رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المفكر يوسف زيدان: الديمقراطية ليست السبيل الوحيد للنهضة.. وأفلاطون وصفها بأنها «أسوأ نُظم الحكم»

يوسف زيدان
يوسف زيدان

قال المفكر والأديب يوسف زيدان إن الثقافة المصرية تعانى من الكسل الذهنى وإعادة إنتاج الماضى بسبب السلطة الغشوم التى عانت منها لمدة ٥٠٠ عام، واصفًا المماليك بأنهم «شوية بلطجية» وأهم أسباب التأخر، لأن أوروبا بنت نهضتها فى عهدهم على أكتاف نحو ١٥٠ شخصًا من المثقفين والمفكرين، الأمر الذى يكشف زيف نظرية أن الجماهير هى التى تحرك الأحداث، وأن الديمقراطية هى السبيل الوحيد للنهضة. ودعا «زيدان»، خلال حديثه لبرنامج «الشاهد»، الذى يقدمه الإعلامى الدكتور محمد الباز على فضائية «إكسترا نيوز»، إلى إعادة بناء المفاهيم الأساسية فى الأذهان بعد عصور من تبنى الأكثر رداءة، مع إحياء نموذج آباء الإسكندرية، الذى مثّل شيئًا من حكم الصفوة فى بدايات القرن العشرين، وأشار إلى زيف الدعوات الإخوانية التى ترددت بعد ثورة ٢٥ يناير، وادّعت أن النخبة سبب بلاء مصر، مؤكدًا أن النخبة هى التى حمت البلاد من الانتكاس مثل غيرها بعد الربيع العربى. وأوضح أن السلطة الدينية والسياسية، التى حكمت مصر على مدار القرن العشرين، تقف وراء تجييش الجماهير، الأمر الذى صنع استنفارًا ضد المثقفين والمفكرين ودفع الناس لرفض أى أفكار جديدة، وجعل النخبة تفضل الانعزال عن التفاعل مع الشارع، منوهًا إلى أن دراسته الصوفية جعلته أكثر تقبلًا للنقد، وأكثر إقبالًا على المواجهة، بخلاف غيره من المثقفين.

■ كيف تكونت شخصية يوسف زيدان؟

- كنت طفلًا مولودًا فى الصعيد، وجدى وأخوالى كانوا يربوننى، وكنت أهرب للكتب وأحب الورق، وكانت عزائى الوحيد حينها، وقرأت المجلات المصورة فى سن مبكرة، ثم الكتب فى المرحلة الابتدائية، وكنت منذ سن الـ١٢ عامًا أقرأ حاجات أكبر من سنى، ولو رأيت أحدًا يقرأها الآن لقلت له: «حرام عليك».

فقد كنت أقرأ لشكسبير ولم أكن أفهم، وأذكر أننى قرأت كلمة «عاهرة» بأحد أعماله، ولأنى لم أعرف معناها ذهبت لأمى وسألتها عن معنى الكلمة، فقالت لى: «عيب يا ولد»، فسألت خالى، وكان كاتبًا لكنه غير مشهور، فقال لى أيضًا: «عيب يا ولد»، وظللت سنتين لا أفهم إلى أن كبرت وفتحت المعاجم وفهمت.

وعندما كان «علاء» ابنى فى سن ١٢ عامًا، أيضًا، قال لى إنه يريد أن يستمع لأغنية لفريق يطلق عليه اسم «سبايس جيرلز»، وقال لى إن الشريط حلو، وبعدها سألنى: «إنت عارف يعنى إيه «سبايس جيرلز»؟، فقلت: لا، فقال: «يعنى عاهرات»، فقلت له: «عيب يا ولد».

وهذا يعنى أن الثقافة المصرية تعيد إنتاج السابق والماضى، لذا تتخبط فى الحيط، وهذا ما انتبهت إليه مؤخرًا، فأصبحت أدعو بشدة وإصرار إلى إعادة بناء المفاهيم والتصورات الأساسية، ولو اطلعنا على كتابات القدامى سنجد أنهم واجهوا نفس مشاكلنا حاليًا، لكننا الآن عندما نجرى بحثًا عن «ابن سينا»، الذى نوّر الدنيا، سنجد نقاشات حول حقيقة إلحاده، وكأننا نحاسبه منذ ألف عام، لكننا لا نقرأ أفكاره ومنطقه. 

■ فى رأيك.. ما السبب فى هذه النظرة للماضى لدى المجتمعات النامية؟

- هذه السمة فى مجتمعاتنا مرتبطة بأشياء كثيرة، منها عدم القدرة على إعادة قراءة التصورات الأساسية، كما أنها ترتبط بالكسل الذهنى والسلطة الغشوم التى استمرت لمدة ٥٠٠ سنة تحت حكم المماليك.

وأنا أندهش جدًا عندما أجد ناسًا معجبين بالمماليك وأبطالهم رغم أن من يقرأ التاريخ الحقيقى سيرى أنهم «شوية بلطجية»، وفترة حكمهم هى التى صنعت فيها أوروبا نهضتها الحديثة، وتاريخ أوروبا هذا معروف من العصور الوسطى وصولًا إلى عصر العقل، ولو حسبت عدد الأشخاص الذين غيروا تاريخ ومسار هذه القارة ستجدهم حوالى ١٥٠ شخصًا على الأكثر، وأسماؤهم معروفة مثل «ديكارت» و«هيجل» وغيرهما.

كما أننا نعانى فى مجتمعاتنا من سيطرة فكرة وهمية تقول إن الجماهير هى التى تحرك الأحداث، وهذه فكرة مخادعة جدًا، وتلحق بها أفكار أخرى، مثل أن الديمقراطية هى الطريق الوحيد للتطور، رغم أن الديمقراطية، التى سمعنا عنها لأول مرة فى كتاب «الجمهورية» لأفلاطون، وهو أول نص فى فلسفة السياسة فى التاريخ الإنسانى، قال عنها الكتاب إنها أسوأ أنظمة الحكم، لأنها تجعل القرار يُتخذ على يد الغوغاء، أو بلغة أفلاطون «الديماجوجيين»، وهو ما يمكن رؤيته فى نتائجها، لأن ديمقراطية أثينا هى التى قتلت «سقراط»، كما أن الديمقراطية الحديثة هى التى أتت بـ«هتلر» ومحمد مرسى للحكم فى بلادهما.

وبالتالى، فإن القول بأن الديمقراطية هى السبيل الوحيد للتطور يحتاج إلى مراجعة، وإن سألتنى عن رأيى فى أنسب نظم الحكم لهذه المنطقة من العالم سأقول إنه النظام الذى يسمى فى فلسفة السياسة اليونانية بـ«النظام الأوليجاركى»، أو بالعربية «حكم الصفوة»، وهو يختلف عن مفهوم «أهل الحل والعقد»، لأن الأخير مفهوم وهمى، وتداوله الناس على أساس دينى، وإذا بحثت فى التاريخ عن «أهل الحل والعقد» هؤلاء لن تجدهم لا عند عبدالملك بن مروان، الذى هدم الكعبة مرتين، ولا عند قطز ولا بيبرس ولا محمد على ولا غيرهم.

■ ما مواصفات «الصفوة» التى تحقق النهضة كما يجب أن تكون؟

- التطبيق العملى فى التاريخ لمفهوم الصفوة أو النخبة نجده فى مدينة الإسكندرية، فى النصف الأول من القرن العشرين، حيث كانت هناك مجموعة من الناس الذين أطلق عليهم وقتها اسم «آباء المدينة» أو «المجلس البلدى»، وهؤلاء كانوا تجارًا كبارًا وكتّابًا، ومتعلمين تعليمًا جيدًا، وكنا فى هذا الوقت نسبق أوروبا، لكن الأمور تغيرت بعد ذلك فى المرحلة الناصرية.

فربما باستثناء بهاء طاهر والدكتور حسن حنفى، لأنهما أساتذة، كان هناك من يدافع عن النظام الناصرى دون النظر للأمور بنظرة واقعية، وكان محبو «عبدالناصر» يعتقدون أنه منحهم الشخصية والهوية، ولذا اقترحت ذات مرة فى بعض محاضراتى أن نضع ميزانًا ومعيارًا واضحًا للحكم، سواء على الحكام أو الحكماء، لأننا عندما ننظر للتاريخ لا نجد نظامًا حقيقيًا للحكم لدينا، فالإدارة فن وعلم.

والنخبة، التى أتحدث عنها، من المفروض أنهم من أداروا حياتهم بشكل ناجح، حتى أصبح منهم كبير التجار أو الكاتب المعترف به خارج نطاق لغته، أو رجال الأعمال الواعون، أو الصحفيون الكبار الذين تجاوزوا النطاق المحلى، أو الشعراء، أو السياسيون الذين يمتلكون الخبرات مثل قيادات حزب «الوفد» قديمًا، ولكى نعيد نموذج آباء مدينة الإسكندرية، الذين تحدثت عنهم، لا بد من إبراز هؤلاء وجعلهم فى الصدارة.

■ كيف تراجع تأثير هذه الصفوة فى رأيك؟

- على مدار سنوات طويلة تم إعلاء الأردأ، لأنه خفيف ويطفو، فإذا قام مغنٍ مثلًا بأداء قصيدة عميقة جدًا فى معانيها فالأمر يتطلب تركيزًا ووعيًا كبيرًا، وهذا عكس ما يقوم به مغنى المهرجانات الشعبية، الذى يقول «كلام عبيط»، وهذا ما يجعله أسهل، كما أنه يستسلم للإيقاع البسيط، الذى غالبًا ما يكون مأخوذًا من الإنترنت.

ولذا، قدمت مرة «لايف» عن أغنية «بنت الجيران»، والناس اندهشت من الأمر، لكن ما استوقفنى فيها كان منطلق ومعانى الكلمات التى يسمعها الناس ويتراقصون عليها، فـ«بنت الجيران» تشغل عينه لا باله، ويقول لها «وتميلى» وكأنه يحب «رقاصة»، وهو «يشرب خمور وحشيش» وكأنه ينتقم من نفسه.

ولذلك أصبحت العلاقات الإنسانية «فاضية»، ورداءة المطروح عبر الأغنية عكست الواقع، وقرأنا بعدها عن حوادث القتل مثل نيرة أشرف وغيرها، وهذا ما أزعجنى وجعلنى أقف عند الأغنية، وأجدد الدعوة لإعادة بناء التصورات الأساسية فى الأذهان.

وللأسف، بعد ثورة ٢٠١١ خرجت نغمة إخوانية تردد أن النخبة هى سبب البلاء للدولة، وهذا أزعجنى كثيرًا لأنه كان يتردد فى الإعلام، وكنت أرد وأقول إن نخبة أى شىء هى خلاصته العليا، فالفريق الذى يلعب باسم البلد اسمه المنتخب، من النخبة، فكيف يكون سبب البلاء، بل على العكس، فإن النخبة هى السبب فى أن مصر لم تنتكس، كما انتكس غيرها من الدول فى الربيع العربى أو العبرى، ووجود أفراد يفكرون ويتحدثون مع الشباب هو ما حماهم، ومن حمى وزارة الثقافة فى عصر الإخوان كان النخبة.

ولذلك نجونا إلى حد ما جزئيًا من الانهيار الذى حدث فى بلاد أخرى، مثل سوريا واليمن، والتى لا تزال تعانى حتى الآن، وبالخبرة والموضوعية والمنطق فإن القول بأن النخبة هى سبب البلاء فى مصر أمر غير معقول.

■ فى رأيك.. كيف يكون دور المثقفين فى رد الاعتبار للنخبة؟ وما سبب تراجع دورهم حاليًا؟

- الدور كان ولا يزال موجودًا، لكن بنسب مختلفة، ففى فترات الأمل مثلًا ينتعش جدًا، وفى فترات الحصار ينكمش، ويمكن أن نستعرض هنا أمثلة فعلية من التاريخ، فمثلًا كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» لو أبعدنا منه بعض الإشارات الخاصة بعصره فى الثلاثينيات سنجد خطابًا فكريًا مناسبًا لوضعنا الحالى مثلما كان مناسبًا لنا منذ ٦٠ عامًا، وهذا يعنى أننا تراجعنا.

لكن أيضًا هناك معنى أكبر فى ذلك المثال، وهو أنه تمت مقاومته من أصحاب السلطة السياسية والدينية، وكلاهما يتقاسم السلطة منذ القرن العشرين، وهكذا تم تجييش الجمهور ضد المفكرين، فالجمهور الذى تم تجييشه ضد طه حسين تم تجييشه أيضًا ضد نجيب محفوظ فذبح احتفاءً بحصوله على جائزة «نوبل» فى الآداب، وهذا التجييش هو الذى قتل فرج فودة وطرد نصر حامد أبوزيد، رغم أنك فى كل حالة منفردة يمكن أن تقول إنه لم يكن فعل السلطة أو المشايخ.

وطه حسين، عندما تم تقديم الشكاوى ضده فى النيابة، وفق قانون «الحسبة»، تم التحقيق معه، ونقرأ فى محضر التحقيق أن رئيس النيابة محمد نور قال له: «إنك تقول إن لغة العرب فى شمال الجزيرة كانت مختلفة عن العرب فى جنوب الجزيرة، فهل يمكن أن تقدم لى دليلًا على ذلك؟»، فرد طه حسين، حسب المحضر، وقال: «أنا لا أقدم شيئًا».

ولو تخيلت المشهد بشكل روائى ستشعر بحسرة طه حسين، فهو أستاذ جامعى أخذ الدكتوراه من فرنسا وكتب عن «المتنبى» وناقش الشعر الجاهلى ودرس وكتب نصوصًا روائية وأدبية وخرّج أجيالًا من المفكرين، ويعرف أن الدليل فى المكتبات والبحوث التاريخية، لكنه اكتفى بالرد بحسرة وقال: «أنا لا أقدم شيئًا».

وعندما ننتقل للستينيات نجد أن ٧٥٪ من كتّاب ومفكرى مصر تم اعتقالهم، وذات مرة قلت لثروت عكاشة: «كل أصحابى اللى أكبر من ٢٠ سنة اُعتقلوا فى وقت حضرتك عندما كنت وزيرًا للثقافة، فكيف حدث ذلك وأنت أكثر وزير مثقف فى تاريخ مصر؟».

فقال لى: «هاقولك حكاية.. الكاتب لويس عوض بعد فض الوحدة بين مصر وسوريا استقر فى سوريا وظبط أموره، وبعدها كنت فى باريس، ووجدت خبرًا فى جريدتى (الأهرام) و(الجمهورية) يقول إننى أصبحت وزير الثقافة فى عهد جمال عبدالناصر، فاتصلت بمصر، فقال لى أحدهم فى الحكومة إن علىّ أن أركب أول طائرة وأعود لمصر، وكان لى شرط واحد، وهو أن أجلس مع (عبدالناصر) ليوافق على إحضار لويس عوض، ليكون مستشارًا لوزارة الثقافة».

وأضاف: «بعد ذلك طلبت لويس عوض، فقال لى: يا ثروت.. سيبنى فى حالى.. أنا مبسوط هنا فى سوريا، وبعد الإلحاح عليه وافق وحضر إلى مصر وتولى المنصب، لكن بعد ٣ أشهر فوجئت باعتقاله، واستيقظت منزعجًا على الخبر، ونزلت من البيت بشكل غير لائق وذهبت إلى وزارة الداخلية، وانتظرت الوزير حتى وصل إلى مبنى الوزارة، فبادرنى وقال لى: لا تتكلم فى موضوع لويس عوض، فشعرت بمهانة فادحة، وظل لويس عوض فى الحبس حتى أيام الرئيس أنور السادات». 

هذه القصة توضح لك أفعال السلطة المباشرة، وهى رغم فداحتها أقل ضررًا وتأثيرًا من تجييش الجمهور ضد المثقفين والنخبة، لكنها تجعل هناك استنفارًا ضد المثقف، وعندما يقول أحدهم إن النخبة هى سبب البلاء فهذا يزيد من استنفار الناس، ويجعلهم يرفضون أى شىء تقوله.

■ هل انتشار مواقع التواصل الاجتماعى سهّل انتقاد الناس وأفكارهم؟

- تجييش الجمهور ضد أى فكر جديد هو المستوى الأخطر والأعمق، وهذا كما قلت من فعل السلطة الدينية والسياسية، وعن نفسى عانيت من ذلك، وعندما أطرح أى فكرة أجد الناس يسبونها ويقولون: أصله عايز جايزة نوبل، وهذا أمر لم يخطر على بالى أصلًا.

ونحن، بالطبع، خسرنا بسبب هذا التجييش، وتراجعنا بشكل كبير جدًا، والدليل على ذلك هو أننا كنا فى سنة ١٩٥٠ على نفس النسق الفكرى مع كبرى دول العالم، وكانت القاهرة والإسكندرية فى مستوى حضارى يماثل، وربما يتفوق، فى بعض السياقات على لندن وباريس، بحُكم الحرب هناك فى ذلك الوقت، واقتصاديًا كان وزير الخارجية الأمريكى يأتى إلى الملك فاروق كى يطلب منه أن يساعد أوروبا، ومصر كانت تدين بريطانيا بالملايين، لكنها لم تكن تريد أن تدفع بحجة أنهم ساعدونا خلال فترة الحرب العالمية، ولنا أن نتخيل أن هذا ما كان يشغل مصر فى ذلك الوقت.

والتجييش، الذى أتحدث عنه، انعكس بالطبع على المثقفين، فالطبيعة البشرية عندما تجد المحيط العام مستنفرًا ضدها فإن هذا يجعل بعض الناس تفضل الصمت، أو تتعب وتمل، ومن يكمل سيكون جزءًا صغيرًا جدًا من التيار الأساسى المفروض أن يتفاعل مع المجتمع.

وستجد كثيرًا من المثقفين قد قرروا أن يأخذوا «طريق السلامة»، وهؤلاء أصبحوا الأغلبية حاليًا، رغم أنهم كانوا يقاومون فى البداية، لأن المثقفين دائمًا ما كانوا يعانون، بداية من زمن الرئيس الراحل أنور السادات، وخلال عهد حسنى مبارك، وأيامه مثلًا كانت هناك واقعة لوزير الإعلام فى ذلك الوقت على الملأ فى التليفزيون مع عضو مجلس نواب قال: «أنا بافكر»، فرد الوزير: «لأ ماتفكرش.. إحنا بنفكر لكم».

■ ما دلالة مثل هذه الوقائع على المثقف؟ وهل السلطة تخاف من التفكير؟

- للأسف كارثة، فالمفروض أننا كلنا نفكر ونطرح أفكارنا على بعضنا، ومثلما قال «أفلاطون»: «المعرفة تتولد باحتكاك النفوس»، والسلطة لا تخاف من التفكير لكنها حريصة على إبقاء السلطة فى يدها.

وهذا ما أكدته الجماعة الصوفية عندما قالت إن آخر شهوة تخرج من قلب «الولى» هى «حب الرياسة»، بمعنى أن الصوفى عندما يبدأ توجهه للعالم الروحانى الأعلى فإن الشهوات المادية تقل رويدًا رويدًا، مثل حب التملك والمال والبنون والنساء وغيرها، لكن آخر شهوة تخرج منه هى «حب الرياسة»، لأنها متشبثة بقلب الفرد ولا تتركه إلا بعد التجرد وخوض التجربة الروحية الكبيرة، فهو من أجلها يمكن أن يضحى بأى شىء.

■ تُمثل نمطًا من المفكرين المتفاعلين مع الشارع ما يختلف عن غيرك ممن قرروا العزلة عنه.. فلماذا اتخذت هذا المسار؟

- لأنى فى هذا أختلف مع بعض الأصدقاء من الأدباء الذين يتحدثون عن فكرة الإبداع المُطلق، وأرى أن المثقف الذى يتعامل مع الشارع أكثر مرونة وتطورًا، فعندما أقرر أن أكتب رواية أو مقالًا فإنى أسأل نفسى: هل أنا أكتب لنفسى أم للجمهور؟، ولأنى أكتب لمن يقرر أن يشترى كتابى ويقرأه فإن لهذا القارئ حقًا علىّ، لذا فقبل أن آخذ الرواية للناشر أكوّن لجنة من القراء من طبقات مختلفة من الثقافة والمعرفة لمراجعتها، ثم أناقشهم فى انطباعاتهم عنها.

■ هل تعتب على المفكر المنعزل عن الشارع؟

- بالطبع لا، لأن لكل مثقف طاقة وظروفًا مختلفة عن غيره، لكنى، بحكم أننى بدأت بالدراسات الصوفية، قد تحررت من أشياء كثيرة، وأتقبل كل النقد و«مبقاش فارق معايا حاجات كتير».

وأرى أن علىّ أن أكون قريبًا من الشاب والفتاة اللذين اقتطعا من مصروفهما ليشتريا رواية أو قصة لى، ولو كان الأمر علىّ لجعلت كل كتبى بالمجان، لكن لا يوجد ناشر يمكنه أن يتحمل تكلفة ذلك. وفى آخر ندوة لى قررت طرح كتبى بسعر أقل من سعرها فى السوق، وأيضًا فى وقت ما كنت أتفاعل على موقع «فيسبوك»، وأطرح أسئلة أسبوعية وشهرية وأقدم جوائز كانت عبارة عن كتب، كنوع من التفاعل مع الشباب.

■ ما تفاصيل زيارتك إلى الفاتيكان بعد صدور رواية «عزازيل»؟

- دُعيت إلى الفاتيكان بعد صدور رواية «عزازيل» باللغة الإيطالية، والرواية تدور أحداثها فى القرن الخامس الميلادى، ما بين صعيد مصر والإسكندرية وشمال سوريا، عقب تبنى الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية، وما تلا ذلك من صراع مذهبى داخلى بين آباء الكنيسة من ناحية والمؤمنين الجدد من ناحية، والوثنية المتراجعة من ناحية ثالثة.

وأتذكر أن البابا فى ذلك الوقت- البابا بندكت السادس عشر- قال لى إن الرواية «فى صف المسيحية»، لأنها تتحدث عن المحبة ضد التعصب، وهو ما يتنافى مع عقيدة «الصلب» فى الاعتقاد المسيحى، لكن لأننى كنت ضيفًا هناك شعرت بالحرج من الحديث فى الموضوع.