رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر تعانى أزمة موظفين

رغم الدعايات القوية وتركيزنا على وجود تخمة لدينا فى الوظائف الحكومية، فإننى أؤكد هنا أن الوضع على الأرض عكس ذلك تمامًا. لدينا فراغ وظيفى فى عدة قطاعات، مكاتب بلا موظفين بعد خروج الآلاف منهم سنويًا للمعاش فى سن الستين، وعدم وجود تعيينات جديدة، تنفيذًا للتقشف الحكومى، بل إن نسبة كبيرة من المصالح الحكومية قد أغلقت أبوابها تمامًا بسبب هذا الوضع.

ركزت مع هذه الظاهرة قبل فترة ليست بالقصيرة. لاحظت، على سبيل المثال، أن وزارة خدمية مثل «القوى العاملة» بدأت فى هدوء تام، ودون شوشرة، فى إغلاق مكاتبها فى المدن الصغيرة والقرى. قد يقول قائل: وما أهمية مكاتب العمل هذه فى ظل التوسع فى تشجيع القطاع الخاص والعمل به، وتقليص الجهاز الحكومى، وأن هذه المكاتب كان أعظم فوائدها هو استيعاب نسبة من الشباب الذين يتم تعيينهم عقب التخرج، بدلًا من أن ينضموا لطوابير البطالة الطويلة؟.

لكن لمكاتب العمل فوائد مهمة جدًا فى الأنظمة الغربية الحديثة. هى بمثابة بورصة بشرية للعمالة، تحدد زيادة نسب التشغيل أو تراجعها، وتحسب معدلات البطالة بشكل دورى.

فى نظامنا البيروقراطى الحالى، إحدى مهامها الوظيفية الباقية هى تقديم كعب عمل لكل من أراد التثبيت فى عمل جديد، إضافة لعدة وظائف روتينية أخرى. كعب العمل هذا هو أحد مسوغات التعيين، التى لا بد منها فى أى وظيفة جديدة. وحاليًا، على كل شاب أو فتاة أن يبحثوا جيدًا عن مكتب العمل الذى يتبعونه. وهذه المكاتب، وعن تجربة واقعية لى، دائمًا ما تكون فى أسوأ حال من حيث المكان الذى تقع فيه، أو طبيعة الموظفين، والأدوات التى يستخدمونها لتيسير مصالح المواطنين. قس على ذلك أوضاع باقى المكاتب الخدمية، ربما أبرزها الشهر العقارى. فلو ابتعدنا قليلًا عن مكاتب التوثيق النموذجية والحديثة فى النقابات والنوادى الرياضية ومولات التسوق، فإن مكاتبها بالأحياء والأقاليم فى أسوأ حال. وليت الزملاء فى «الدستور» يوثقون حال غالبية هذه المكاتب ومقدار المعاناة التى يعيشها المواطنون فى التعامل اليومى معها. والمهم فى الفكرة، التى أركز عليها فى هذا المقال، أن السبب الأساسى فى تفاقم أزمة هذه المكاتب أنها فى الغالب دون كوادر شابة مؤهلة للتعامل مع الوسائط الحديثة بشكل جيد، والموظفون القدامى منهكون جدًا وقد يقل عطاؤهم بالتدريج، وهذا شىء طبيعى. قبل فترة محدودة، نجح عضو برلمان نشط، أعرفه جيدًا، فى أن يحصل لدائرته على موافقة الوزير المسئول لافتتاح عدد من المكاتب الخدمية فى القطاع الذى يديره، لكن المشكلة ظهرت بعدم وجود موظفين لإدارة هذه المكاتب. هناك فراغ وظيفى فى المديرية التى تتبعها هذه المكاتب. تم التفكير فى الاستعانة بموظفين من التنمية المحلية بنظام الانتداب، بعد تدريبهم جيدًا على طبيعة الوظائف الجديدة. اللافت فى الأمر أنه لم تكن هناك عمالة زائدة على الحد فى الوحدات المحلية، كما كان عليه الوضع من قبل. الأمر الثانى اللافت أن نسبة مهمة من الموظفين رفضت الانتقال بسبب عدم وجود مزايا نوعية وحوافز مادية عالية، قالوا إننا سننتقل لوظيفة جماهيرية حقيقية، والتزام على مدار اليوم، بعد أن كنا فى شبه وظيفة، فينبغى أن يكون هناك مقال كبير لذلك. ونبهتنى هذه الواقعة لنقطة مهمة جدًا، وهى أن التخمة الوظيفية فى الحكومة انتقلت بالتدريج، للوزارات التى تمنح موظفيها بدلات ومزايا نسبية وحوافز مادية. الأسبوع الماضى، كتب الخبير البترولى والمتخصص فى شئون البيئة صلاح حافظ، مقالًا فى جريدة «المصرى اليوم»، أكد فيه أن عدد العاملين فى قطاع البترول وصل إلى ٢٢٠ ألف عامل بعد أن كان أقل من ٥٠ ألفًا. وثّقت الرقم، وعثرت على تصريح صحفى لوزير البترول السابق، قبل أربعة أعوام، مفاده بأن عدد العاملين فى القطاع قد تخطى ٢٠٠ ألف.

وظنى أن التكالب يزيد على القطاعات الغنية الشبيهة. ستجد، على سبيل المثال، زيادة فى عدد الموظفين بوزارة الكهرباء، وحتى فى داخل هذا النوع من الوزارات ستجد داخلها إدارات محظوظة وأخرى ليست كذلك، وهناك صراع دائم للانتقال للإدارات الغنية ذات الحوافز المرتفعة.

لقد تقلص عدد الموظفين فى الحكومة خلال السنوات الأخيرة. لم تعد الأرقام مخيفة، كما كانت من قبل. الغالبية تهرب من الوظيفة الحكومية «الميرى» إلى القطاع الخاص بقدر الإمكان. ووفقًا للجهاز المركزى للإحصاء فإنه من بين كل المشتغلين فى مصر، والبالغ عددهم ٢٨٫٨ مليون شخص، فإن عدد موظفى الحكومة هو ٤ ملايين و٦٦٥ ألفًا، يضاف إليهم ٦٦٣ ألفًا يعملون فى القطاع العام وقطاع الأعمال.

وخلاصة القول عندى إن قطاع الموظفين الحكوميين يعانى بشكل كبير، بسبب قلة عدد الكوادر فى جهات بعينها، والتكالب على جهات حكومية أخرى. ويحتاج الأمر لإصلاح وتطوير يفوق قدرات الجهات المسئولة عن ذلك، والضحية فى ذلك هى المواطن الذى لا يتلقى خدمة جيدة فى المصالح الحكومية.

مطلوب سياسات جديدة مرنة تتعاطى مع المناهج الجديدة، ولا أقول لنتعلم من الدول الغربية فقط، ولكنّ هناك دولًا عربية تؤدى بشكل جيد ومدروس فى تحديث وميكنة الخدمات الجماهيرية.