رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبواب القرآن 11.. «الفهوم المختلفة».. كلمة السر فى اختلافات الأئمة فى التفسير

محمد الباز- سالم
محمد الباز- سالم أبو عاصي

من بين القضايا المهمة التى لا بد أن نتوقف أمامها بكثير من التأمل، هى اختلاف ثقافات المفسرين لكتاب الله، وتأثيره على المنتج النهائى من التفسير، وهى القضية التى جعلتُ منها محورًا لحديثى مع الدكتور محمد سالم أبوعاصى، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر. 

■ الباز: اسمح لى يا دكتور أن أضع أمامك ما أعتقد أنه صواب من وجهة نظرى، فالذين يتصدون لتفسير القرآن لهم فهوم مختلفة، وهذه الفهوم المختلفة تُنتج معانى مختلفة، وهذا يكون له تأثير كبير على الناس، هل توافقنى على ذلك؟ 

- أبوعاصى: هذه القضية لا بد أن نؤصل لها بعدة تأصيلات، فالقرآن قطعى الثبوت، ما معنى قطعى الثبوت؟ يعنى أننا من خلال الدراسة العلمية استطعنا أن نستوثق يقينًا أنه منزل من عند الله، وأنه ثابت فى النقل إلينا، وعندما نأتى لمعانيه، نجد أن بعضها وهو قليل قطعى والأغلبية ظنية الدلالة، وبعض العلماء يقولون إن القرآن قطعى الثبوت ظنى الدلالة على إطلاقه، لكن القرآن قطعى من حيث الثبوت ظنى من حيث الدلالة، وما دامت الدلالة ظنية فالفهوم تختلف، لأن القطعى لا يقبل الاختلاف. 

■ الباز: دعنا نقرب المعنى أكثر، القرآن ظنى الدلالة كيف نفهم ذلك؟ 

- أبوعاصى: المعانى ظنية تعنى أنك لا تملك يقينًا أو قطعًا أن الله يريد هذا المعنى أو أن هذا المعنى هو المقصود، أنت تعمل بأدوات الاجتهاد، إلا أن يكون هناك معنى بيّنه النبى، فى هذه الحالة يكون قطعيًا، لكننا نستخدم أدوات الاجتهاد والفهم والاستنباط حتى نصل إلى المعنى، لأن اللفظ ظنى، يعنى محتملًا، ولذلك تجد أكثر الخلافات بين المفسرين والفقهاء نتيجة أن اللفظ يحتمل، ولذلك يقولون إن الألفاظ عامة مرنة تحتمل وجهات النظر، وهذا من رحمة الله، ولتظل عطاءات القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، فالحقيقة واحدة، لكن معانيها تختلف عندما تتلبس بالإنسان. 

■ الباز: الفهم تتداخل فيه عوامل كثيرة. 

- أبوعاصى: بالطبع تتداخل عوامل الزمان والمكان. 

■ الباز: والهوى أيضًا. 

- أبوعاصى: هناك أشياء كثيرة تتلبس الإنسان، فأصبحت الفهوم خاضعة للزمان والمكان، ولتفكير الإنسان وبيئته وثقافته وتربيته، وعندما تسأل: لماذا يختلف المفسرون، تجد من يقول لك: بسبب الألفاظ التى تتردد بين العموم والخصوص. مثلًا عندما يقول ربنا عن البيت الحرام «ومن دخله كان آمنًا» هذا عام لأنه من صيغ العموم، فيأتى أبوحنيفة ويقول إن العموميات فى القرآن قطعية، اللفظ العام يدل على إفراده دلالة قطعية، فمن دخله كان آمنًا بمعنى أن كل من يدخل البيت الحرام هو آمن. ثم يأتى حديث يقول «الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بدم»، ما الذى فعله أبوحنيفة هنا؟ فالآية قطعية والحديث ظنى، والظنى لا يقوى على تخصيص القطعى، فترك الحديث لصالح القرآن. 

وعندما يأتى أحدهم ليقول إن أبا حنيفة ترك السُنة، نقول له: لا، لم يتركها، لأنه كان لديه أصول يعمل بها. 

والمعنى هل العمومات قطعية أم ظنية؟ أم أن بعضها قطعى والآخر ظنى؟ 

هنا كلام طويل جدًا، ثم يأتى الشاطبى فى الموافقات وهو مالكى أيّد أبا حنيفة فى أن دلالة الألفاظ على معانيها دلالات قطعية، وذلك حتى يحمى القرآن من عبث الروايات.

■ الباز: آية «ومن دخله كان آمنًا» ومع ما قاله أبوحنيفة، هل يمكن أن الكلام مقتصر هنا على المسلمين أم أنه يشمل الجميع؟

- أبوعاصى: فى رأيى أن الآية تأتى لعموم الناس مسلمين وغير مسلمين. 

■ الباز: يعنى يمكن أن يدخل أصحاب الديانات الأخرى البيت الحرام؟ 

- أبوعاصى: هذه مسألة أخرى، لكن على العموم عندما تسأل هل يجوز لغير المسلم دخول المسجد؟ الرأى الراجح عندى يجوز. 

■ الباز: بما فى ذلك المسجد الحرام.

- أبوعاصى: بما فى ذلك المسجد الحرام.

■ الباز: يعنى إذا أراد يهودى أو مسيحى أن يدخل المسجد الحرام يجوز ذلك؟ 

- أبوعاصى: المذهب السائد هناك وهو مذهب فقهى أنه لا يجوز، لكن هناك مذاهب أخرى تقول يجوز. 

■ الباز: نظموا عملية دخول المسجد الحرام إذن بناءً على رأى يتناسب ورؤيتهم. 

- أبوعاصى: طبعًا، لكن هناك رأى آخر، فعندنا الجامع الأزهر يدخله السياح طوال الوقت، والمسجد مسجد، والآية التى تقول «فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا» أخذ يحكمها بعض الفقهاء، لأنهم فهموا المعنى العام، رغم أننا يمكن أن نفهمها على المعنى الخاص. 

وخذ عندك مثلًا آخر، قول الله «لا يصلاها إلا الأشقى الذى كذب وتولى، وسيجنبها الأتقى الذى يؤتى ماله يتزكى» يقول بعض المفسرين إن الأشقى هو أبولهب والأتقى هو أبوبكر، لكن الإمام محمد عبده رفض هذا التخصيص، معتبرًا أن الأتقى على عمومه هو من أتقى، والأشقى على عمومه هو من شقى. 

■ الباز: لا ينفى هذا أن هناك آيات نزلت فى بعض الصحابة. 

- أبوعاصى: بالطبع هناك آيات نزلت فى بعض الصحابة، لكن هناك قاعدة تقول إنه يجب التسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، يعنى آية نزلت فى مدح صحابى، وأنا قمت بنفس عمله، فالآية فى مدحى أنا أيضًا، وهذا بناءً على القاعدة العقلية. 

وعند محمد عبده أمر آخر مهم، يقول: لا تخصص ما أبهمه القرآن، على سبيل المثل عندما يقول القرآن «ادخلوا القرية»، ما فائدة البحث عن اسم القرية وهل هى القدس أو غيرها، ولو أراد الله أن يفصح لأفصح، يقول القرآن «واتلوا عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها»، فتسأل كتب التفسير عن هذا الذى تتحدث عنه الآية، كما يبحثون عن اسم ابن سيدنا لقمان الذى تحدثت عنه الآية «يا بنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم». 

ما الذى نستفيده إذا عرفنا اسم ابن سيدنا لقمان، أو اسم أُم سيدنا موسى، أو اسم ابن سيدنا نوح، هذا كله من باب علم لا ينفع وجهل لا يضر. 

أستاذنا القيعى سأله أحدهم مرة: ما اسم ابن سيدنا لقمان؟ فقال له: على، فرد عليه السائل: أنت أعلم من قابلته، أنا سألت كل العلماء ولم يعرف أحد اسمه، فقال له الدكتور القيعى: كلهم صدقوك، إلا أنا كذبت عليك. 

ما أبهمه الله فى القرآن أبهمه لحكمة، لأن ربنا يمنحك الموطن الذى تستفيد به فقط، فلا فائدة من معرفة اسم ابن لقمان، لكن الفائدة أن نعرف أن لقمان كان ينهى ابنه عن الشرك، هذا محط الفائدة. 

نعود إلى العموم والتخصيص، وهناك مثال واضح، فكفارة الظهار قديمًا كانت تحرير رقبة، هذا تعميم، يأتى من يقول لك لا بد من التخصيص برقبة مسلمة، رغم أن القرآن قالها على العموم، فتحرير رقبة هى الكفارة ولا فرق بين أن تكون رقبة مسلمة أو غير مسلمة. 

■ الباز: الناس تبسط الأمر، وستجد من يقول لك ربنا قال تحرير رقبة، ومؤكد أنه لن يقول لك رقبة غير مسلمة. 

- أبوعاصى: أبوحنيفة قال إن ربنا فى هذه مقيد بالإيمان، فقال بإطلاق رقبة فى كفارة اليمين، وهذا على إطلاقه، الشافعى قال لا، لأنه يحمل المطلق على المقيد، فيقول الرقبة لا بد أن تكون مؤمنة، أخذ القيد من آية النساء فأيد المطلق، وهنا حدث الخلاف. 

أمر آخر يتعلق بزكاة الفطر وحكم إخراجها لغير المسلم، أبوحنيفة قال يجوز، فالآية تقول «إنما الصدقات للفقراء» لم يقل الفقراء المسلمين أو غير المسلمين. 

الإطلاق والتقييد أحدثا خلافًا بين المفسرين، وذلك لأن اللغة فيها ألفاظ مشتركة، فهناك لفظ له عدة معان، فيأتى مفسر ويأخذ معنى من اللفظ ويأتى مفسر آخر ويأخذ معنى مختلفًا. 

عندك مثلًا «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء»، أبوحنيفة يقول ثلاث حيضات، والشافعى يقول ثلاثة أطهار، رغم أن «القرء» مشترك بين هذا وذاك. 

■ الباز: اسمح لى أن أقول لك إن هناك مسائل التفاصيل فيها تخص العلماء وحدهم، وعرضها على الناس لا يفيد، يعنى التربص من أجل إبراء الرحم، فإذا كان العلم قادرًا على حسم مسألة إبراء الرحم حتى لا تختلط الأنساب، فلماذا الانتظار؟ 

- أبوعاصى: القول القديم بأن العلة هى استبراء الرحم ليس كله صوابًا. 

■ الباز: كثيرون يقولون نحن لسنا فى احتياج إلى العدة، لا ثلاثة أشهر ولا أربعة أشهر وعشرة. 

- أبوعاصى: بل نحتاجها، أولًا إننا أمام نص قرآنى، فهناك علة تعبدية، وهناك علة نفسية أيضًا، لأن امرأة طلقت اليوم فكيف يمكن أن تتزوج غدًا، لا بد أن تستريح فترة من الزمن لتعيد تفكيرها وتهدأ مما حدث، والأمر يعود أيضًا إلى الفطرة ويجب ألا نتجاهل ذلك. 

■ الباز: يمكن أن يكون الطلاق برغبة المرأة ولا تعانى نفسيًا وتريد أن تتزوج. 

- أبوعاصى: أنا أشير إلى العلة النفسية فقط، لكن فى الأصل العلة تعبدية، والأحكام تدور على الأعم الأغلب وليس على النادر القليل. 

■ الباز: هل الإبقاء على ما هو تعبدى يتنافى مع مراعاة الظرف الاجتماعى. 

- أبوعاصى: التعبد ليس بالآيات ولكنه بالنية والحكم، هذا حكم أراده الله لحكمة يعلمها الله وحده. 

■ الباز: هنا المنطق لا يفصل فى الحكمة، فطالما أن هناك حكمة تعبدية، فلا تعويل على بقية العلل التى نعتقدها. 

- أبوعاصى: العلة التعبدية هى أصل العلل بالطبع. 

■ الباز: وإذا ركن أحدهم إلى علة أخرى، هل تكون لديه مشكلة؟ 

- أبوعاصى: شرط العلة ألا تعود على النص بالإبطال. 

■ الباز: هذه قاعدة ثانية. 

- أبوعاصى: العلة فى القرآن عمومًا نوعان، إما علة نصية تأتى بنص واضح، وإما علة استنباطية يستنبطها المجتهد، والعلة الاستنباطية تختلف من إمام لإمام، ومن فقيه لفقيه، والخطورة أن تعلل بما يعارض علل القرآن، وهذه مشكلة كبيرة. 

تجد من يقول لك إن الخنزير حرام، وهذا صحيح بنص القرآن، لكنه يقول إنه حرام لأنه يأكل القاذورات، فإذا عرفنا أن الخنزير فى الغرب يعيش فى مزارع فخمة جدًا، ويشرب لبن حليب، ولا علاقة له بالقاذورات، فهل معنى ذلك أنه حلال، لأن العلة انتفت. 

يأتى آخر ويقول إنه حرام لأنه يجعل الرجل ديوثًا على امرأته، تقول له إن الغرب يأكل لحم الخنزير ولا توجد لديهم دياثة، لماذا لا يعللون للقرآن؟ يكفى أن القرآن قال عنه إنه رجس. 

■ الباز: أحيانًا أشعر بأن هناك مَن يبحثون عن مبرر للقرآن فى أحكامه. 

- أبوعاصى: ربنا جعل لحم الخنزير حرامًا لحكمة يعلمها، قال إنه رجس، وحرم الخمر لأنه قال إنها توقع العداوة والبغضاء، فإذا كانت الحكمة واضحة، فيجب ألا نتفلسف ونبحث عن علل لنبرر للقرآن ما يقوله، والمفروض أن نسكت عند العلة التى نص عليها القرآن، أما العلة الاستنتاجية غير النصية فأنت تحاول أن تصل إليها عبر طريق يسمونه فى العلم مسالك العلة.

والسؤال كيف نصل إلى العلة؟ 

نصل إلى العلة بمسالك النص، وعن طريق الإجماع، وباللغة. 

وعندما نعود إلى مسألة الاختلاف بين الإطلاق والتقييد، سنجد العلماء يختلفون اختلافات بسبب اللفظ المشترك والإعراب، هذا يعرب الآية إعرابًا معينًا، وهذا يعربها إعرابًا آخر، فيظهر الاختلاف، ثم إن أفهام الناس تؤثر أيضًا، فالاختلاف ضرورة لغوية وعقلية ومجتمعية. 

■ الباز: اختلاف الأئمة رحمة يأتى من هذه الفكرة.. لكن هذا الاختلاف يمكن يقف وراء مشكلة، فأمام تعدد الآراء يمكن أن نقع فى مشكلة. 

- أبوعاصى: سمعت من أستاذ لى، رحمه الله، عندما كان يفسر «امسحوا برءوسكم» فأبوحنيفة عنده مسح الربع فى الوضوء، الشافعى يقول تكفى شعرتين، مالك قال الرأس كلها، قال: أراد الله فى هذه الآية الاختلاف، ولو لم يرد ذلك لجاء الأمر بصيغة لا تحتمل الاختلاف، كان قال امسحوا ربع رءوسكم كما قال برءوسكم، وترك الباء التى هى للالتصاق، إلى الباء التى هى للتبعيض. 

هذه الصيغة تتيح الاجتهاد وتفتح له الباب واسعًا، لكن المشكلة أننا فتحنا باب الاجتهاد نظريًا، وأغلقناه عملًا، وكلما تناقشنا مع أحد قال لك باب الاجتهاد مفتوح، لكن فى الواقع يتم الحجر على من يجتهد أو يستنبط أو يأتى برأى جديد فى التفسير الذى هو مجالنا. 

عندما تقول رأيًا مختلفًا فى التفسير، يقولون لك: من سبقك بهذا؟ هل قاله القرطبى؟ هل قاله ابن كثير؟ هل قاله الطبرى؟ وأنا أتذكر أن أحد المشايخ كان يعقب على الدكتور مصطفى محمود، بصرف النظر ما إذا كان كلام مصطفى محمود صحيحًا أم خطأ، فقال له: من قال بهذا التفسير من قبلك، رغم أنه ليس شرطًا أن يكون هناك أحد قال هذا من قبل. 

■ الباز: ينقلنا هذا إلى قضية أخرى من قضايانا فى أبواب القرآن، ودعنا نتحدث عن الحوار فى كتاب الله، وكيف أنه يمثل قيمة كبيرة هجرناها.. فاسمح لى أن يكون هذا موضع حديثنا القادم.