رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لعبة الموت والحياة

لقد تغير زوجى خميس. لم يعد كما كان منذ أن تزوجنا منذ أكثر من عشرة أعوام، قضيناها نعمل فى الموالد. يبدأ الموسم من القاهرة، سيدنا الحسين والسيدة زينب، أم العواجز، ثم سيدتنا مريم العذراء، وقديس قبطى اسمه مار جرجس، ثم نشد الرحال إلى الإسكندرية، المرسى أبوالعباس، والقديسة دميانة، ثم السيد البدوى فى طنطا، وإبراهيم الدسوقى فى دسوق، ثم رحلة شاقة ومرهقة إلى خط الصعيد، سيدى عبدالرحيم القناوى فى قنا، وأبوالحجاج فى الأقصر، ثم القاهرة من جديد. وبين هذه المحطات، نتوقف فى القرى الصغيرة، لنقدم عروضنا فى الساحات الشعبية، يصوب زوجى خميس علىّ، فى كل ليلة، خناجره العشرة، لتحيط بى من جميع الجهات، دون أن تهتز شعرة منى، أو يبدو علىّ أثر الخوف، بينما تتعالى صيحات الجمهور البائس، الذى يريد دائمًا المزيد من المتعة والإثارة، نظير جنيهاته القليلة. يصرخ الجمهور مطالبًا زوجى بأن يصوب علىّ خناجره معصوب العينين، فيستجيب. ربما نفحه أحدهم بخمسة جنيهات كاملة، وربما أهداه أحدهم سيجارة، بينما يكتفى الباقون بالتصفيق والتهليل. كانت فقرتى مع خميس هى أهم فقرات العرض، بعد فقرة الإنشاد والمديح فى الموالد، وفقرة الراقصة والمغنى فى الساحات. لم يرزقنا الله أطفالًا، وكنا نحمد الله على ذلك، فالأجرة اليومية التى نأخذها من صاحب فرقتنا الجوالة، تكفى لطعامنا، بالكاد. لقد تغير خميس، هل هو الزمن؟ هل يتعاطى شيئًا؟ من أين؟ لقد بدأت يده تهتز قليلًا. منذ أسبوع، أصاب أحد خناجره كم جلبابى الفضفاض، قبل أن يرشق فى اللوح الخشبى الذى أستند عليه. تمزق الكم، لكننى أصلحته، فلا توجد لدينا رفاهية شراء جلباب جديد، أو حتى مستعمل. منذ يومين، أحسست بالخنجر يشق الهواء بجوار أذنى، كان صفيره مخيفًا، وهو يخترق شعر رأسى، ولأول مرة منذ عملى مع خميس وزواجى منه، بدأت أشعر بالخوف. فى الليل، وبعدما انفض العرض، طلبت منه ونحن نأكل بعض الجبن الأبيض بكسرات الخبز الأسمر، ونحتسى كوبين من الشاى الثقيل، ألا يضع العصابة على عينيه مرة أخرى، على الأقل حتى تستعيد يده ثباتها. هز رأسه موافقًا وهو منكس الرأس. بالأمس، لم يضع العصابة، رغم مطالبات الجماهير الغاضبة. يشعرون بأنهم قد خدعوا، واشتكى بعضهم لصاحب الفرقة. الليلة، هدد صاحب الفرقة خميس بأنه ما لم يصوب نحوى الخناجر معصوب العينين، فلسوف تكون هذه الليلة هى آخر عهدنا بالفرقة. حانت اللحظة المعهودة، يمهد لها دومًا زميلنا عبده، حامل الطبلة الكبيرة، بضرباته المتسارعة، والتى أصابتنى الليلة، على غير العادة، بالتوتر. يقف خميس دائمًا وسط الدائرة المرسومة بالطباشير الأبيض، يحاول الابتسام وهو يجول ببصره فى الحاضرين، يتجنب النظر إلىّ، صوب نحوى خناجره العشرة، مفتوح العينين، دون مشاكل. وعندما حانت الفقرة المهمة، لمحت صاحب الفرقة يراقبنا فى الصفوف الأولى. وضع خميس العصابة على عينيه، تحسس موضع قدميه جيدًا، ركزت بصرى على يده اليمنى، هل هى تهتز فعلًا؟ أم أن المسافة والتوتر يجعلانى أتخيل هذا؟ لأول مرة، أغمض عينىّ وهو يصوب علىّ، ولأول مرة منذ زمن طويل، نطقت الشهادتين. خنجر، اثنان، ثلاثة، ثم ألم حارق فى ذراعى اليسرى، مع سيل من الدماء اللزجة والدافئة، أشعر به وأنا أطلق صرخات هيستيرية، وسط صمت الجماهير المترقبة. رفع خميس العصابة، وهو يتقدم نحوى، أرى فى عينيه دمعة يحاول ألا تنزل، وقبل أن يصل إلىّ، انطلقت أجرى، أجرى أجرى، تلاحقنى شتائم صاحب الفرقة، واستغاثات خميس الملتاعة، وهو يجرى من ورائى.