أحمد فضل شبلول يكتب: مغن عراقي يقتل عازفة روسية في رواية "شهد القلعة"
عن سلسلة إبداعات محو الأمية البصرية الإلكترونية، صدر كتاب جماعي بعنوان “إبراهيم عبد المجيد..من قلب الإسكندرية إلى فضاء العالم”.. ومن بين المشاركين في الكتاب، الشاعر الروائي أحمد فضل شبلول، والذي خص الـ"الدستور" بمقاله.
بين الواقعي المجسم والخيالي المحض تدور أحداث رواية "شهد القلعة" للروائي المبدع إبراهيم عبدالمجيد، والتي تبعد كثيرا عن أجواء رواياته السابقة، لتدور في قلعة تاريخية بسلطنة عُمان، لنقف حائرين بين الأحداث التي أحيانا يؤكد السارد حدوثها وأحيانا ينفيها، فلم ندر أهناك جريمة قتل حقيقية (قتل المغني العراقي للعازفة الروسية)، أم هو مجرد خيال، وهل هناك امرأة حقيقية اسمها "شهد" وبنات ثلاث أخريات اسمهن "مروة" اثنتين بالتاء المربوطة، والثالثة بالياء الممدودة (مروى)، أم أن كل هذا عبث وخيال كاتب؟.
الحقيقة الوحيدة في الرواية أن هناك ساردا اسمه إسماعيل يسرد الأحداث سواء الواقعية أم المتخيلة (وهو نفس اسم سارد رواية "البلدة الأخرى" للكاتب التي تدور أحداثها في تبوك السعودية)، وأن هناك رواية مطبوعة في كتاب ورقي صدرت عن "الدار للنشر والتوزيع" بالقاهرة، وجاءت في 108 صفحات، أمسكها في يدي الآن اسمها "شهد القلعة"، "تقفز من زمن سحري تتحد فيه الرغبة مع الفناء، وتصبح القلعة برزخًا بين السماء والأرض، وتتهاوى الحدود الفاصلة بين الجنة والجحيم".
عدا ذلك قد لا يكون حقيقة، وحتى لا يهمنا إن كان حقيقة أم خيالا، ويكفينا المتعة الفنية التي تحققها الرواية، والقدرة المدهشة لإبراهيم عبدالمجيد الذي تحرر كثيرا من معظم التابوهات ومنها التابوه الجنسي، فقد هام السارد الكهل إسماعيل، الذي هو كاتب أيضا يزور سلطنة عمان ويقدم محاضرة أدبية، بـ "شهد" المصرية الشابة المتفجرة بالحياة التي أخذته إلى القلعة التاريخية لمشاهدة عرض فني، فلم يكن هناك عرض مرئي، وأخذت أفكار السارد تتلاعب به لتؤكد له أن شهد صحبته إلى هذا المكان ليمارسا الجنس معا، ولكنه يتساءل هل ممارسة الجنس تحتاج إلى مكاني تاريخي مثل هذا لممارسته؟
وعلى الرغم من أن شهد تؤكد له وجود عرض فني ووجود مغن وعازفة، فإنه يؤكد لها أنه لا يوجد هذا العرض إلا في خيالها، وأثناء تمهيده ببعض الكلمات الدالة على الرغبة وبعض المداعبات اللطيفة، تفاجئه بمقتل المغنية وسريان الدم على خشبة مسرح القلعة، وسريان الثلج إلى أطرافها، فيعتقد السارد أنها تريد الامتناع عنه في هذا الجو الغريب وبين هذه الآثار التاريخية، وبين الشخوص التي تظهر وتختفي كأنها قادمة من حلم مراوغ.
مع تقدم الأحداث يقتنع السارد بوجود جريمة قتل فيبحث مع شهد عن القاتل، في غرف القلعة إلى أن يجدا المغني العراقي في إحدى الغرف يغني ويبكي متألما، فنتأكد نحن القراء أن هناك جريمة قتل حقيقية، ونتأكد أكثر أن القلعة ما هي إلا "حصن ملغز وراءه شهوات وقتل، وإلا لماذا تأتي به هذه المرأة الشابة إليه لتمارس معه طقسا جنسيا."
إن القلعة مكان أو رمز أو طقس للجنس والموت معا.
ووسط هذا الجو المفعم بالإثارة والتوقعات نجد بعض الشباب العماني يدخل عالم الرواية، وعندما ينزعج منهم السارد تهدئه شهد التي عاشت سنين في عمان قادمة من بلاد أوروبية بعد أن تركت مصر، بقولها "لا تخف. لا تنزعج. لن يضرونا بشئ.. العمانيون هادئون".
وفي موضع آخر يلاحظ إسماعيل أن أصوات ضحكات الشباب منخفضة، وأن كل العمانيين الذين قابلهم من قبل على هذه الشاكلة، فيؤكد بذلك أن الرواية تدور في عمان وليس في مكان آخر، ويندب حظه في تلك الليلة التي ظن أنها ستكون ليلة ساخنة خاصة بعد أن جلبت شهد معها زجاجتين من المشروبات الروحية، وأهداهما شاب عماني زجاجة أخرى، ولكن نصحهما بألا يتوجها إلى القلعة، فهل كان يعرف أن ثمة جريمة قتل ستقع في تلك الليلة؟
ويظن السارد أنه متورط في تلك الجريمة، فيحاول لقاء المغني ليجعله يعترف بجريمته قبل فوات الأوان، ولكن الأمر يزداد سوءا حينما يقتل المغني نفسه بعد أن اعترف بجريمة قتل العازفة الروسية التي كان يحبها حبًّا شديدَا، فتظن شهد أن السارد قتل المغني، ولكنه يؤكد لها أنه لم يقتله، وأنه هو الذي انتحر بطعن نفسه، تكفيرا عن ذنبه.
ويقرر السارد وشهد أن يتمتعا معا حتى يبتعدا ذهنيا عن مسرح الجريمة ولو إلى حين، وترغب هي في الاستماع إلى مغامرات السارد العاطفية والجنسية فتقفز ذاكرته إلى الوراء ويحكي لها عن المروات الثلاث في طقس يعلو على طقس الجنس نفسه، فللسارد، أو فنلقل الكاتب، قدرة فنية عجيبة على تحويل الإثارة الجنسية إلى جو مفعم بالسحر والدهشة والاكتشاف الطفولي الرائع والوصف الفني الدقيق، وكأن القارئ يعيش حلما، أو يقرأ ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة بكل سحرها وعجائبيتها، وبالفعل فإن الرواية تدور أحداثها في ليلة واحدة.
أما هي، أي شهد، فتعود بذاكرتها أيضا إلى الوراء، وتحكي تجربتها مع فتاة مغربية مارست معها طقسا جنسيا لا تستطيع نسيانه، أو محاكاته مرة أخرى، فقد كانت للفتاة سطوتها وجاذبيتها التي لا تقاوم، ولم تستطع شهد التخلص من تلك الجاذبية منذ أن رأت تلك الفتاة السمراء في أحد الأسواق. وتدهش هي أيضا بأن سمحت لنفسها بقضاء ليلة مع تلك الفتاة السمراء الحارة التي اكتشفت شهد فيها أنها لم تختن، وتندب حظها لأنها ختنت في صغرها.
هكذا تجمع "شهد القلعة"، أو "قلعة الشهد"، بين الجنس والإثارة وجريمة القتل التي يعود السارد إليها مرة أخرى ليؤكد أنها لم تحدث ولم تقع ولا يوجد مغن عراقي ولا عازفة روسية، ليحير قارئه معه.
بل نكاد نشك أيضا أنه لا يوجد جنس ولا فتاة مغربية ولا شهد ولا شبان عمانيين ولا فتيات ثلاث، واحدة منهن تعيش بالإسكندرية، فما أن يؤذن الديك، ويطلع النهار وتلوح الشمس في الآفاق إلا وتتبخر كل تلك الأحداث وتنتهي أحداث ليلة من أجمل ليالي الرواية العربية الحديثة.
ولعلنا عندما نتأمل عنوان الرواية قليلا باعتباره عتبة النص كما يقال، فسنجد أن الشَّهْد: جمع للشاهد، والشاهد هو الدليل أو من يؤدي الشهادة، وصلاة الشاهد هي صلاة المغرب وصلاة الفجر. وأن الشُّهد (بضم الشين): عسل النحل ما دام لم يعصر من شمعه.
وكل هذه المعاني تقودنا إلى شهد القلعة أو قلعة الشهد، فلم يأت اسم سيدة الرواية، أو الساردة اعتباطًا، بل اختاره الكاتب بذكاء شديد، فجعل "شهد" عنوانًا للرواية، بعد أن أضاف إليه القلعة، و"شهد" هنا لم يكن مجرد اسم سيدة الرواية فحسب، ولكنها كانت الدليل الذي يقود السارد إلى القلعة، بل كانت أكثر من دليل لأكثر من مكان في الطريق وداخل القلعة، لذا جاءت بصيغة الجمع.
ولعلنا قد عرفنا من السطور السابقة أن زمن الرواية وقع بين المغرب والفجر، أي في ليلة واحدة بدأت بعد صلاة المغرب زمنيا، عندما أخذت الشمس في الزوال، وبدأ الظلام يحل تدريجيا، وانتهت بخروج السارد وشهد من القلعة "في الطريق بدا نور الفجر يتسلل شفيفا."
أما المعنى الأقرب إلى الرواية وأحداثها فهو شهد العسل الذي نال رحيقه من شهد سيدة الرواية، وإن كان التشكيل المعجمي للكلمة بضم الشين (شُهد)، فإننا تعودنا على نطق الكلمة بفتحها (شَهد)، ولأنه نال هذا الشهد داخل القلعة، فقد أضاف القلعة إلى الشهد، وفي الوقت نفسه أطلق على سيدة الرواية اسم (شهد) ليتحد المعنى المعجمي مع المعنى الدلالي للرواية.
وإن كانت شهد نفسها تفاجئنا، وتفاجئ السارد أحيانا بأسماء أخرى لها غير شهد.
إنها حقا رواية ملتبسة جاءت من العوالم السحرية وتمضي إليها لتؤكد حرفية الكتابة الجديدة التي وصل إليها فن السرد عند الروائي إبراهيم عبدالمجيد.