء الحرب، لم نكن خائفين، فقد كنا نعتبر أن الأسير هو شقيق الشهيد، ونؤمن بأن حياتنا داخل الأسر قد تنتهى فى أى لحظة، إذا ما قرر العدو ذلك، كما كنا نفكر فى عائلاتنا، ونرى أنه يكفينا أن نتركهم فى وطنٍ آمن لا يشاركهم ترابه أحد، وأننا سنكون أحياءً نرزق عند الله، مثل كل من سبقونا». 

وواصل: «الأسرى شعروا، قبل أيام من تركهم الأسر، بأنه ستكون هناك صفقة تبادل تشملهم، وقبل أيام من عودتنا إلى مصر تغيرت معاملة الإسرائيليين لنا داخل الأسر، وبدأوا يمدوننا بطعام جيد، ويتجنبون تعذيبنا أو معاملتنا بشكل سيئ، ويمدوننا بمفروشات وأطقم ملابس جديدة». 

وأكمل: «أتمت القاهرة وتل أبيب صفقة تبادل أسرى، يوم ١٧ نوفمبر ١٩٧٣، وكنت من ضمنها، وتمت استعادة كل جنودنا من هناك، وفور وصولنا إلى المطار كنا كلنا نسجد لنقبل الأرض، وعندها أول شىء فكرت فيه هو زوجتى وبناتى، حتى إننى التقيت أحد زملاء أخى، الذى يخدم معه فى الشرطة العسكرية، فقطعت ورقة من علبة السجائر الخاصة به وكتبت عليها (أنا عايش الحمد لله ورجعت لمصر من الأسر)، وطلبت منه أن يسلمها إلى شقيقى، الذى سيتعرف على خطى، ويتأكد هو وأسرتى، أننى لم أستشهد». 

وتابع: «بعدها نقلتنا السلطات إلى الحجر الصحى لعدة أيام من أجل الاطمئنان على صحتنا بشكل شامل، والحصول على التطعيمات، وحاول أخى الوصول إلىَّ، حتى نجح فى ذلك، لأنه كان لا يزال غير مصدق لعدم استشهادى». 

وعن عودته إلى منزله، روى البطل: «فور وصولى إلى المنطقة التى أسكن فيها فوجئت بسيل من الزغاريد حولى، فالمنطقة بأكملها، وليس الشارع الذى فيه منزلى فقط، كانت تحتفل بعودتى، والجميع يوزعون الشربات والعصائر والمشروبات احتفالًا بعودتى والانتصار فى الحرب، فلم يكن أحد يصدق أننى سأعود، وكان الجميع، سواء كانوا يعرفوننى أم لا، يحتضنوننى فقط لأنى مقاتل مصرى عائد من الحرب، ويقبلوننى احتفالًا بالنصر والتحرير».

وأضاف: «أطلقوا علىَّ اسم (محمود الجديد)، وأصبح يوم ١٧ نوفمبر عيد ميلاد جديدًا لى، بجانب عيد ٦ أكتوبر، الذى هو عيد مقدس لنا جميعًا، بعد أن حررنا الأرض من العدو الإسرائيلى، الذى كان يرغب فى أن يضع يده على سيناء، لكنها أصبحت (بعيدة عن عنيهم)».