رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نتنيـاهو.. عُقد نفسية تحكم الدولة العبرية.. عدوانى.. نرجسى.. براجماتى.. مراوغ.. وكذاب

■ يسير على نهج ديفيد بن جوريون فى الإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى.
■ يؤمن بأن ممارسة القوة ضدّ الآخر أمر طبيعى.. فالتاريخ تصنعه «الأحذية الثقيلة».
■ لا يرى فى العرب وحدهم تهديدًا وجوديًا لإسرائيل.. بل فى العالم كله.
■ تعلم من أبيه.. أن البشر يعيشون فى صراع «داروينى» مستمر من أجل البقاء.
■ يرى جميع زملائه السياسيين منافسين.. وينتقم ممن يستشعر معارضته.
■ لن يقبل العرب بإسرائيل إلا بالقوة.. ويستبعد أن ينتهى العداء فى الجيل الحالى.
■ الصراع فى المنطقة لن يجد حلًا.. إلا إذا كان الحل يدعم استمراره فى منصبه.
■ عانى اضطرابًا عاطفيًا.. خان زوجاته وخرج على التلفاز يطلب الغفران من الجمهور.
■ علاقاته الشخصية «نفعية».. غير اجتماعى وانسحابى ولا يتعاطف مع غيره.

منذ اغتصاب أرض فلسطين إلى الآن، وسجلات حكام إسرائيل، عباقرة الشر والعقل الإرهابى الذى لا سابقة له فى تاريخ الإنسانية، حافلة بالقتل والمجازر، بوصفة بروتوكولات حكماء صهيون، لإقامة «جيتو» لليهود على أهرام من جماجم القتلى الفلسطينيين، وشاهدة على تعطِّشهم للدماء فى أبشع أشكال وصور الإبادة الجماعية، وارتكاب الجرائم وقتل المدنيين دون رادع.. هؤلاء الحكام، تنافسوا ويتنافسون فيما بينهم، على القسوة والنزعة العدوانية والعنف والحقد والكراهية.. إنهم أسرى عنصريتهم الاستعلائية المُرعبة، المبنية على التطهير العرقى والاحتلال والقمع الهمجى وإذلال واضطهاد الإنسان الفلسطينى.. يقول ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيونى ومهندس التطهير العرقى، فى يومياته عن مذابحه الدموية لتصفية الفلسطينيين وتفريغ الأرض من سكانها الحقيقيين: «ليست المسألة منوطة بضرورة الرد أم لا، ولا يكفى نسف منزل.. فالمطلوب والضرورى هو ردود فعل قاسية وقوية.. فلنضرب دون رحمة أو شفقة، وخصوصًا النساء والأطفال.. ولا حاجة إلى التمييز بين المذنب والبرىء».. وعلى ذات المنهجية نفّذ خارطة الموت الجهنمية من تلاه من حكام إسرائيل، وأعقبهم اليوم بنيامين نتنياهو، لإكمال مهمة الإبادة بكل الوسائل البغيضة وبدم بارد، لإرضاء نزواته وتحقيق سُعاره السادى.. فما الجوانب النفسية التى حكمت قادة الكيان الصهيونى، وتحكم رئيس وزراء إسرائيل الحالى، التى يمكن من خلالها، التنبؤ بردَّات فعله وتوجهاته المستقبلية.؟.
بداية، لا بد من التأكيد أن الدراسات التى تتناول الجوانب النفسية لقادة الكيان الصهيونى، قليلة للغاية فى الأدبيات السياسية العربية، لكن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات فى بيروت، أصدر ورقة علمية بعنوان «الدراسات النفسية لشخصية بنيامين نتنياهو»، استنادًا لعدد من الدراسات النفسية الإسرائيلية والغربية، قام الأستاذ الدكتور، وليد عبدالحى، الخبير فى الدراسات المستقبلية والاستشرافية، والأستاذ فى قسم العلوم السياسية فى جامعة اليرموك بالأردن سابقًا، بتحديد النقاط التى اتفقت عليها هذه الدراسات، فى توصيف شخصية نتنياهو، ودمج بينها فى مصفوفة، للتنبؤ بالسلوك السياسى للكيان الصهيونى، مما يجعل الوعى بسياساته أكثر دقة.. وقد تم حصر الأبعاد النفسية لشخصية نتنياهو، فى خمسة أبعاد هى: ركائز بنيته النفسية، وانعكاس بنيته النفسية على شخصيته، وسماته الوظيفية، وأسلوبه القيادى، وانعكاس بنيته النفسية على سلوكه فى الصراع العربى الصهيونى.. وتمت دراسة تلك الأبعاد، وفقًا لنموذج الدليل التشخيصى والإحصائى للجمعية الأمريكية للطب النفسى، الذى يقوم على التركيز على «السلوك المتكرر» للفرد، من خلال رصد قائمة الأبعاد الشخصية وقياسها على أسس ثلاثة، هى الأفكار، والمشاعر، والأعمال.
فى معرض انعكاس البنية النفسية لنتنياهو على شخصيته، فإن الدراسات تتفق على الملامح العامة لشخصية نتنياهو، والتى وصفها الباحثون بالعدوانية والنرجسية والبرجماتية وعدم المصداقية والمراوغة.. أما عن موقفه من الصراع العربى الصهيونى، فإن كراهية نتنياهو للعرب ليست منفصلة عن كراهيته للآخر، إذ يقوم منظوره الدينى والسياسى فى الموضوع الفلسطينى، على حق اليهود فى العودة.. ويستبعد نتنياهو أن ينتهى العداء العربى لإسرائيل فى الجيل الحالى، ويعتقد أن العرب لن يقبلوا بإسرائيل إلا بالقوة.. وعليه، فإنه يمكن تحديد مؤشرات السلوك المستقبلى لنتنياهو فى أنه، لن يتخذ قرارات استراتيجية بخصوص حلّ الصراع، إلا إذا كانت تدعم استمراره فى منصبه.. سيواصل السعى لتحقيق مشروعه الخاص بـ «الدولة اليهودية».. لن يمل من التشبث بالمنطق الميكافيللى فى علاقاته الأسرية والمجتمعية والدولية على مختلف أشكال هذه العلاقات.. لدى نتنياهو من القدرة والذكاء ما يمكنه من النفاذ من المآزق المختلفة، لكنه إذا تعرض للمفاجآت الحادة، فإنه يرتبك بشكل واضح ويعجز عن اتخاذ القرار المناسب.
ويرى علماء النفس، أن هناك وقائع فى حياة كل فرد، تمثل الخلفية التى تتحكم بقدر كبير فى سلوكه العام، ولكن هذه الوقائع أحيانًا يعيها الفرد، ولكنه لا يتنبه لتداعياتها فى نسج خيوط شخصيته.. وفى أحيان أخرى، تكون هذه الوقائع غائرة فى «اللا وعى» الفردى، خصوصًا ما كان فى مراحل العمر الأولى.. وعند مراجعة ما اتفقت عليه الدراسات الخاصة بنتنياهو، نجد أربعة أبعاد تركت فيه بصماتها وشكلت سلوكه العام والخاص.
●●●
أولًا، ولد بنيامين نتنياهو سنة 1949، لرجل بولندى الأصل، هو بن صهيون مايلكوويسكى، الذى كان والده جد بنيامين ناثان حاخامًا، لكن بن صهيون كان علمانيًا، وكان من كبار مساعدى القيادى الصهيونى المتطرف، زئييف جابوتنسكى، ومن الداعين إلى تهجير الفلسطينيين إلى خارجها لتبقى دولة يهودية نقية، وقام بتغيير اسمه البولندى إلى نتنياهو.. لكن هذا الأب كان مُحبطًا من عدم القدرة على الاندماج مع المجتمع الأمريكى الذى عاش فيه كمؤرخ، ولم يتمكن من إيجاد العمل الذى يراه يشبع طموحه، على الرغم من أنه مارس التعليم فى جامعة «كورنيل» الأمريكية.. وكان بن صهيون صهيونى يمينى، تخصص فى التاريخ اليهودى لا سيّما فى إسبانيا، وهو من المؤمنين بفكرة «إسرائيل الكبرى»، ولكنه بعد رفضه من قِبل الجامعة العبرية فى القدس للعمل فيها، انتقل ثانية إلى الولايات المتحدة، وكان طوال حياته يحمل ضغينة مريرة ضدّ مؤسسة حزب العمل والنُخب الفكرية فى إسرائيل.
زرع الأب فى أبنائه فكرة أن الكل «عدو له»، وقد تركت هذه الفكرة آثارها العميقة على بنيامين منذ نعومة أظفاره، وأصبح يرى أن المؤامرة موجودة فى كل مكان، وأن العالم قاسٍ بدرجة كبيرة.. وزرع الأب فيهم أيضًا، أنه لا مكان فيه للإيثار أو العمل الخيرى أو الصداقة الحقيقية، وأن البشر يعيشون فى صراع «دارويني» مستمر من أجل البقاء.. وتشرّب بنيامين من والده الشعور بأنه دخيل على المؤسسة السياسية، وغلب عليه الشعور فى البداية، أنه معزول بالرغم من تميزه «الذى يعتقده هو»، لذلك رأى أن جميع زملائه السياسيين منافسين له، بل انتقم ممن استشعر معارضتهم له.
ولعل عمق إيمانه بالمنظور الداروينى الذى زرعه الأب فى أبنائه، يفسر رؤية بنيامين بأن غالبية العرب، بمن فيهم عرب 1948، يشكلون تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، واتسع مضمون هذه الفكرة التهديد الوجودى ليشمل أركان العالم كله.. وتتجسد هذه الفكرة من خلال تكرار بنيامين نتنياهو المتواصل لأفكار كانت هى الأعلى فى التكرار، بعد تحليل مضمون خطاباته وتصريحاته، وما ورد فى كتاباته، وتتمثل هذه الأفكار المركزية فى منظومته المعرفية في: اعتبار الأمن الإسرائيلى مهددًا من كل حدب وصوب.. «الإرهاب» الفلسطينى.. معاداة السامية.. الخطر الإيرانى وحزب الله.. معاداة الأمم المتحدة لإسرائيل.. التذكير بالهولوكوست النازية.. وأن أوروبا تفشل فى فهم «التهديد» الذى تتعرض له إسرائيل.. وترى الدراسات النفسية الخاصة، أن كل هذه الأفكار الأكثر تكرارًا فى خطاباته، هى نتيجة للفكرة التى غرسها الأب فى ذهنه، وهى أن «كل العالم يكرهنا»، لذا فإن أى نقد لإسرائيل، هو جزء من «العالم يكرهنا».
وعند الانتقال لدور أمه سيليا، وكانت متزوجة من نوح بن توفيم قبل زواجها من والد نتنياهو، فإننا نجد أن تأثيرها كان فى جانب آخر، وهو تدريب أبنائها على «الانضباط وممارسة القوة» من ناحية، كما زرعت فيهم إحساس النجاح مستقبلًا من ناحية ثانية.. لكن الأسرة ككل، كانت تعيش تحت مشاعر الإحساس بالعزلة والاضطهاد والشكوك فى من حولهم.. وكان بنيامين الابن الأكثر ميلًا نحو العزلة، والسعى الدائم للتفوق، وقد ظهر ذلك بعد عودته إلى الولايات المتحدة مع الأسرة، ثم عاد لإسرائيل وعمره ثمانية عشر عامًا لأداء الخدمة العسكرية.. إذًا، فقد زرع الوالدان فى ابنهما بنيامين نتنياهو مسألتين: كراهية الآخر غير اليهودى، ثم أن الصراع بمفهومه الداروينى هو الظاهرة الطبيعية فى هذا الكون، لذا فإن ممارسة القوة ضدّ ذلك الآخر هى أمر طبيعى، بغض النظر عن مدى «شرعية هذه القوة»، فالتاريخ تصنعه «الأحذية الثقيلة»، كما قال جابوتنسكى، الذى ارتبط بعلاقات وطيدة مع والد بنيامين.
ثانيًا، كان والد ووالدة بنيامين يوليان عنايتهما الأولى لابنهما الأكبر يوناتان.. ومعلوم أن الأب أو الأم يعطون الأولوية فى الرعاية للابن الأكبر، وهو أمر يترك بعض الأثر لدى الأخ الذى يليه فى الترتيب، فإذا تعرض هذا الابن الأكبر لما يغيبه أو يجعله غير مؤهل، يتم الانتقال للابن الذى يليه، وهو ما وقع مع بنيامين.. فبعد مقتل أخيه الأكبر، خلال قيادته فرقة إسرائيلية ذهبت إلى إنقاذ رهائن فى عنتيبى بأوغندا سنة 1976، وكانوا تحت سيطرة مجموعة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ترك الحدث الأثر الأكثر وقعًا على بنيامين الذى كان يدرس فى الولايات المتحدة.. لكن بنيامين استثمر مقتل أخيه من نواحٍ ثلاث: الأولى، الاستغلال السياسى للحدث لتحقيق أهداف ذاتية فى مجال الارتقاء فى السُلّم السياسى، ومن ناحية ثانية، تعميق الشعور بكراهية العرب لديه لأنهم قتلوا شقيقه، ثم تأكيد فكرة المنظور الداروينى لديه، أى أن البقاء للأقوى.
ثالثًا، شارك بنيامين نتنياهو فى العديد من الاعتداءات العسكرية على دول عربية بعد حرب 1967.. شارك فى معركة الكرامة 1968، وفى الهجوم على مطار بيروت فى السنة نفسها، وفى حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، بل كاد يموت غرقًا فى قناة السويس، خلال مشاركته فى عملية دمر فيها المصريون أحد قوارب عملية تسلل عسكرية إسرائيلية، إلى جانب عدد آخر من العمليات سنة 1972، على الرغم من أن الأب كان ميالًا أن ينخرط أبناؤه فى السلك الديبلوماسى، خصوصًا فى وزارة الخارجية، وكان نتنياهو وشقيقه الأكثر تطرفًا، يشعران ببعض التناقض فى سلوك والدهما، بأنه مدافع قوى عن الصهيونية، ولكنه مصر على الإقامة فى الولايات المتحدة.
رابعًا، كان يعانى اضطرابًا عاطفيًا.. إن تتبع الحياة الزوجية لبنيامين نتنياهو تكشف عن شخصية لا ترى فى الخداع كما سيتضح لاحقًا» أى شائنة، فعلاقاته مع زوجاته يغلب عليها الخيانة الزوجية، والكذب والتحايل على الزوجة والمجتمع فى حالة افتضاح أمره، والذى أكدته وقائع الفساد التى يلاحق قضائيًا حولها فى الفترة الحالية، والمتمثلة فى الرشوة، والتزوير، وخيانة الأمانة.. لقد اقترن بزوجته الأولى مريم وايزمن، التى تعرف عليها فى إسرائيل، وهى متخصصة فى الكيمياء، ثم ذهبت إلى الولايات المتحدة لاستكمال الدراسة، فى الوقت نفسه الذى كان نتنياهو هناك، وتزوجا فى السبعينيات من القرن الماضى وأنجبا ابنة سنة1978.. لكنه أثناء حمل زوجته الأولى، تعرف فى مكتبة الجامعة على فتاة بريطانية هى فلور كيتس، وأقام معها علاقات عاطفية، وهو ما دفع زوجته الأولى لطلب الطلاق، فتزوج نتنياهو عشيقته سنة 1981، التى أعلنت اعتناقها لليهودية، ولكنه طلقها بعد ثلاث سنوات.. بعد ذلك تعرف على مضيفة الطيران، سارة أرتزى، وأنجبت منه ولدين.
وتتفق مختلف الدراسات على أن سارة، زوجته الحالية، معروفة «بسلوكها غير المنتظم وغير المستقر أحيانًا»، إذ تتسم علاقاتها بالخشونة تقريبًا مع خادمات المنزل، وقد تمت مقاضاتها من قِبل العديد من المربيات، كما أن علاقاتها مع الصحف الإسرائيلية فيها قدر من الحديَّة.. وتشير الدراسات فى مواضع مختلفة، إلى أنها تزوجت نتنياهو وهى حامل، لكنها لم تخبره لأنها كانت تخطط «لصيده»، بعد أن استشعرت أنه لا يعتزم الزواج منها.. وتكرست شكوكها نحوه سنة 1993 كما سنرى.
فى كل ما سبق، يجب التنبه إلى ممارسته الخيانة لزوجاته.. فزوجته الأولى اكتشفت وهى حامل، وجود شعرة شقراء على ملابسه، وأصرت على معرفة مصدرها، لكنه راوغها مما دفعها لطرده من البيت لينتهى الأمر بالطلاق، لكنه عندما وضعت مولودها أرسل لها باقة ورد، دون أن يزورها.. فى سنة 1993، تلقت سارة اتصالًا هاتفيًا، يبلغها فيه المتحدث أن لديه شريط فيديو عن علاقات عاطفية لنتنياهو، يخونها فيه مع مستشارته للعلاقات العامة، روث بار، وتضمنت المكالمة الهاتفية المجهولة تهديدًا، مضمونه، بأنه ما لم ينسحب نتنياهو من سباق زعامة الليكود، سيتم تسريب الشريط للصحافة.. وبعد عودة نتنياهو إلى المنزل، قامت سارة بمواجهته بالمكالمة، فاستسلم وبكى ندمًا، ثم ذهب إلى التليفزيون الإسرائيلى ليعترف أمام الملأ، بأنه خدع زوجته سارة، ثم تبين لاحقًا أنه لم يكن هناك شريط فيديو للواقعة التى جرى تهديده بها، لكن نتنياهو أدرك خطورة تداعيات موضوع خيانته الزوجية على مستقبله السياسى، وقبل أن تتمكن «المافيا السياسية» التى صنعت فكرة الشريط بشكل مثير للدهشة من «ابتزازه»، تمكن بدموع البكاء على التليفزيون فى أوقات ذروة الحديث عن موضوع خيانته، من التأثير على مشاعر أنصاره ومداراة جراح الزوجة، وهو ما أفسد خطة خصومه لمنع وصوله لزعامة الليكود، ودفع زوجته سارة للقول بأن «روث بار امرأة فاسدة، وأن نتنياهو كان ضحية لها».. ويرى الباحثون فى سيكولوجية نتنياهو، فى هذا الجانب، أنه يتعامل مع زوجته سارة «بصبر وتسامح، رغم الضعف الشديد فى ارتباطهما العاطفى، وأن الدافع لذلك هو خوفه، أن يؤثر ذلك على هدفه المركزى، وهو البقاء فى قيادة الليكود».
●●●
من الضرورى، عند الحديث عن انعكاس البنية النفسية على شخصية نتنياهو، الإشارة إلى أن هذا الجانب يركز على السلوك المتكرر فى إطار البيئة الأوسع من الأسرة، أى نمط علاقاته مع البيئة السياسية والمجتمعية وغيرهما، وقد اتفقت الدراسات فى رسم ملامح شخصية نتنياهو، على أنه يعانى من «النرجسية»، وتتضح فى المؤشرات، التى نرى فيها تماثلًا إلى حدّ بعيد مع نتائج تحليل شخصية الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، وهو ما يفسر جزئيًا هذا التقارب والمديح المتبادل بين الشخصيتين.. وتتمثل مظاهر النرجسية عند نتنياهو فى أن نجاحه الشخصى أهم من الاعتبارات الإيديولوجية.. لديه أوهام القدرة على الإدراك أكثر من غيره.. النزوع لاستغلال العاملين معه لمصلحته الذاتية.. من الصعب أن تجده يمتدح أى فكرة يطرحها الآخرون.. لا يميز بين شأنه الخاص والشأن العام خصوصًا فى الجوانب السياسية.. غالبًا ما يتأخر عن الاجتماعات، خصوصًا مع الزعماء، ولا يكترث لآثار سلوكه هذا على الآخرين، بالرغم من أنه يدرك تأثير ذلك ودلالاته الدبلوماسية.. يتقبل المساعدات من أى جهة، بما فيها من يخالفونه الرأى، إذا وجد أن فى ذلك مصلحة له.. وإصراره على أن يكون فى المقدمة فى أى ميدان، ولا يستسلم بسهولة لغير طموحه.
وتأتى «العدوانية والمراوغة»، ثانية ملامح شخصية نتنياهو.. فهو مقتنع بأن ميدان العلاقات الدولية محكوم بقانون الغابة، ويرى أن من حقه استخدام أى أسلوب للوصول لأغراضه.. ولا يتورع عن سحق خصومه، حتى من معه فى قيادة الحزب.. ومن مؤشرات ذلك، والتى ورد أغلبها على لسان من عملوا معه، خصوصًا من مستشاريه: الهجوم الاستباقى على الشخصيات الحزبية التى يتحسس احتمال منافستها له مستقبلًا، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.. يتخلى عن حلفائه، إذا استشعر بأنهم سيؤثرون على مكانته.. يستخدم موظفيه فى أعمال قد تثير ردات فعل سلبية من الجمهور، فإذا نجحوا فى المهمة التى كلفهم بها يستمر فى توجهه، وإذا فشلوا يتخلى عنهم وينكر صلته بهم.. وارتباطه بالأشخاص مرهون بمدى استفادته الآنية منهم.
وثالثة الأثافى، «عدم المصداقية»، إذ يميل نتنياهو للكذب والتنصل من أى وعود يقطعها لغيره، وغير موثوق به، ويرى الخداع أمرًا مقبولًا فى السياسة.. ولا يخالجه أى تأنيب ضمير، وحتى حين يقول الحقيقة فإنه يبدو «غير مقنع».. هنا، نتذكر أنه لم يكن هناك أكثر إثارة للغثيان من خطاب نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكى، عندما ادعى أن الصراع فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، «ليس صراع حضارات بل بين البربرية والتحضُّر»، و«بين من يُعظّمون الموت وبين أولئك الذين يقدسون الحياة»؛ وصفق أعضاء الكونجرس لأكاذيبه وافتراءاته حول التعامل «الإنسانى» مع المدنيين، بينما حقائق الواقع والأدلة الحاسمة التى تدعمها تقارير مؤسسات عالمية موثوقة، أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك، أن الجانب الممثل للتوحش والدموية بأسوأ مظاهرها هو الجانب الإسرائيلى، وهو نفسه الجانب الذى تنعدم فيه القيم الإنسانية والسلوك الحضارى، ويحتقر حياة الآخرين وإنسانيتهم.. لم يكن هؤلاء الذين احمرت أيديهم من التصفيق بحاجة لجهد كبير لمعرفة، أن الجانب الإسرائيلى، معززًا بالأسلحة ووسائل الدمار الأمريكية، قتل أكثر من أربعين ألف مدنى ثلثيهم من النساء والأطفال، وجرح أكثر من تسعين ألفًا، ودمّر أكثر من ثلاثمائة وستين ألف وحدة سكنية، ودمر الجامعات، ومعظم المدارس والمستشفيات والبنى التحتية؛ واستخدم التجويع والتهجير كأداة لتحقيق أهدافه ضد شعب تحت الاحتلال.. صفقوا له كثيرًا، وهو يحاول أن يغطى الصورة العنصرية القبيحة للكيان، وعملية «التهويد» المنهجى التى يقوم بها، من خلال تقديم نموذج المجند العميل «المسلم»، ليدّعى أن جيشه ذو طبيعة يهودية درزية إسلامية مسيحية، متجاهلًا الدور الشكلى والديكورى والوظيفى لأولئك المنتمين لجيشه من الطوائف والأديان الأخرى.. كما صفقوا له كثيرًا، وهو يبتزهم عاطفيًا بحكاية الأسرى أو الرهائن اليهود، دون أن يسمح بأى شكل من أشكال المقارنة المنطقية مع آلاف الأسرى الفلسطينيين القابعين فى سجون الاحتلال وتحت أقسى الظروف.
رابعًا، «براجماتية العلاقات الشخصية»، حيث تتسم علاقاته الشخصية بأنها «نفعية»، ولا يميل للعلاقات الحميمية، وهو غير اجتماعى وانسحابى وغير متعاطف مع غيره، لا يقيم علاقات إلا مع من يتوسم فيهم المنفعة، فإذا انتهت المنفعة لا ضير لديه بإنهاء العلاقة، وهذا لا يعنى أن ليس لديه أصدقاء، لكن صداقاته «قابلة للانتهاء سريعًا».. وقد بدا ذلك واضحًا فى مراوغته الدائمة من تحقيق رغبة الرئيس الأمريكى، جو بايدن، فى التوصل لاتفاق هدنة مع حماس، يُنهى المأساة الإنسانية فى قطاع غزة، ويختم به حياته الرئاسية، ويُرجح كافة الديمقلراطيين لدى الناخب الأمريكى، وراح يميل باتجاه دونالد ترامب، الرئيس الأسبق، والمنافس على رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، بمجرد أن أعلن بايدن عن انسحابه من سباق الرئاسة.
وأخيرًا، «الشك»، إذ يغلب عليه الشعور بعداء الآخرين له وبأنه «ضحية»، ويميل لتفسير الأحداث بأنها «ضده» ثم يعممها على المجتمع.. ويرى فى أصدقائه «خونة محتملين»، وهو ما يفسر نزوعه الدائم للقراءة والمتابعة العلمية والاعتناء بالتفاصيل، طبقًا لنموذج هارولد لاسويل، فى تقسيمه للقادة السياسيين.. وقد ورد فى أوصافه على لسان بعض مستشاريه، «إنه ليس شخصًا عقلانيًا جدًا، إنه ضعيف للغاية، وغير موثوق، ومنغلق للغاية، لديه عدد قليل جدًا من الأصدقاء المقربين، ومن الصعب أن يثق بأحد، حتى بزوجته».. وقال مستشار آخر «لديه نوع من عقدة النقص منذ مرحلة مبكرة، وهو يحاول دائمًا إثبات نفسه، نتيجة شعور بنقص الأمن فى شخصيته.. وخلال الوقت الذى عملت معه، كاد يرتكب أخطاءً سخيفة فى كثير من الأحيان، وفى بعض الأحيان عندما لم نقم بإيقافه، كان يرتكبها بالفعل».
●●●
يكره نتنياهو العمل الروتينى، لكنه يعكس ردود فعل عضوية Somatic reactions، فى حالة مواجهته أزمة مستعصية، دون الاعتراف بالتعقيدات ويكبتها، مما يتسبب له فى آلام عضوية، خصوصًا فى المعدة.. ويختلف سلوكه فى العمل تحت الضغط، من حيث الموقف الذى يواجهه.. فإذا كان مصدر الضغط معروفًا له، فإن نتنياهو تتملكه مشاعر السيطرة، ومن غير المرجح أن يرتجل ويعمل على وضع عدد من الخطط البديلة.. ويظل هادئًا فى مثل هذه الأزمات، ويتعامل مباشرة مع المشاكل ويركز على القضية المركزية.. ويغلب عليه فى هذه الحالات، الشعور بالقدرة على السيطرة على الموقف، حتى فى اللحظات الصعبة.. كما أظهر فى المقابلات التليفزيونية قدرة عالية على التعامل مع الأسئلة الصعبة وتوجيه المناقشات.. أما فى حالة الظروف المفاجئة، فإنه يكون أكثر قابلية للخضوع، فمثلًا، عند فشل محاولة اغتيال خالد مشعل فى العاصمة الأردنية، فى الخامس والعشرين من سبتمبر 1997، واعتقال الأردن لاثنين من الموساد، بدا عليه الارتباك الشديد، بل إنه هو من اقترح إخلاء سبيل الشيخ أحمد ياسين، وهو أمر كان من غير الممكن أن يفعله فى الوضع الطبيعى.
إنه ذكى، لديه ذاكرة قوية وقدرة تحليلية عالية، قارئ واسع الاطلاع، يميل لدعم رأية باقتباسات للمفكرين والشخصيات المرموقة.. لديه حضور وتأثير على من يستمع له، من خلال بعض سماته الكاريزمية وقدرته الخطابية، ولديه قدرة على الاقناع، خصوصًا للجمهور المتحدث بالإنجليزية.. ومع ذلك، يميل للحياة المرفهة من كافة جوانبها وبشكل مفرط، خصوصًا فى السفر، والتنزه، والطعام، والمشروبات الروحية، واختيار المنتجعات والفنادق المكلفة جدًا، وبعد أن أصبح رئيسًا للوزراء أصبح ميالًا لاستثمار منصبه، من خلال طلب الخصومات من الفنادق أو الأماكن التى يرتادها، معتقدًا أن وجوده فى هذه الأماكن يشكل نوعًا من «الدعاية التجارية»، التى لا بدّ من حصوله على مقابلها، بل إن واقعة إحضاره وزوجته لملابسهما إلى مصابغ البيت الأبيض لتنظيفهما، تعزيز لفكرة استثماره لموقعه السياسى إلى أبعد الحدود.
ولأنه انعزالى ولا يثق فى أحد، فإنه يميل للعمل المنفرد ولا يحبذ الاستعانة بالخبراء، يفوّض بعض المهام لبعض مساعديه، لكنه حازم فى إدارة العمل، ولديه نزعة قيادية حادة وغير ديمقراطية، لا يستشير الآخرين «باستثناء مستشاريه الشخصيين» ويستخدم المطيعين له، وكثير ما يقطع وعودًا متضاربة، ويستخدم تكتيكات وراء الكواليس، تتعارض مع وعوده، وكثيرًا ما يصف خصومه الداخليين بأنهم «حزب الله».. واتساقًا من نرجسيته وقدرته على الكذب، فإن لديه قدرة على التلاعب وتوظيف وسائل الإعلام، خصوصًا التليفزيون.. لكن تربكه المفاجآت كثيرًا فى اتخاذ القرار.
●●●
يتضح لنا من خلال المؤشرات السابقة، أن كراهيته للعرب ليست منفصلة عن كراهيته للآخر، ويقوم منظوره الدينى والسياسى فى الموضوع الفلسطينى، على ما يعتبره حق اليهود فى العودة، ويستبعد أن ينتهى العداء العربى لإسرائيل فى الجيل الحالى، ويؤمن بأن العرب لن يقبلوا بإسرائيل إلا بالقوة..أما دينيًا، فهو علمانى تمامًا، ولا يرى الدين إلا من خلال التاريخ اليهودى.. وكراهيته للعرب ليست منفصلة عن التأثير الكبير للأب، ذى النزعة الجابوتنسكية كما ذكرنا، والتى تتمثل فى الميل للعنف مع الآخر، دون أى رادع أخلاقى، مستندًا على منظور داروينى مطلق، كما أن مصرع أخيه فى عنتيبى عزّز عدوانيته.
إن مَيله للكذب، سواء فى نطاق علاقاته الزوجية أو فى تعامله مع الرؤساء، مؤشر على أن وفاءه بالوعود السياسية هو أمر ثانوى بالنسبة له.. وتدل طريقة تفكيره التى أشرنا إليها، على أنه يصعب تغيير مواقفه وقناعاته، فهو يرى الكذب فى السياسة أمرًا مشروعًا، وهو ما يتضح فى أن مراقب الدولة الإسرائيلية أورد فى تقريره، أن نتنياهو قد أخفى معلومات أساسية متعلقة بتهديد أنفاق قطاع غزة، عن أعضاء المجلس الوزارى الأمنى المصغر، قبل حرب غزة سنة 2014.. يضاف لأكاذيبه تلك، المواعيد المختلفة التى يحددها بين الحين والآخر عن الفترة التى سيكون فيها لدى إيران قنابل نووية، والتى تتغير فى كل مرة بعد تجاوز تاريخ تلك المواعيد والاعتماد على ضعف ذاكرة الجمهور، ناهيك عن وقائع أخرى مثل الحديث عن مواقع مخازن أسلحة حزب الله قرب مطار بيروت.. إلخ.. ونظرًا لعمق شكوكه فى كل شىء، تُجمع الدراسات على أنه غير قادر على تقديم أى حلّ للصراع العربى الصهيونى.
عند تحليل شخصية نتنياهو، لا يجب إغفال دور المؤسسات السياسية فى تطويع بعض سمات شخصية القائد السياسى، وهو أمر يعتمد بشكل كبير على طبيعة بنية النظام السياسى لكل قائد، لكن عدم وضع شخصية القائد ضمن تحليل النظام السياسى بمدخلاته ومخرجاته، أمر يقود إلى خلل فى التحليل.. وعليه، من الضرورى دمج المعطيات السابقة مع البيئة المحلية، والإقليمية، والدولية، للوصول إلى نتائج أكثر دقة.
●●●
وبناءً على تحليل الجوانب النفسية لنتنياهو، يمكن تحديد مؤشرات سلوكه المستقبلى فى أنه، لن يتخذ قرارات استراتيجية بخصوص حلّ الصراع العربى الإسرائيلى، إلا إذا كانت تدعم استمراره فى منصبه.. كما أنه سيواصل السعى لتحقيق مشروعه الخاص بـ«الدولة اليهودية»، وكما أوضح البروفيسور أفيشاى مارجلى، أستاذ الفلسفة، فى كتابه، «آراء فى المراجعة: السياسة والثقافة فى دولة اليهود»، 1998، أن نظرية «عدم الاتساق المعرفي» لفيستنجر، تقوم على فكرة مركزية، هى أن الفرد عندما لا يتطابق سلوكه أو بعض معطيات الواقع مع قناعاته الفكرية أو الأيديولوجية، فإنه يلجأ لتحليلات معرفية لجعل أفكاره «تتسق» مع تلك المعطيات.. تتزايد تطبيقاتها بين القادة مثل نتنياهو، وبين جمهور الناخبين الإسرائيليين، فهؤلاء يؤمنون بقوة، بفكرة أنهم يعيشون فى دولة ديموقراطية من ناحية، ولكنهم من ناحية ثانية يقلّصون حدود الديموقراطية بنسبة عالية، عندما يتعلق الأمر بحقوق العرب فى أراضى 1948، أو حتى باليسار الصهيونى، ثم يستخدمون الحيل المعرفية من ناحية أخرى، لتبرير استمرار تمسكهم بالظاهرة الاستعمارية، التى أصبحت الآن تعبيرًا عن مفارقة تاريخية.. أنه لن يمل من التشبث بالمنطق الميكافيللى فى علاقاته المجتمعية، والدولية كما هى فى علاقاته الأسرية، على مختلف أشكال هذه العلاقات.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.