رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مأزق التعليم

تُعد منظومة التعليم والتدريب نواة العلم والمعرفة، وقاعدة التقدم ومنطلق التحضر، ومقياس التفاضل بين الحضارات، ومحفظة الشهادات العلمية، وسجل الشهرة الأكاديمية، والقيمة المعرفية، وحجر الأساس فى البناء التنموى ورفع مهارات رأس المال البشرى فى منظومة التنمية التى تتطلب الإعداد المعرفى والمهارى للطلاب بطريقة ابتكارية، لا سيما فى ظل التحولات السريعة التى لم تستوعب الواقع الثقافى والفكرى والاجتماعى والاقتصادى، ولم يُوقن أن ما لم يحدث فى قرون قد يحدث فى بضعة أسابيع، وأن تغيرات مذهلة قد تحدث فى العالم بصفة أقرب إلى الخيال والمفاجأة المذهلة التى تفوق كل التصورات والتوقعات. مأزق التعليم فى الوطن العربى أنه يعانى من بطء فى تحديث نظم وأطر ومسارات التعليم وأدوات التعلم، وعدم مواكبة محاضن التعليم للثورات التكنولوجية التراكمية فى مجالات شتى وعلى أصعدة مختلفة.
مأزق التعليم أنه محور التطور وقائد قطاعات التنمية والنمو فى المجتمعات، لكن واقعه فى البيئة العربية يجزم بعدم تحقيق استراتيجيات وأهداف التعليم لتلك القيادة والدليل مخرجاته.

إذ تعكس الدراسات أن نحو «40 %» من الطلاب على مستوى العالم لم يتعلموا المهارات الأساسية المتمثلة فى القراءة والكتابة والحساب رغم إكمالهم عامهم الدراسى الرابع، وهذه النسبة ترتفع إلى «60 %» بالنسبة للطلاب فى الوطن العربى والقارة الإفريقية والذى يُبرهن فشل العملية التعليمية فى إطارها التقليدى السائد فكيف بما يتطلبه حاضر ومستقبل عالم اليوم عالم «التكنولوجيا والمدن الذكية». مأزق التعليم فى الوطن العربى أن استراتيجيات وخطط وبرامج التعليم والتدريس لم تواكب هيمنة التكنولوجيا والتقدم المعرفى وثورة الاتصالات والمعلومات، فاعتمادها على أسلوب المحاضرة والكلام المكرر والقراءة باتجاه واحد أفقدها ملاءمتها نقل المعرفة وإكساب المهارة التى تُركز على تنمية مهارات الطالب الفكرية والحوارية والتطبيقية بشكل مباشر لاعتمادها على السرد والرواية النقلية الأحادية فى الغالب من المعلم.
مأزق التعليم فى عدم اعتماده على النهج التكاملى والمنهج التعاونى فى إطار الفهم المتبادل، وحلقات النقاش، ومجموعات الحوار، وجماعات التطبيق التى ينقسم فيها الطلاب إلى مجموعات صغيرة تتخطى التعليم الفردى القائم على المنافسة الفردية محدودة المنفعة، إلى منظومة التعليم التكاملى الممزوج بروح الجماعة والفريق الواحد الذى قد يتشكل أفراده من بيئات فكرية وثقافية ومعيشية وعرقية وجغرافية ولغوية متباينة، لكنها متفاهمة تستطيع أن تُشكل من أُسس ونظم وحواضن التعليم منطلقات فكرية وثقافية وتكنولوجية تجعل من العلم والتعلم منارات تصنع تقدمًا وتطورًا مستمرًا يبنى مستقبل أجيال تتكامل جهودها فى محاضن التعليم بروح التقبل والتعايش والتفاعل والتعاون والتفاهم والتسامح والانسجام من خلال منهجية تعليم تتطور باستمرار، وأيضًا يُنمى حضارة أمة لها رصيد عميق من العلوم والمعارف، وأسس راسخة فى قواعد العلم ومرتكزات الثقافة. مأزق التعليم فى تراجع قدرته عن بناء وتطوير نموذج نظرى تطبيقى لمنظومة التعليم، ونقل العملية التعليمية إلى حالة جديدة تستفيد من نظريات التعليم الحديثة كالنظرية البنائية وغيرها من النظريات التى تؤكد أن المعرفة تُبنى بصورة نشطة على يد المتعلم نفسه قبل كل شىء ولا يستقبلها بصورة سلبية من البيئة، وأن التعليم عملية وجدانية مفعمة بمشاعر التشويق والفضول والاكتشاف والإثارة والتساؤل والشغف، والاعتماد على المعرفة السابقة الموجودة فى بناء العقل، وعلى اهتمامات الطالب ذاته.
مأزق التعليم فى عجز استراتيجياته عن بناء الفكر المستقل والتفكير النقدى والتميز والإبداع والتعبير عن الذات.
مأزق التعليم فى نمطه التقليدى غير القادر على تأصيل سياسات تعليمية مواكبة تُعيد تصميم وتوزيع الحصص الدراسية وساعات المحاضرات التعليمية لتُخرجها من القوالب النظرية إلى مسارات تكاملية فكرية وتقنية ومهنية وخدمة مجتمع بمجملها تُشكل أطر التعليم وترسم ملامحه عبر مراحله المتدرجة ومجالاته المتعددة. مأزق التعليم بأنه ما زال محوره ليس الطالب الذى لم يستطع أن يتحول به من الحفظ والتلقين والاجترار إلى التعلم بتعظيم خصائص الفهم والتذكر والتطبيق والتحليل والتجميع والتقييم والابتكار والإبداع، ولم يزل فلسفته تُركز على المعلم والمناهج التعليمية أكثر من عنايتها بالطالب الذى هو محور العملية التعليمية. وأيضًا لم تستطع تأهيل المعلم بما يجعله مشاركًا مستمرًا مع الطالب فى تحصيل المعرفة، بما يُمكن الدارس فى بعض المراحل من الاستغناء عن الكتاب والمعلم والمدرسة، ويُخرج العملية التعليمية من إطارها التقليدى القائم على التلقين والحفظ الذى مخرجاته طلاب غير مستقلين عن أدوات التعليم التقليدية، وغير مؤهلين للمواكبة والتأقلم مع المتغيرات الهائلة التى تنتظرهم فى المستقبل القريب قبل البعيد. فى ظل عدم التحول بالمعلم من الدور التقليدى إلى الدور الريادى الذى يضمن تحفيزه ماديًا ومعنويًا بإكسابه مهارات جديدة تمنحه منزلة أعلى وقيمة أسمى، وتكسبه دورًا محوريًا أشد أهمية.
مأزق التعليم فى إدارة هشة مترهلة سبقها الزمن وهى متقوقعة على ذاتها وفى محيطها وكأنها تستنسخ واقعها وتجتره باستمرار عبر سنوات طويلة متلاحقة تُعيد من حيث لا تشعر إخراج تجربتها المتعثرة التى لم ترتق إلى الانفتاح الواعى على الآخر الأكثر تقدمًا علميًا وفكريًا وتستفد من الوسائل والنماذج التى أوصلته إلى المكانة الأسبق فى العلم والمعرفة، لنجد دولًا على منصات صدارة العالم العلمية والتكنولوجية تتخطى رئاستها التفتيش على معسكرات الجيوش، لتهتم بالتفتيش على المدارس لضمان تقدم مسيرة التعليم والاضطلاع بدوره الريادى بما يضمن استمرار صدارتها فى عالم يتقدم بسرعة مذهلة تقوده علوم تقنية دقيقة، وتكنولوجيا فضاء سريعة لا تنتظر من يتخلف عنها.

رئيس مركز المعرفة العربية للاستشارات