رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بولاق الفرنساوية

آفة التاريخ ما يسمى بالمقولات الشائعة، ونعنى بذلك انتشار قصة عن حدث ما، أو تفسير وحكاية لاسم مكان، أو نسب مقولة أو حادثة لشخصية تاريخية ما، دون سند تاريخى واقعى وحقيقى. والمثير فى الأمر أن هذه المقولات الشائعة أصبحت مثلها مثل الأساطير فى التاريخ القديم هى الأكثر شيوعًا، والأكثر جاذبية لدى الناس، ولا يقتصر الأمر على عامة الناس، بل حتى لدى المثقفين.

من هذه المقولات الشائعة التى تكاد تكون «تاريخًا موازيًا»، مقولة إن اسم منطقة بولاق فى القاهرة يرتبط بزمن الحملة الفرنسية على مصر فى عام ١٧٩٨. ويذهب هؤلاء إلى أن أصل تسمية بولاق ترجع إلى كلمتين فرنسيتين هما: Beau وتعنى جميل، وlac وتعنى بحيرة، وبالتالى فبولاق هى البحيرة الجميلة كما أطلق عليها «الفرنساوية»!

وأتذكر فى مرة ورد ذكر بولاق فى جلسة مع الأصدقاء، وتبرع أحدهم بطرح التفسير السابق للتسمية، وعندما ابتسمت وبدأت فى طرح الحقيقة التاريخية حول اسم بولاق، أكاد أُجزم أن معظم الأصدقاء رفضوا ما طرحته، بل أخذ بعضهم فى التأكيد على أن بولاق «فرنساوية»، «مش محتاجة كلام»، وأخذت أذكرهم بأن مهنتى هى التاريخ، ورحت أوضح خطورة المقولات الشائعة فى التاريخ.

والحق فإن تاريخ بولاق، بل اسم بولاق سابق على مجىء الحملة الفرنسية بمئات السنين؛ إذ يشير المقريزى فى حوادث عام ١٢٩٢ إلى تحول مهم فى تاريخ مجرى النيل فى القاهرة، هو ظهور جزيرة بولاق نتيجة ما يعرف بظاهرة طرح النهر، وكيف تكونت الجزيرة وكيف ارتفعت عن منسوب النيل، وذلك بسبب ما كان يتركه النيل على أرضها من طمى سنويًا، والأهم من ذلك أنها ارتبطت باليابسة، وأصبحت تربط بين الأزبكية وجزيرة الفيل، التى ستُعرف بشمال شبرا بعد ذلك.

وتختلف الروايات حول أصل كلمة بولاق؛ فالبعض يرجعها إلى أصل مصرى قديم مشتق من كلمة «بلاق» بمعنى المكان الذى ترسو فيه السفن، والبعض يرجعه إلى أصل قبطى بمعنى الجزء أو الكسرة أو الشج، والبعض الآخر يبحث لها عن أصل عربى من خلال مادة «بلق» وهى ما استوى من الأرض. على أى حال عُرفت بولاق بهذا الاسم قبل مجىء الحملة الفرنسية على مصر بمئات السنين.

وكانت بولاق منذ عصر المماليك الجراكسة، وحتى بعد ذلك فى العصر العثمانى، هى الميناء النهرى الذى يربط القاهرة بالدلتا وشمال مصر. والمثير أنه كان يوجد فى هذا الميناء ديوان للجمارك يجمع المال عن السفن والبضائع التى تدخل إلى القاهرة من الشمال. كما اشتملت بولاق على العديد من المساجد وبعض قصور أمراء المماليك الجراكسة، واستمر ذلك فى العصر العثمانى. كما كانت فى بولاق محكمة شرعية كبيرة ما زلنا نحتفظ بسجلاتها الخاصة بالعصر العثمانى، وتعتبر من المصادر التاريخية المهمة لتاريخ التطور العمرانى فى القاهرة.

هكذا نشأت بولاق فى عصر سلاطين المماليك الجراكسة، وازدهرت وتوسعت فى العصر العثمانى، ومع ذلك يصر البعض حتى الآن على ترديد المقولة الشائعة «بولاق الفرنساوية» وأنها تعنى «البحيرة الجميلة».

كم فى التاريخ من مقولات شائعة، وإذا كان أجمل الشعر أكذبه، فيبدو أن أعذب التاريخ- للأسف- أكذبه.