رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اليوم.. "المارونية" تحيي ذكرى الزاهدَين في المال كيروس ويوحنّا

الكنيسة
الكنيسة

تحتفل الكنيسة المارونية بذكرى القدّيسَين الصانعَي العجائب الزاهدَين في المال كيروس ويوحنّا، والقدّيس كيروس اسكندري الأصل. أما القدّيس يوحنا فمن الرّها بين النهرين. وقد استشهد الاثنان في مصر سنة 312. وإذ جرت على ضريحهما عجائب عديدة لقبا "بالطبـيـبـين الزاهدين بالمال"، أي إنهما كانا يشفيان المرضى اللاجئين إلى ضريحهما، بنعمة المسيح وقدرته، دون أجر زمني.

العظة الاحتفالية

وبهذه المناسبة القت الكنيسة عظة احتفالية قالت خلالها: لماذا قام يهوذا بخيانة الرّب يسوع المسيح؟ يحمل هذا السؤال الكثير من الفرضيات. قد يجيب البعض أن السبب هو الجشع وقد يساند البعض الآخر تفسيراً آخر: شعور يهوذا بالإحباط لأن الرّب يسوع لم يساند مشروع التحرر السياسي والعسكري في بلاده. في الواقع، إن الكتب الإنجيلية تصرّ على مفهومٍ آخر: فيقول يوحنا "وفي أَثْناءِ العَشاء، وقَد أَلْقى إِبَليسُ في قَلْبِ يَهوذا بْنِ سِمعانَ الإِسخَريوطيِّ أَن يُسلِمَه"، وكتب لوقا بطريقة مشابهة: "فدَخَلَ الشَّيطانُ في يَهوذا المَعْروفِ بِالإِسْخَرْيوطِيّ". فبهذه الطريقة، نذهب أبعد من الحوافز التاريخية ونفسّر القضية من حيث مسؤولية يهوذا الشخصية الذي انصاغ لتجربة الشرير. ولكن تبقى خيانة يهوذا سرًّا، فقد عامله الرّب يسوع كصديق، ولكن في دعواته لكي يلحق به على طريق القداسة، لم يُرغِم إرادة يهوذا ويعزِّزها ضد تجارب الشيطان، مُحتَرِما بذلك الحريّة البشرية.

لنتذكّر أيضاً حين حاول بطرس أن يعترض على كلام الرّب يسوع وعلى ما سوف ينتظره في أورشليم، وتلقى حينها تنبيهاً حاداً: "أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر"، وبعد وقوعه، ندم بطرس ووجد الغفران والنعمة. ندم يهوذا هو الآخر، وانهار في يأسه ووصل الى مرحلة الدمار الذاتي... لنتذكر دائماً أمرين: الأول: إن الرّب يسوع يحترم حرّيتنا، والثاني: إنّ الرّب يسوع ينتظر جهوزيتنا للتوبة والعودة إليه، فهو مملوء رحمةً وغفراناً. 

أما في ما يتعلّق بالأمور الأخرى، عندما نُفكّر بالدور السلبي الذي لعبه يهوذا، يجب أن نضعه في خانة التدبير العلوي للحوادث من قبل الله؛ فخيانته هي التي أوصلت الرب يسوع الى الموت، الّذي بدوره قام بتحويل هذا العذاب المريع الى مناخٍ من الحبّ المسالم والى تسليم الذات الى الآب. إن ترجمة كلمة "خيانة" من اليونانية تعني "البذل". حتى أن الله، محبة بنا، بذل يسوع من أجل خلاصنا. ففي مشروعه الخلاصي السرّي، استغلّ الله عمل يهوذا غير المُبرَّر لكي يهب بالتّمام ابنه لخلاص العالم.

"يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس". لِمَاذا لُمتَ سمعان بطرس عندما قال: "حاش لك يا ربّ! لن يصيبك هذا!"، وها إنّك تقول الآن "إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس؟" إنّ الربّ يسوع كان يعرف جيّدًا ما يقوله لأبيه، وإنّه كان من الممكن أن تبتعد تلك الكأس، لكنّه ما جاء إلاّ ليشربها من أجل الجميع وليسدّد بها الدين الذي لم يقدر موت الأنبياء والشهداء تسديده... إنّ ذلك الذي، من خلال الأنبياء، وصف تسليمه إلى الموت وأعطى صورة مسبقة عن سرّ موته من خلال موت الأبرار، لم يرفض أن يتجرّع هذه الكأس، عندما حان الوقت لإتمام ذلك. فلو لم يشأ شربها، بل إبعادها لما قارن جسده بالهيكل عندما قال: "اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام!"، وما كان ليقول لابنيّ زبدى: "أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟". وأيضًا عندما قال: "وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ".

"يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس". لقد قال ذلك بسبب الضعف الذي لبسه طوعًا، لا ظاهريًّا إنّما بالفعل. لأنّه جعل نفسه صغيرًا واتّسم فعلاً بضعفنا، كان عليه أن يخاف ويتزعزع في ضعفه. فلأنّه صار من لحم ودم، ولأنّه اكتسب الضعف، ولأنّه كان يأكل عندما يجوع ويتعب عندما يعمل ويغلبه النعاس، كان يجب أن يتمّم كلّ ما يتأتّى من الجسد عندما حانت ساعة موته.

لقد شعر الرّب يسوع بما شعر به تلاميذه لكي يعزّيهم بآلامه، وأخذ خوفهم ليظهر لهم أنّه يجب عدم التباهي بموضوع الموت قبل الخضوع له. وبالنتيجة، إذا شعر ذلك الذي لا يخشى شيئًا بالخوف وطلب أن يُخَلَّص، رغم أنّه كان يعرف أنّ ذلك مستحيل، فكم بالحري يجب أن يثابر الآخرون على الصلاة قبل التجربة كي يخلصوا عندما يتعرّضون لها... ولكي يشجّع الذين يخشون الموت، لم يخفِ خوفه ليعرفوا أنّ هذا الخوف لا يوقعهم في الخطيئة طالما أنّهم لا يبقون فيها. "يا أَبتِ... لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء". فلأمُت لكي أعطي الحياة لكثيرين.