رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسرائيل.. كلب المنطقة المسعور!

الدولة العبرية فشلت فى استعادة ردع محيطها الإقليمى
بداية، لا بد من التأكيد على أن وصف إسرائيل بـ«الكلب المسعور» ليس من عندياتنا، بل إنه الوصف الذى أطلقه عليها وزير دفاعها الأسبق، موشى ديان، منذ سنوات بعيدة.. لكن الواقع الحالى يجعل الوصف مطابقًا لواقع الحال.. فهى أصبحت بالفعل، كالحيوان الذى اعتاد أن يختال قوة فأصبح جريحًا، فهاج وطاشت تصرفاته بعد أن تجاسر عليه الآخرون، ينهالون عليه لنكأ جراحه، وإدماء جسده.. نعم، هكذا تبدو إسرائيل، التى تناوبت عليها هجمات حماس، ومساندات الحوثيين فى اليمن، وحزب الله فى لبنان، وإيران، والحشد الشعبى فى العراق.. بعد أن فقدت قوة ردعها، التى اشتهرت بها فى المنطقة.. قصفت طائراتها مبنى القنصلية الإيرانية فى دمشق، وقتلت أحد قادتها وآخرين، فأرسلت إليها طهران ثلاثمائة وعشرين طائرة مسيرة وصاروخ، حولت سماءها إلى فوضى من النيران.. فرضت حصارًا على غزة، لمدة سبعة عشر عامًا، فانتفضت حماس ضدها فى السابع من أكتوبر الماضى، فقتلت من قتلت، وأسرت العديد من مواطنيها.. اقتحمت القطاع ونكلت بأهله تجويعًا وترويعًا وقتلًا، وأحالت مبانيه إلى ركام، فتصدى مقاتلو حماس لآلياتها، تدميرًا وتعطيبًا، ولجنودها قتلًا وكسرًا.. حتى وصلت إلى حزب الله فى لبنان، ليتبادل الطرفان، قصفًا بقصف، وتدميرًا بتدمير، حتى نالت من العديد من قادته، ووصلت إلى رأسه، حسن نصرالله، الأمين العام للحزب، الذى اغتاله مع عشرين من قياداته فى الضاحية الجنوبية لبيروت.. وفى كل الأمثلة الماضية، كان لإسرائيل التفوق التكنولوجى والنيران الكثيفة، إلا أنها فقدت أهم ما كانت تراهن عليه.. قوة الردع، وصورة القوة التى كانت تبدو عليها، لعشرات السنين مضت.. إلى أن وصلنا للأمس، حيث قامت إيران بالرد على اغتيال رئيس المكتب السياسى لحماس، إسماعيل هنية، فى طهران، وبالتأكيد على اغتيال حسن نصرالله، أمين عام حزب الله، فى الضاحية الجنوبية لبيروت، بإطلاق نحو مائتين وخمسين صاروخًا باليستيًا على إسرائيل، أحالت سماءها إلى جحيم، بالرغم من سابقة تنبيه واشنطن لتل أبيب عن هذا الهجوم، قبلها بساعات.
منذ تأسيس إسرائيل وحتى الآن، لم يسيطر مفهوم على خيال الدولة الاستراتيجى، بقدر ما سيطر عليه مفهوم الردع.. وذات يوم، قال رئيس الوزراء الأسبق، أرييل شارون، إن الردع هو «السلاح الرئيسى» الذى تمتلكه الدولة.. الخوف منا.. وعلق الجنرال الإسرائيلى، موشيه ديان، قائلًا: «يجب أن ننظر إلى إسرائيل باعتبارها كلبًا مسعورًا؛ خطيرًا».. ولهذا السبب، بعد الهجوم على إسرائيل فى السابع من أكتوبر، كان هناك إلحاح وجودى غير مسبوق، لإعادة إرساء قوة الردع فى إسرائيل، والتى كانت تتضاءل باطراد، منذ انسحاب إسرائيل من لبنان فى مايو 2000.. وقال رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، للإسرائيليين بعد هجوم أكتوبر: «ما حدث اليوم لم يسبق له مثيل فى إسرائيل».. وتعهد بأن الجيش سيهاجم حماس بقوة «لم يسبق لها مثيل من قبل».. وبما أن هجوم أكتوبر كان غير مسبوق، فقد تبع ذلك أن رد إسرائيل أيضًا كان لا بد أن يكون على الأقل بنفس القدر من العنف، وهو نوبة من العنف لا مثيل لها، من حيث النطاق والشدة.
ولكن، على هذه القواعد الأساسية، كانت الحرب فاشلة.. فقد فشلت العروض العسكرية غير المسبوقة التى قدمتها إسرائيل فى غزة والجهود المرتبطة بها فى أماكن أخرى من المنطقة فى استعادة الردع الإسرائيلى.. والسبب الأكثر جوهرية وراء هذا الفشل هو أن تحقيق نصر عسكرى كبير، مثل شل حركة حماس بشكل حاسم، ما زال بعيد المنال.. بل إن الهجمات البرية التى تشنها القوات الإسرائيلية جلبت لها إدانات دولية، كما أدت معدلات الخسائر المرتفعة، بشكل مثير للقلق فى صفوف قوات الدفاع الإسرائيلية، إلى تفاقم المخاوف السابقة بشأن ضعف القوات البرية الإسرائيلية.. ولكن كل هذا لم ينقل رسالة قوة إلى أعداء إسرائيل، خاصة حزب الله، كما يؤكد سجاد صفائى، زميل ما بعد الدكتوراه فى معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا الاجتماعية بألمانيا.
منذ بدء الهجوم الإسرائيلى على غزة فى الثامن من أكتوبر الماضى، انخرط حزب الله وإسرائيل فى تصعيد مدروس، لتبادل إطلاق النار على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية.. وعلى الرغم من خسائر حزب الله فى ساحة المعركة، حيث قُتل ما لا يقل عن مائتين وأربعين مقاتلًا، فقد تمكن الحزب من تصوير نفسه على أنه يقف متضامنًا مع الفلسطينيين، مع إبقاء التوترات دون عتبة معينة.. وعلاوة على ذلك، ودون الدخول فى حرب واسعة النطاق، قيد الحزب، حتى الآن، جزءًا كبيرًا من القوات البرية التابعة لجيش الدفاع الإسرائيلى على طول الجبهة الشمالية لإسرائيل.. وبدلًا من الانسحاب شمال نهر الليطانى، تمامًا كما يدعو قرار الأمم المتحدة رقم 1701، دفع حزب الله أكثر من ستين ألف مدنى إسرائيلى إلى الجنوب بعيدًا عن الحدود.. بعبارة أخرى، فرض حزب الله شروط الاشتباك الخاصة به، من خلال إنشاء منطقة عازلة داخل إسرائيل، ما أجبر تل أبيب بشكل أساسى، على القيام داخليًا بما لم يستطع القرار 1701 إجبار حزب الله على القيام به: الانتقال بعيدًا عن جنوب لبنان.
إن هذا يشكل إهانة خطيرة للردع الإسرائيلى، حتى أن اللواء احتياط فى الجيش الإسرائيلى، جيرشون هكوهين، وصف سلوك الجيش الإسرائيلى فى الشمال بأنه «مُحرج».. وقال: «لقد نجح حزب الله فى التحرك هنا، بقتال محدود، مما يُحرج دولة إسرائيل»، مضيفًا أن حزب الله «يربط كل ما سيحدث فى المستقبل بإنهاء الحرب فى قطاع غزة.. فى الواقع، حزب الله هو الذى يقرر حاليًا ما إذا كان سيتوقف».. وفى ظل عدم وجود مسار واقعى للخلاص فى غزة أو لبنان، يبدو أن نتنياهو سعى إلى تصعيد الضغوط على الأصول العسكرية الإيرانية فى سوريا، على الأرجح فى محاولة لوقف تدفق المساعدات العسكرية الإيرانية إلى حزب الله، وإظهار القوة الإسرائيلية، وربما استفزاز رد إيرانى، قد يجر الولايات المتحدة إلى صراع إقليمى أوسع نطاقًا.. لكن قصف إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية فى دمشق وقتل ضباط رفيعى المستوى، يبدو أنه كشف، عن غير قصد، ليس فقط عن حدود الصبر الإيرانى، بل أيضًا عن حدود نطاق إسرائيل العملياتى، وقدرتها العسكرية، وإفلاتها من العقاب، وهى العوامل التى من المرجح أن تكون لها عواقب وخيمة، على تصور إسرائيل للتهديد فى الأمد البعيد.
●●●
وعدت إيران بالرد فورًا تقريبًا بعد الغارة الجوية الإسرائيلية على قنصليتها.. وأوفت بوعدها بعد حوالى اثنى عشر يومًا، بإطلاق وابل من الطائرات دون طيار والصواريخ الباليستية وصواريخ كروز على إسرائيل من داخل الأراضى الإيرانية.. أبقت وتيرة إيران المتعمدة إسرائيل على حافة الهاوية قبل الانتقام النهائى.. كما أعطت إسرائيل وحلفاءها الوقت لإعداد الدفاعات.. وكما لاحظ محلل الدفاع الإسرائيلى، تال إنبار، أنه على الرغم من إنفاق المليارات على مدن الصواريخ تحت الأرض، اختار الإيرانيون إطلاق أكبر هجوم صاروخى باليستى بصواريخ فوق الأرض، ما يجعلها قابلة للاكتشاف، من قبل منصات جمع المعلومات الاستخباراتية المختلفة.
وأشار نطاق الهجوم الإيرانى ووتيرته وتوقيته، والبيانات الرسمية التى صدرت عنه، إلى أنه كان مصممًا ليكون استعراضًا مسرحيًا، إلى حد كبير، للقوة لإثارة الخوف مع تقليل خطر وقوع إصابات.. وقد اخترقت العديد من المقذوفات الإيرانية المجال الجوى الإسرائيلى، ووصلت إلى أقصى مناطق البلاد الجنوبية، بما فى ذلك قاعدة جوية إسرائيلية.. وعلى الرغم من مزاعم إسرائيل الرسمية بأن 99% من المقذوفات الإيرانية تم اعتراضها، فقد تحقق ذلك بمساعدة كبيرة من الجيوش الفرنسية والأردنية والأمريكية والبريطانية.
على النقيض من ذلك، بدا رد إسرائيل على انتقام إيران مخيبًا للآمال للغاية، سواء من حيث الجوهر أو المسرحيات.. وعلى النقيض من إيران، التى أبلغت عن نواياها من خلال قنوات مختلفة، بما فى ذلك الأمم المتحدة، بدا رد إسرائيل على انتقام إيران غير متماسك ويفتقر إلى الوضوح.. ولا تزال طبيعة وأصل الضربة الإسرائيلية غير واضحة، مع عدم وجود بيان من المسئولين الإسرائيليين أو صور أيقونية لنقل تأثيرها.. ولا يوجد أيضًا دليل قاطع على الأسلحة الإسرائيلية المستخدمة، سواء كانت طائرات حربية أو طائرات دون طيار. حتى وزير الأمن القومى الإسرائيلى، إيتمار بن جفير، لم يستطع إلا أن يسخر من الضربة الإسرائيلية الفاترة، واصفًا إياها بأنها «عرجاء».
وعلى الرغم من امتلاك إسرائيل نظام دفاع جوى متطور ومتعدد الطبقات، تكلف مليارات الدولارات لبنائه وصيانته وتجديده، فقد تطلب الأمر جهدًا هائلًا، شاركت فيه قوات إسرائيلية وفرنسية وأردنية وبريطانية وأمريكية إلى جانب مليارات الدولارات من تكاليف الاعتراض لإسقاط وابل الصواريخ الإيرانية.. وكان هذا على الرغم من التحضير المسبق والتقارير التى تفيد بأن نصف صواريخ إيران فشلت، إما عند الإطلاق أو أثناء الطيران.. ومع ذلك، اخترق عدد غير معروف من الصواريخ الإيرانية الجدار الدفاعى السميك لإسرائيل.. ومن عجيب المفارقات، أنه لو لم تستفز حكومة نتنياهو طهران للهجوم باستهداف المجمع القنصلى الإيرانى فى دمشق، ولو لم توضح إدارة بايدن لنتنياهو أن الولايات المتحدة لن تشارك فى حرب شاملة ضد إيران، فربما ظلت نقاط الضعف فى دفاعات إسرائيل مخفية.. وقد يدفع نطاق وحجم هجوم إيران، إلى جانب تواضع رد إسرائيل المخيب للآمال، المخططين العسكريين الإسرائيليين إلى التأمل الاستراتيجى، الذى قد يعيد تشكيل حسابات الأمن فى البلاد لسنوات مقبلة.
لقد كانت العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية، طيلة عقود من الزمان، خاضعة لسيطرة فكرة فريدة من نوعها تتلخص فى الردع، وهو ما أشار إليه شارون بعبارة «خوف المنطقة منا».. ولكن مع ترسيخ صورة الرءوس الحربية الإيرانية وهى تحلق فى سماء إسرائيل فى وعى المنطقة، أصبح الحفاظ على هذا الخوف أكثر صعوبة من أى وقت مضى.. وسوف تتحدد انخراطات إسرائيل وقراراتها التكتيكية فى المستقبل، وفقًا لإدراكها المتواضع لحقيقة مفادها، أن ما تبقى من هالة إسرائيل التى لا تقهر قد اهتزت إلى حد كبير.. إن هذا من شأنه أن يجبر القادة الإسرائيليين على تكثيف جهودهم، لإعادة بناء الردع فى حرب شاملة مع حزب الله، حتى برغم أن احتمالات النجاح ستكون ضئيلة، فى غياب مشاركة أمريكية قوية فى مثل هذه الحرب.. وقد يدفع هذا أيضًا إسرائيل، إما إلى تصعيد العمليات العسكرية فى غزة، وهو ما قد يؤدى إلى تفاقم الانتقادات الدولية وعزلها، أو إلى الدفع نحو تطوير أنظمة دفاع جوى من الجيل التالى، مثل تقنيات الليزر المتطورة.. والأمر الأكثر أملًا، هو أن هذا من شأنه أن يحفز التحرك نحو المزيد من السبل الدبلوماسية، كوسيلة لتأمين السلام والاستقرار الدائمين.. ولكن من الواضح أن مساعى إسرائيل لإعادة ترسيخ أمنها لم تنته بعد.
●●●
كتب المعلق الإسرائيلى، حاييم ليفنسون، فى صحيفة «هآرتس» العبرية: «لن يتمكن أى وزير فى الحكومة من استعادة إحساسنا بالأمن الشخصى.. إن كل تهديد إيرانى سيجعلنا نرتجف.. لقد تعرضت مكانتنا الدولية لضربة موجعة.. وانكشف ضعف قيادتنا للخارج»، فى تعليق على الهجوم الإيرانى على إسرائيل.. «لقد نجحنا لسنوات فى خداعهم وإيهامهم بأننا دولة قوية؛ ولكن الحقيقة أننا مجرد بلدة صغيرة ذات قوة جوية، وهذا بشرط أن تستيقظ فى الوقت المناسب».. وقال زعيم المعارضة، يائير لابيد، يومًا «لقد أصبحت هذه الحكومة ورئيس الوزراء هذا يشكلان تهديدًا وجوديًا لإسرائيل.. لقد حطما قوة الردع الإسرائيلية.. أعداؤنا ينظرون إلى هذه الحكومة ويشمون رائحة الضعف.. عندما يشم الإرهاب حسب تعبيره رائحة الضعف، فإنه يضرب».
كانت سياسة الردع الإسرائيلية هاجسًا يشغل الدوائر السياسية والعسكرية فى تل أبيب منذ أمد بعيد، كما تعتبر ركيزة حيوية لأمنها.. إلى أن كان الهجوم الإيرانى على إسرائيل الذى تصدت له دفاعات إسرائيل الجوية، بمساعدة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلفاء آخرين هو الأول من نوعه من قِبَل دولة أجنبية منذ أكثر من ثلاثة عقود.. ومن بين الدلائل الأخرى على ضعف الردع الهجوم الذى شنته حماس فى السابع من أكتوبر، والصراع مع حزب الله على الحدود الشمالية لإسرائيل، وضربات الحوثيين فى اليمن بصواريخ وطائرات دون طيار، على حيف وتل أبيب.. وفى مقال كتبه فى صحيفة «معاريف» فى أعقاب الضربات الإيرانية، لخص المعلق، بن كاسبيت، مزاج العديد من منتقدى نتنياهو فى الداخل، الذين استشهدوا بتقويض الردع الإسرائيلى، كدليل على عدم ملاءمة رئيس الوزراء لمنصبه، وكتب كاسبيت: «لقد انهار الردع الإسرائيلى الذى منع إيران من مهاجمتنا بشكل مباشر».
لقد فقد الإيرانيون شعورهم بالخوف. لم يعد هناك وكلاء أو عملاء سريون أو هجمات سرية.. من الآن فصاعدًا، أصبحت إيران فى مواجهة إسرائيل، فى العلن.. لقد تحطمت الآن قوة الردع الإسرائيلية، التى كانت تدفع إيران إلى التخلى عن كبريائها فى كل مرة، وتقرر عدم مهاجمة إسرائيل بشكل مباشر.. وفى مقال نشره على مدونة معهد دراسات الأمن القومى، وصف تمير هيمان، رئيس الاستخبارات السابق فى القوات الإسرائيلية، واقعًا استراتيجيًا جديدًا وصعبًا بالنسبة لإسرائيل.. كتب يقول: «لقد فشلت إسرائيل والولايات المتحدة فى ردع إيران عن الهجوم.. لقد نجحت إيران فى إلحاق الأذى بإسرائيل، دون أن تجبر الولايات المتحدة على شن هجوم، ردًا على ذلك، بالتعاون مع إسرائيل.. لقد تحركت إسرائيل للمرة الأولى كجزء من تحالف.. وهذا أمر فعال ومهم، ولكنه يحد من حرية التصرف فى الرد».. وقال مايكل ميلشتاين، من مركز موشى ديان لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا، وهو مركز أبحاث إسرائيلى، إنه فى حين تراجعت قوة الردع الإسرائيلية، فإن الصورة معقدة.. «لقد كان يوم السابع من أكتوبر علامة الاستفهام الدرامية الكبرى، فهو لم يكن اللحظة التى تقوضت فيها قوة الردع الأساسية لإسرائيل فحسب، بل كان من الواضح أيضًا أن حماس على عكس تقييمات الاستخبارات الإسرائيلية لم ترتدع على الإطلاق».
عندما هاجمت إيران إسرائيل، كان الأمر مخططًا له على نطاق واسع، بل تم تحذير الولايات المتحدة والدول المجاورة.. وهنا يتساءل إتش إيه هيلير، الزميل المشارك فى معهد الخدمات الملكية المتحدة، الذى يرى أيضًا صورة معقدة: «لو لم يكن الهجوم مخططًا له بشكل جيد، ولو كان مفاجأة كاملة، فأعتقد أن عدد الصواريخ التى تم إسقاطها كان أقل، وكان عدد الصواريخ الأخرى قد نجحت فى الوصول إلى أهدافها.. وأعتقد أنه فى حين أنه من المؤكد أن القول بأن إسرائيل مدينة بالكامل للولايات المتحدة، وتعتمد عليها هو قول مبتذل، فمن الصحيح أيضًا، أنه لو لم تقف الولايات المتحدة وحلفاؤها الآخرون إلى جانب إسرائيل، لكنا رأينا نتيجة مختلفة.. إن حقيقة أن إسرائيل اضطرت إلى الاعتماد على ائتلاف، تحتوى على رسالة مفادها، أنه لا يمكنك أن تتخيل أن الأمر سيظل دائمًا على هذا النحو.. لا أعتقد أن الناس قد أدركوا هذا الأمر بشكل صحيح من قبل.. فدون الدعم الأمريكى، لن يكون هناك أى سبيل أمام إسرائيل للحفاظ على نموذجها الأمنى».
●●●
تبنى إسرائيل استراتيجيتها الدفاعية على الردع.. ولكى تتجنب خوض الحروب، يتعين عليها أن تظهر قدرتها على القتال، إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك.. ولا بد من إقناع الخصوم المحتملين بعدم اتخاذ أى إجراءات عدوانية، من خلال تحذيرهم من العواقب المترتبة على ذلك.. لقد تطور الإطار المفاهيمى للردع حول الأسلحة النووية.. وهذا نوع خاص من الردع، بسبب الطبيعة المطلقة للأسلحة ومدى صعوبة استخدامها لكسب الحرب، فى ظل التهديد بالانتقام من نفس النوع.. وبوسعنا أن نرى الحذر الذى يفرضه هذا فى العمل فى الحرب الروسية الأوكرانية، فلم يتدخل حلف شمال الأطلسى بشكل مباشر نيابة عن أوكرانيا؛ ولم تهاجم روسيا دول حلف شمال الأطلسى.. كذلك، تمارس إسرائيل الردع النووى أيضًا.. فهى تمتلك ترسانتها الخاصة التى تفضل عدم الحديث عنها.. وهى تهدف إلى ردع الحكومات العربية والآن إيران تعلن عن بدء حروب تهدف إلى تدمير الدولة اليهودية.. وكما هى الحال مع كل أشكال الردع النووى، فإن الردع النووى لا يتطلب إظهار ما يمكن أن تفعله الأسلحة أو الاستعداد لاستخدامها.. كل ما هو مطلوب هو أن تكون الحكومات المعادية المحتملة على دراية بما قد يحدث إذا تصاعدت الحرب بين الدول إلى حد بعيد.
لكن فى حالة الطوارئ الأقل خطورة، بما فى ذلك التهديدات التى تشكلها حركة حماس التى تعمل انطلاقًا من غزة، وحزب الله الذى يعمل انطلاقًا من لبنان، فإن الردع يبدو مختلفًا تمامًا.. فهو لا يقوم على الأسلحة المطلقة ولا يوفر راحة دائمة من الخطر، ولا توجد ضمانة للنجاح.. لذا، فعندما يفشل الردع ولو قليلًا، فلا بد من ترميمه.. فهو أشبه بسياج ينكسر بسهولة، ولكن يمكن إصلاحه بعد ذلك، وليس جدارًا من الطوب الصلب.. وعلى النقيض من الردع النووى، لا يمكن الاعتماد على التهديدات وحدها، بل على الاستعداد للرد بقوة على أى تحدٍ لتوضيح حماقة مهاجمة إسرائيل للخصوم.
إن هذا الردع هو الذى فشل فى السابع من أكتوبر الماضى.. وقد لا يعاد استعادته أبدًا.. كما يرى لورانس فريدمان، الأستاذ الفخرى لدراسات الحرب فى كلية كينجز لندن.. فالعدو الذى لا يمكن إصلاحه إلى الحد الذى يجعله يبحث دائمًا عن سبل للهجوم، مهما كانت شدة الاستجابة المحتملة، يبدو وكأنه لا يمكن ردعه.. وبدلًا من ردع حماس، تريد إسرائيل الآن القضاء عليها كقوة سياسية وعسكرية، ولكن أى تخفيف يمكن تحقيقه من خلال هذا النهج قد يكون مؤقتًا أيضًا.
قبل أن تصبح إسرائيل معتمدة إلى هذا الحد على الردع، كانت تسعى إلى السيطرة على التهديدات بشكل مباشر، من خلال الحفاظ على وجود كبير فى غزة ولبنان.. ولكن تكاليف الحفاظ على هذا الوجود أثبتت أنها باهظة للغاية.. فى حالة لبنان، انخرطت إسرائيل بشكل كامل فى الحرب فى سبعينيات القرن العشرين، بعد أن اتخذت منظمة التحرير الفلسطينية، التى طُردت من الأردن، من لبنان مقرًا لها عام 1970. ولأن لبنان كان يُستخدم لشن الغارات، فقد دخلت إسرائيل أراضيه من حين لآخر، لدفع قواعد حرب العصابات بعيدًا عن حدودها الشمالية.. ثم فى 1982، دخلت بقوة، وتحركت شمالًا حتى حاصرت بيروت.. وكان الهدف هو إخراج منظمة التحرير الفلسطينية «مع بعض النجاح»، وكذلك تنصيب حكومة مستعدة لإحلال السلام مع إسرائيل «وهو ما فشلت فيه تمامًا».. وحزب الله فى شكله الحالى، هو نتيجة دائمة لهذه الأحداث.
فى نهاية المطاف، انسحبت القوات الإسرائيلية إلى شريط من جنوب لبنان، حيث كانت تحرسه ميليشيا مسيحية.. وفى عام 2000، وبعد أن قرر رئيس الوزراء الإسرائيلى، إيهود باراك، أن وجود القوات الإسرائيلية هناك كان يسبب ضررًا أكثر من نفعه، انسحبت من جانب واحد.. وخلص حزب الله إلى أن هذا كان نصرًا عظيمًا، ونتيجة لمضايقاته المستمرة.. وبعد خمسة أعوام، انسحبت إسرائيل من غزة، مرة أخرى من جانب واحد.. فقد قرر أرييل شارون المتشدد الذى بنى حياته المهنية بالصرامة مع العرب، والذى كان مسئولًا إلى حد كبير عن الكارثة فى لبنان، كرئيس للوزراء، أن الجهود الرامية إلى الاحتفاظ بغزة غير مجدية، لأن موقف إسرائيل لن يستمر إلا بتكلفة باهظة.. فأمر بالانسحاب.. وفى مواجهة الاحتجاجات من جانب سكان المستوطنات، أغلقت إسرائيل المستوطنات.. وأصيب شارون بسكتة دماغية ودخل فى غيبوبة، قبل أن يتمكن من الكشف عن خططه للضفة الغربية.
لم يتم التفاوض مع الفلسطينيين على الانسحاب، ولم يتم وضع أى خطط لما قد يأتى بعد ذلك.. وكانت هناك آمال فى أن تتحول غزة إلى منعطف إيجابى، فتحل التنمية الاقتصادية محل استيائها الشديد من الاحتلال، ولكن هذه الآمال لم تدم طويلًا.. ففى غضون عامين، تمكنت حماس من السيطرة على القطاع.. أولًا، نتيجة لفوزها فى الانتخابات، ثم بعد فوزها فى حرب أهلية قصيرة مع السلطة الفلسطينية.
ومع وجود أحزاب رافضة فقط تنشط فى القطاع، وعدم وجود أى مصلحة فى التعايش مع إسرائيل، حولت حماس غزة إلى قاعدة لها، باستخدام كل الموارد المتاحة، بما فى ذلك تلك التى حصلت عليها من إيران، لتصنيع الصواريخ وبناء الأنفاق لتهريب الإمدادات وإدخال المقاتلين إلى إسرائيل.. ومع وجود جارتين معاديتين بشدة فى وضع يسمح لهما بمهاجمة إسرائيل فى أى وقت، وبعد أن تخليتا عن فكرة إمكانية احتلالهما، أصبح الردع هو محور الاستراتيجية الإسرائيلية.
●●●
عادة ما يوصف الردع بأنه يتخذ أحد شكلين.. الأول هو الردع بـ«الإنكار»، والذى يعنى فى الأساس، أنه مهما كانت النية العدوانية للهدف، فلن يكون قادرًا على التصرف بناءً عليها لأنه سيُحبط إذا حاول.. والثانى هو الردع بـ«العقاب».. فى هذه الحالة يمكن للهدف أن يتصرف بناءً على نية عدائية، وحتى يتسبب فى بعض الأذى الحقيقى، لكن العقوبة ستكون شديدة، ومهما كانت المكاسب فإن التكاليف التى يتكبدها ستكون أعلى بكثير.. عندما لا يتم ردع الخصم، ويقرر الهجوم، يجب أن تكون التكاليف كافية لضمان عدم محاولته مرة أخرى.. بهذه الطريقة يمكن استعادة الردع.
إسرائيل تتبع كلا الشكلين من أشكال الردع.. ففى حالة المنع، تبنى إسرائيل أسوارًا ضخمة لمنع التوغلات داخل أراضيها.. ولكن هذه الأسوار لم تتمكن من وقف الصواريخ التى تطلقها حماس أو حزب الله.. ولهذا السبب طورت إسرائيل نظامًا دفاعيًا جويًا متطورًا هو القبة الحديدية لمنع الهجمات الصاروخية من التسبب فى أضرار جسيمة.. كما يستطيع السكان استخدام الملاجئ لحمايتهم من الصواريخ التى تخترق أراضيها.. معدل نجاح هذا النظام مثير للإعجاب، ولكنه ليس كاملًا، كما أن شن الهجمات أرخص من إيقافها.. لذا تسعى إسرائيل عادة إلى زيادة الثمن الذى يدفعه الخصم، من خلال شن غارات جوية على الأماكن التى انطلقت منها الهجمات.. وهناك دائمًا عنصر العقاب، الذى يأتى فى ثلاثة أشكال.
أولًا، يحاول اغتيال المسئولين، سواء كانوا شخصيات سياسية أو عسكرية.. وربما كانت عمليات القتل المستهدفة العديدة التى نفذتها إسرائيل سببًا فى تعطيل هياكل القيادة والعمليات لدى العدو فى الأمد القريب، ولكن آثارها على الأمد البعيد كانت هامشية على الأكثر.. ذلك أن قادة آخرين يتقدمون ليحلوا محل القتلى، ولا يوجد ما يضمن أنهم سوف يصبحون أقل قدرة أو فاعلية، بل ربما كانوا أكثر شراسة.. وثانيًا، يستهدف الجيش الإسرائيلى الأصول العسكرية التى تجعل الهجمات ممكنة.. ومرة أخرى، قد يحدث هذا فرقًا فى الأمد القريب، ولكن فى الأمد البعيد، يمكن بناء المزيد من الصواريخ، وحفر المزيد من الأنفاق، وتجنيد المزيد من المقاتلين.. ثالثًا، لأن هذه الأصول موجودة فى وسط المناطق الحضرية، وغالبًا بالقرب من المدارس والمستشفيات، فإن المدنيين سوف يعانون.. وتنفى إسرائيل أنها تمارس العقاب الجماعى والاستهداف المتعمد للمدنيين.. ولكن الضربات المكثفة ضد الأهداف العسكرية، وخصوصًا تلك التى تنطوى على أنفاق، يعتقد أنها تقع تحت المبانى المأهولة أو الأفراد المختبئين فى المناطق السكنية، سوف تؤدى إلى سقوط العديد من الضحايا المدنيين ومعاناة أوسع نطاقًا.. وبالنسبة للمراقبين، فإن التمييز بين الأضرار الجانبية والأضرار المتعمدة، غالبًا ما يكون صعبًا.
ومن بين السمات الأخرى للردع، أنه يبدو وكأنه يعتمد على العصا دون الجزرة.. ولا يوجد من حيث المبدأ سبب يمنع الجمع بين التهديدات السلبية والحوافز الإيجابية، ولكن هذا ليس شرطًا من شروط الاستراتيجية.. وإذا نجحت التهديدات، فلن يكون هناك سبب كافٍ للبحث عن حوافز لتشجيع الخصم المحتمل على التعايش السلمى.
فى يوليو 2006، شن حزب الله غارة على إسرائيل، حيث أطلق صواريخ على بلدات حدودية وهاجم دورية إسرائيلية، أسفرت عن مقتل ثلاثة جنود واختطاف اثنين آخرين ونقلهما إلى لبنان.. وأدت محاولة إنقاذ فاشلة إلى مقتل ثلاثة آخرين.. رفضت إسرائيل طلب حزب الله بمبادلة السجناء اللبنانيين فى السجون الإسرائيلية بالجنود المختطفين.. وردت بدلًا من ذلك بضربات جوية ومدفعية، ليس فقط ضد أهداف عسكرية لحزب الله، بل وأيضًا ضد مطار بيروت وأهداف مدنية أخرى.. كما شنت هجومًا بريًا ضد مواقع لحزب الله مجهزة جيدًا فى جنوب لبنان، وهو الهجوم الذى تبين أنه مكلف وصعب. وفى نهاية المطاف، رتبت الأمم المتحدة وقف إطلاق النار.. وبعد ذلك بوقت طويل، أُعيدت رفات الجنديين كجزء من عملية تبادل الأسرى.. وقد اعتبرت العملية، على نطاق واسع، فاشلة فى إسرائيل، بعد أن كشفت عن نقاط ضعفها فى مواجهة الهجمات الصاروخية والميليشيات العنيدة.. ومع ذلك، اعترف زعيم حزب الله، حسن نصرالله، بأن الإسرائيليين قتلوا ما يصل إلى اثنى عشر من قادته، ثم أدلى بتعليق مثير للاهتمام حول العملية الأولية.. عندما سُئل عما إذا كانت عملية حزب الله ستتم إذا شعرنا بوجود احتمال بنسبة 1% بأن تؤدى إلى حرب مثل تلك التى حدثت، أجاب: «أقول لا، على الإطلاق لا، لأسباب إنسانية وأخلاقية واجتماعية وأمنية وعسكرية وسياسية».. وأضاف أن إسرائيل كانت تنتظر ذريعة لشن هجوم مخطط له.. ومع ذلك، فقد اعتُبِر هذا الاعتراف، وحقيقة وقوع اشتباكات منذ ذلك الحين ولكن لا شىء مماثل لها، دليلًا على أن الردع ربما يكون فعالًا.
ولكن، فى حين أن حزب الله معادٍ بلا شك لإسرائيل، إلا أنه أقل عدائية من حماس.. وأحد أسباب ذلك هو أن حزب الله أصبح الآن جزءًا من النظام السياسى اللبنانى.. ورغم أنه القوة الأكثر أهمية فى ذلك البلد، إلا أنه لا يزال تتعين عليه الاستجابة للفصائل والتوجهات الأقل اهتمامًا بعدائه لإسرائيل، وتقديم نفسه على أنه يخدم المصالح اللبنانية.. ومع وجود البلاد فى حالة من الفوضى الاقتصادية، والتى تفاقمت بعد الانفجار الهائل فى مرفأ بيروت عام 2020، ولا تزال تديرها حكومة مؤقتة، فإنها ليست فى وضع يسمح لها بالتعامل بشكل جيد مع الحرب مع إسرائيل.
●●●
تجربة غزة كانت مختلفة.. فمنذ استيلاء حماس على القطاع، كانت فترات الهدوء على الحدود قليلة.. وكانت الاشتباكات متفاوتة فى شدتها وتواترها، وكانت الاشتباكات الكبرى تقع كل بضع سنوات.. وكل حالة تنطوى على إطلاق الصواريخ من جانب حماس وشريكها الأصغر، الجهاد الإسلامى، والضربات الجوية والمدفعية من جانب الإسرائيليين؛ وكانت الخسائر غير متكافئة بشكل صارخ، حيث كانت الخسائر على الجانب الفلسطينى أكبر بكثير من الخسائر على الجانب الإسرائيلى، وخصوصًا بين المدنيين.. حتى أن معاناة الفلسطينيين فى هذه الأحداث، كانت تدفع المنظمات الدولية والحكومات وجماعات الحملات إلى إدانة إسرائيل، لتصرفها بشكل غير متناسب.. وباستثناء عام 2021، عندما امتدت الاضطرابات إلى المجتمعات العربية فى إسرائيل، أقيمت احتجاجات داعمة فى الضفة الغربية وأماكن أخرى، ولكن ليس أكثر من ذلك بكثير.. وبعد أسابيع من القتال، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار ولم يتغير شىء يذكر بمجرد أن هدأ القتال.
ويشير تكرار الاشتباكات إلى أن الردع لم ينجح فى غزة.. ومن المنظور الإسرائيلى، كانت الأولوية فى المقام الأول هى إظهار أن إسرائيل لا تخشى الاستفزازات، وأنها سوف ترد بقوة فى كل مرة.. ووصف بعض الإسرائيليين هذه الاستجابات بأنها «قص العشب»، وهى العبارة التى تلخص فكرة الصراع غير المحدد الذى يمكن احتواؤه من خلال العمل القسرى العرضى.. لقد كان جزءًا من الصدمة التى أحدثها هجوم السابع من أكتوبر، أن الحكومة الإسرائيلية أقنعت نفسها بأن نهجها كان ناجحًا، إلى الحد الذى جعلها تبدأ فى تخفيف القيود المفروضة على غزة.. وكانت حركة الجهاد الإسلامى تُمثل مشكلة، ولكن حماس لم تكن تبدو مهتمة كثيرًا بمزيد من العنف.. وفى نظر الإسرائيليين، كان ما حدث آنذاك بمثابة فشل ليس فقط فى الاستخبارات بل وأيضًا فى الردع، وكان حجم الفشل يعنى أن استعادة الردع لم يعد خيارًا واردًا.
سارت ردود الفعل على نفس المنوال الذى سارت عليه فى السابق، إلا أنها كانت أشد حدة. فقد تم استهداف وقتل العديد من الأفراد المرتبطين بحماس، وخصوصًا أولئك الذين شاركوا فى هجمات السابع من أكتوبر. كما تعرضت البنية التحتية العسكرية لضربات لا هوادة فيها، وظهرت عواقب أفعال حماس على السكان المعذبين بشكل أكثر شراسة من الهجمات السابقة، وبسقوط عدد ضخم من الضحايا المدنيين والضيق العام.. وعلى الرغم من الاستفزاز الأصلى الذى قامت به حماس، فقد أدى هذا إلى غضب دولى ومطالبات بوقف إطلاق النار.. وهنا، نستطيع أن نتساءل عما إذا كان الردع قد نجح فى تحقيق نتائج فعالة فى أى وقت مضى.. لكن من المؤكد أن هذا لم يحدث الآن.. فإسرائيل لا مصلحة لها فى إقناع حماس بعدم شن هجمات أخرى.. بل إنها تريد أن تضمن عدم امتلاكها القدرة على القيام بذلك.
●●●
والآن.. تدرك إسرائيل أنها الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تضع احتياجاتها الأمنية فوق الاعتبارات الإنسانية، لذلك، فإن الضغوط عليها لوقف هذه الحروب سوف تتزايد.. فقد اعتادت تل أبيب على السير فى الطريق وحيدة، وقد تجد نفسها فى موقف أكثر عزلة.. وكما حدث فى حروبها السابقة، فإنها سوف تقاوم الضغوط الرامية إلى وقف إطلاق النار إلى أن تتحقق أهدافها.. ولكن هل يمكن تحقيق أهدافها؟
هذا ليس أمرًا مؤكدًا حتى الآن.. لذا فمن غير الحكمة التكهن. وأكبر حالة من عدم اليقين بعيدًا عن ساحة المعركة وتوسع الحرب المحتمل، هو مستقبل حكم غزة.. لقد اضطرت إسرائيل إلى النظر إلى ما هو أبعد من الردع.. فقد توصلت إلى استنتاج مفاده أنها تتعامل مع كيان لم يرتدع قط ولن يرتدع فى المستقبل.. وربما تتخيل عناصر جامحة فى إسرائيل طرد كل سكان غزة من القطاع، ولكن هذا ليس خيارًا قابلًا للتحقق.. وهنا يصبح الخلل الآخر فى استراتيجية الردع الإسرائيلية واضحًا بشكل مؤلم.. فلم تكن هذه الاستراتيجية مصحوبة باستراتيجية سياسية أكثر إيجابية.. والرؤية الوحيدة التى تقدمها إسرائيل فى الأمد البعيد هى غزة من دون حماس.. والفوضى وعدم الاستقرار اللذان قد ينجمان عن تحول غزة إلى مساحة غير قابلة للحكم، من دون أى شخص مسئول، لن يخدما مصالح أحد.. ولا بد من إيجاد وسيلة لملء هذه المساحة.. ونظرًا للكيفية التى حددت بها إسرائيل أهدافها، فإن نجاح حماس يتطلب ببساطة البقاء فى موقع مهيمن فى غزة.. وحتى لو اضطرت إلى إخلاء مواقعها، فإن حماس لن تختفى.. فهى تمثل فكرة سياسية قوية فى محيطها، وبصرف النظر عما قد يحدث لها على مدى الأيام المقبلة، فإنها سوف تتمتع بالقدرة على التجدد والعودة إلى السلطة، إذا لم تكن هناك حكومة بديلة فى السلطة.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.