رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التطور الطبيعى للمتحدث الرسمى

لو تابعت أى صحيفة، أو موقع إخبارى، أو نشرة أخبار على أى فضائية، فستكتشف أن غالبية الأخبار والمعلومات المحلية فيها مصدرها بيانات منقولة عن متحدثين رسميين. هى بيانات منشورة على الصفحات الرسمية، أو مُرسلة من الوزارة أو رئاسة الحكومة، للمندوب الصحفى الذى يغطى هذه الجهة الرسمية أو تلك. توارى الوزراء وكبار رجال الحكومة إلى حد كبير عن المشهد الإعلامى وتفرغوا لأعمالهم، وتركوا الأمر الصحفى للمتحدثين الرسميين. صارت هناك مسافة كبيرة بين الصحافة والمسئولين الكبار، خاصة فى العقد الأخير. 

فى المقابل، ليس كل المتحدثين الرسميين على نفس القدرة من إجادة العمل. بعضهم لديه حيوية وتواصل وتفاعل مع الصحافة والرأى العام، وهناك من يؤدى بهدوء وتردد. وطالما الأمر كذلك وهو مستقر ولا اعتراض عليه، فإنه ينبغى أن يتم تطوير منظومة الأداء لهؤلاء المتحدثين وفقًا للتطورات الحديثة، خاصة مع مزاحمة الوسائط الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية، حتى فى المهام الإخبارية والتثقيفية التقليدية.

أتذكر أنه قبل عشرة أعوام تقريبًا، سألتنى وزيرة مثقفة، وهى أستاذة جامعية حققت نجاحات مهمة فى المجالين السياسى والأكاديمى، عن رؤيتى لتطوير الأداء الإعلامى فى أجهزة وزارتها. كانت تطمح لكى تقترب مع الرأى العام أكثر، وكانت مُطلعة على ما تقوم به الوزارات الشبيهة فى الولايات المتحدة وأوروبا. هناك يحرص المتحدثون الرسميون على أن يعقدوا مؤتمرات صحفية بشكل يومى. ويقدم الواحد فيهم، خلال المؤتمر، ملخصًا شاملًا لنشاط وزارته. وعندما يكون هناك حدث جماهيرى أو بيان مهم، يأتى الوزير بنفسه ليتحدث للصحافة. يلقى بيانه ويتحدث للإعلاميين ويستمع إلى أسئلتهم ويجيب عنها بشفافية وهدوء. طموح هذه الوزيرة لم يكن غريبًا أو جديدًا، بل كان تطورًا طبيعيًا للحادث حينها. كنا نستطيع أن نتواصل مع رئيس الحكومة أو الوزراء بشكل مباشر ودون تعقيدات. بل إننا أحيانًا ما كنا نقوم بتأجيل الموافقة على نشر الحوارات والندوات الصحفية مع كبار المسئولين، ونعمل على جدولتها حتى لا تطغى هذه الخدمة أو الوظيفة على باقى المهام الصحفية التى نقدمها للقارئ. وكان الوزراء يرحبون بالظهور فى البرامج الحوارية على الفضائيات والقنوات المحلية ومن داخل الاستديوهات، بل فى برامج تبث بشكل مباشر.

وكانت القيادة العليا تشجع على هذا النشاط والانتشار الإعلامى، خاصة مع تفجر أى من القضايا أو الأزمات الكبرى.. لأن هذا من شأنه أن يبنى جسور الثقة مع الرأى العام بنقل الحقائق دون وسائط، ويجعل المسئولية جماعية ولا تخص قيادة بعينها.

نصحت الوزيرة، المتحمسة للتواصل الجيد من الإعلام، أن تنظم أداء أجهزتها، وتمنح وسائل الإعلام المختلفة معلومات متخصصة وفيديوهات قصيرة ومواد توضيحية، تتناسب مع اهتمامات جمهورها المستهدف.. مع ضرورة الاهتمام بالمعلومات وتوثيقها، وعدم الاعتماد فقط على البيانات الرسمية الموحدة، بل تقليل نسبتها قدر الإمكان. كما نصحت بإنشاء قسم متخصص للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعى، ومتابعة كل ما ينشر بشأن أنشطة الوزارة أو المجال الذى تغطى، والتفاعل معه على مدار الساعة، على أن يكون ذلك التعامل بشكل إيجابى.

كل المقترحات التى قدمتها حينها، عندما أراجعها اليوم أجد أنها صارت قديمة، بل عتيقة جدًا. لست متخصصًا فى الإعلام الحديث، لكننى قدمت مشورتى من خلال عملى الصحفى وخبراتى المحدودة هنا وهناك. لكن أعترف الآن بأن الواقع قد تغير كثيرًا خلال العقد الأخير. واحد مثلى، يحتاج إلى إعادة تأهيل إعلامى وكورسات حديثة مكثفة، لكى يستطيع أن يطور نفسه ويتفاعل مع المستجدات فى صحافة البيانات والذكاء الاصطناعى وإنتاج الفيديو، وتصميم الوسائط المتعددة، والبرمجة، وإدارة مواقع التواصل الاجتماعى والمحتوى، وتحسين محركات البحث وهو ما نعرفه اختصارًا بـseo.

لقد قرأت مؤخرًا عدة مقالات عن أهمية تطوير الخطاب الإعلامى للحكومة مع تشكيلها الجديد. واستقرت هذه الآراء، التى قرأتها، إلى انتقاد منظومة الإعلام الحكومى بشكلها الحالى. ووضعت تصورات واقتراحات مهمة للغاية، لكننى هنا من واقع إلمامى بما وراء المنظومة الإعلامية هذه بصيغتها وبنائها الحالى، فإننى أدعو لإصلاح تدريجى لهذه المنظومة. ويبدأ هذا الإصلاح من الاعتراف بأن صفحات بعض المؤثرين وصانعى المحتوى على السوشيال ميديا باتت لها مصداقية أعلى، مقارنة بغالبية الصفحات الرسمية. وأنه لكى يتم تغيير هذا الوضع، ينبغى للصفحات الحكومية، بما فيها الصفحات الرسمية للوزارات أن تتواصل مع المؤثرين أو نسبة كبيرة منهم. كل بقدر تأثيره وانتشاره واحترامه لما ينشره. وأن يكون هذا التواصل بشكل دورى، ويكون الخطاب هادئًا للغاية ومقنعًا ومشفوعًا بالمعلومات والحقائق الموثقة. لا ينبغى أن يكون هذا التواصل على طريقة ما يصدر عن مركز معلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، الذى لا يستهل بياناته المعلوماتية الدورية إلا بالفعل «نفى». هناك أفعال فى اللغة العربية أخرى غير هذا الفعل.. وهناك أيضًا وسائل وأساليب للإقناع والشرح، حتى لو تعلق الأمر بالتعرض إلى سيل من الأكاذيب والافتراءات.

أعترف بأن لدينا جهات حكومية تعمل بكفاءة ونشاط. بينها مركز معلومات مجلس الوزراء نفسه، وكذلك الجهاز الإعلامى لرئيس الحكومة. كما أن المتحدثين الرسميين يؤدون بشكل جيد، وعلى قدر المسئولية. لكن هناك ضرورة وجودية لتطوير منظومة الإعلام الحكومى، وبالأخص فيها ما يتعلق بالمتحدثين الرسميين للوزارات، لكى ينجحوا جميعًا فى التفاعل الجيد مع هذا الواقع الإعلامى الجديد.