أروى.. من رواية مقامات الغضب
مثل كثيرين أفعل كل يوم أشياء عديدة، لكنى فى الحقيقة لا أفعل شيئًا.. أبدد طاقتى فى كل الأفعال؛ أصحو، أذهب للعمل، أحب، مثل كثيرين أفعل كل يوم أشياء عديدة، لكنى فى الحقيقة لا أفعل شيئًا.. أبدد طاقتى فى كل الأفعال؛ أصحو، أذهب للعمل، أحب، أكره، لكن لا أثر، لا نتيجة. كل ما أفعله صاخب، مشتعل، منفجر؛ بوم.. بوم، ثم لا شىء.. هدم.. هدم.. معول يسقط على كتلة، بناية، علاقة، رابطة، فتطير أجزاء الكل دون اعتبار لأى قانون أو قاعدة، ينهار المتماسك، يتفتت الصلب. تتطاير شظايا، أجزاء مشوهة، منبعجة، لا يمكن تجميعها تلقائيًا، قد يتمكن الضغط، أو التحوير من تجميع المتشظى، حيث تتوالد المخلوقات الخربة، الرعب المجسد لعدم الانسجام، عدم التوازن.
أنا واحدة من الكائنات التى تتشظى طوال يومها، وفى الصباح التالى تعيد تركيب أجزائها.
أقرب ما أكون للعروسة «تشاكى»، «أنا تشاكى.. هل تريد أن تلعب؟».
لا. ليس اسمى «تشاكى»، اسمى أروى.. أسمانى أبى أروى، كيدًا فى أمى التى كانت ترغب فى تسميتى «منة»، لكنه سجل اسمى فى الشهادة أروى، وفرض اسمى عليها.
لا يعرف أبى معنى اسمى، فهو يختار الأشياء اعتباطًا، لا يعرف عالم المعانى أو الدلالات، لكنى أعرف، المعرفة الآن متاحة إلى حد التخمة، ضغطة على الموبايل تقدم لك معرفة العالم، ضغطة تختزل كل الجهود وتقدمها لك كى تتباهى أكثر وأكثر بما لم تتعب فيه..
اسمى أروى، أنا: النعومة والخفة والرشاقة.
اسمى أروى: العطوفة والحنونة، الطيبة القلب والمتسامحة فى أغلب الأوقات.
اسمى أروى: المحبة للتسلية والمرح. الذكية جدًا والتى تعرف متى تتكلم ومتى تصمت، ويسهل عليها إقناع الناس بما تريد.
إذا رأيتنى، ستجذبك براءة شابة جميلة تعانى منذ أصبحت فى الصف الخامس من تفتيش الراهبات وإصرارهن على مسح رموشها الطويلة للتأكد من أنها لا تضع ماسكارا، أهدابها الطويلة تلقى ظلالًا على خد بارز الوجنتين، تجعلك تدرك أن سحر نظرتها يتأكد بهذه الإغماضة والكثافة التى تحمى سرًا، لا تريد لأحد أن يطلع عليه.
تحترف اللعب بالكوتشينة، تعلمتها من جدتها «هانم»، جدتها لأبيها.
الجدة.. قوية، واسعة الحيلة، لكنها سهلة الخديعة، متقلبة المزاج تنتقل بين الضحك والصراخ فى لحظة، هى امراة بلا قوانين غير قانون مزاجها، تتغير القواعد وفقًا لحدته، تعكره، روقانه، فيمكن للصغيرة أن تهمس لها وهى تشير لورقة كوتشينة: تيتة، البنت الجميلة الحلوة دى هى اللى تكوش. تفقد الجدة العجوز موروثها، وتهز رأسها ضاحكة: البنت اللى بتكوش.
تبتسم البنت وهى تضع قواعد وتهدمها، يومًا وراء يوم يشتد عودها وتمارس ألعابًا أكثر دربة وخبرة، وتخترع ألعابًا جديدة، لم يسمح بها أحد، وهى التى ستتحكم فى قواعدها قربًا وبُعدًا، بداية ونهاية. مع ماما، بابا، جدو، كل مدرس ومدرسة وكل زميل، وعندما تتخرج ستجد السيرك الأكبر منصوبًا.. المسألة هى اللعب.. ليس المرح أو التهريج أو المزاح. لكنه اللعب فحسب.. كأنه يتيح لها/ لك، الهروب من المسئولية، الخروج عن القواعد، ليس القواعد فلكل لعبة قوانينها التى يجب أن يعرفها اللاعبون قبل أن يبدأوا اللعبة، لكن ماذا عن تغيير القوانين، ماذا عن الألعاب الارتجالية، عن مهارة اختراع ألعاب جديدة تحوير، القواعد المتفق عليها، طمسها، تشويشها؟
يبدأ الأمر بتحريف صغير فى القاعدة بتغيير لون، موضع البداية: إحنا بنكوش بالبنت.
ليس عليها إلا أن تكرر العبارة بثقة وضغط على كل مخارج الحروف اللاهثة والشفهية.. وهى تصوب عينيها لمن يلعب معها، ثم تغلق الكادر برموشها كأنها تأتمنه على سر خاص بينهما.
ترفض ماما هذه الألعاب، تصر على أن أحترم القواعد والأصول رغم أننى لم أعد طفلة، وهى نفسها ذاقت المر من قواعدها وأصولها.
ها أنا أعيد تركيب وجهى وألطع عليه ابتسامة تناسب الرضا الذى يغمر ماما حتى لا أعلق فى دروس التنمية البشرية التى تحرص على حضورها؛ كيف تحافظين على رشاقتك؟ تساؤل يليق بالسيدات الفارغات، لذا لا بد من تطعيمه بشىء من: كيف تكسبين الثقة بالنفس، كيف تتحكمين فى غضبك؟ كيف تطورين علاقاتك؟ الجيم وصالات اليوجا، حلقة من الحلقات المفرغة التى تتوه فيها النساء، لا بد من التفخيم وإضافة دبلومة التغذية الخلوية، دبلومة المهارات الاتصالية، حتى تعبير التنمية البشرية، أصبح «أكلشيه» مستهلكًا، باليًا، يشبه الشعارات السياسية التى لم يتحقق منها شىء.
كل دروس التنمية الذاتية لم تستطع أن تغير علاقتى بماما، دائمًا هناك اعتراض منها على شىء، ودائمًا هناك طلب منى لشىء، أى منا لم يتغير رغم تجاوزى مرحلة المراهقة.. الخلافات المتكررة، تستنزف طاقتى، أهرب لسريرى، أهرب لشاشتى الصغيرة، الفرق الموسيقية الجديدة، العالم يتجه شرقًا لليابان، لكوريا، الشجار لا ينتهى بينى وبين ماما حتى إنى أسميها «السيدة التى تقيم فى الغرفة المجاورة»، أحاول أن أبتعد بعالمى عنها، بالصراخ، بالمراوغة.. لكن أعود وأحتاج إليها؛ علاقتنا باليومية، بالقطاعى. تتهمنى بالسطحية، بالتسرع، هذه حقيقة، لكنى لا أراها صفة سلبية، من يريد العمق؟ من يريد هذا الحكمة فى زمن اللا عقل؟
عرضوا علىّ أن أعمل مذيعة رفضت، أخشى مواجهة الكاميرا.. درست الإعلام فى الجامعة الأمريكية، لا توجد لدىّ موهبة محددة، أعمل منتجًا فنيًا فى قناة تليفزيونية، دخلت الإعلام لأنها مهنة ودراسة سهلة، أعرف أننى لم أحقق طموح أمى عندما أدخلتنى «الباك» كى أكمل تعليمى فى فرنسا، لكنى لم أكن أريد السفر فى تلك السن، لا أعرف ماذا أفعل وحدى، لا أستطيع أن أعيش فى نُزل للشباب أو مع عائلة فرنسية، لى صديقات يدرسن الاقتصاد فى سويسرا، أو السياسة أو القانون فى القسم الفرنسى فى جامعة القاهرة، لكنى أردت شيئًا سهلًا، لا أريد تعقيدات، حتى العمل بالإعلام لا يحتاج إلى دراسة. لكنها شهادة أرضى بها ماما. أو عمل الحد الأدنى مما هو واجب، ما فائدة أى شىء؟ إذا كانت الحياة تعود لتبدأ من جديد، من نقطة الصفر، ما الجدوى إذا كنا عرضة دائمًا للخسارة ولا شىء مجانيًا؟
اقترحت ماما كلية الألسن واللغات قسم لغة فرنسية كى أستفيد من دراستى، لكننى رفضت، الترجمة تحتاج لإعادة بناء التراكيب وضبط اللغة، الترجمة تحتاج لصبر، وأنا لدىّ غضب.. يملؤنى غضب هائل ضد نفسى، ضد ماما، ضد بابا، ضد جدى، ضد فادى.. غضب من استخدام الآخرين لى، غضب من استغلالى للآخرين.
ما الذى يقضى على الغضب؟ يفرغه من طاقته، يحوله لشىء أبله بلا معنى؟ لا شىء يعادى الغضب كالملل والتكرار، الغضب دائمًا طازج، فى كل مرة تفور الدماء، تتسع الشرايين وتعمل مضخات القلب بأقصى قوتها وتدفعك الهرمونات لحافة الهاوية، ويتحول العالم لحفرة، هوة، صراخ من السقوط المفاجئ، الذى لم يحدث بعد، أو ربما يحدث فقط فى خيالك، لعبة المحاكاة.. أحبها فى أفلام الرعب، لكنى لا أحب لعبة القطارات حيث تتحرك القضبان بسرعة تفوق السرعة العادية آلاف المرات.. تسبب قطار «إنديانا جونز» أو قطار الموت فى «ديزنى باريس» فى خصام دام يومين بينى وبين أمى. شاركتنى اللعبة لكنى كنت وحدى تمامًا فى الصعود الخاطف والانحدار السحيق، أربع دقائق قضيتها فى الصراع، فى المباغتات، عدم الاتزان المطلق، ما إن توقف القطار، حتى أفرغت ما فى معدتى على بوابة الخروج وعلى الممر، أخذت أجرى، وأمى تجرى خلفى، تحاول أن تلمسنى، أن توقفنى وأنا أنفر منها، أهرب لا أعرف أين أسير، أتخبط ولكن على الأرض.. مجرد الجرى على أرض صلبة كان يريحنى، استمررت فى الحركة والصراخ.. صراخ لم يقطعه البكاء أو تهدئه الدموع، احتجت لساعة حتى أستطيع الوقوف واستعادة توازنى.
ظلت ماما تهرول خلفى، تحافظ على مسافة بينى وبينها، وعندما نظرت لها كان وجهها محتقنًا من الدموع وكان صوتى محتقنًا من الصراخ.. الصراخ طاقة، طاقة انشطار.. والغضب طاقة.
ليس ذنبى أن وعيى تشكل من الغضب الممزوج بوجع وألم أرصده من خلف زجاج سيارتنا «الفيميه» وأنا فى طريقى يوميًا من البيت للمدرسة.. فى الصباح تكون الحياة هادئة والمرضى لم يصلوا بعد لمستشفى قصر العينى القديم، فى طريق العودة بعد الظهيرة، يكون المرضى الذين لم يحصلوا على الدواء المناسب قد أجهدهم الوقوف فتنحنى ظهورهم أكثر ويظهر على وجوه ذويهم إحباط غاضب، وعلى وجوههم غضب متألم، يمرون من أمامنا بلا مبالاة، بتجاهل لكل الإشارات، والكلاكسات، يرمون بأجسادهم على «كبوت» السيارة، يصرخ وليد السائق: أنت يا بنى، ابعد، أنت يابا، وسّع طريق.
يشيحون بأيديهم وشفاههم الملتوية وقد يبصقون على السيارة ويواصلون طريقهم، مستنزفين من كل طاقة.
الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم.. لو أن هناك اختراعًا يتمكن من تحويل كل البشر إلى مفاعلات للطاقة، السعرات المحترقة من الأجساد السمينة، الأجساد المترهلة، كل الشحوم.. تتحول إلى طاقة، الكلام، الصراخ، الاحتجاجات، تتحول لطاقة.
الفضاء يكاد ينفجر من الكلام، «فيس بوك» المقهى العالمى الكبير، يتحول الصراخ إلى غضب دائم مكتوم.. وهذا البيت مصدر كبير للغضب، نوافذه الزجاجية التى تجعل الشمس تسكن فى غرفتى، أشعتها تهاجم وجهى، فأنهض من السرير غاضبة لأغلق الستائر الـ«بلاك أوت»، وأحاول العودة للنوم، ومع تقلبى فى السرير وهروب النوم منى ومطاردتى له.. يزداد تدفق الغضب، الحمم البركانية تتناثر وتسيل وتحفر أخاديدها فى رأسى، النوم الغاضب يقذفنى فى أحلام فلاشية، غير مترابطة، تتداخل الأصوات التى تستطيع أن تخترق أدوارًا عدة وتتسلق أشجارًا عتيدة، أصوات المتظاهرين فى كل الجمع، طلقات الرصاص، انفجار مبنى مديرية الأمن، الجلبة الصباحية لركن سيارات أساتذة وطلبة طب الأسنان أمام المتحف المواجه لفيلتنا، الصوت النشاز للمرأة التى تركن السيارات وتفرض إتاوة يومية للركنة، لقد بلغت من الوقاحة أن جاءت تستأذن جدى فى أن تركن السيارات بجوار سور الفيلا، كيف تمالك جدى نفسه من الغضب؟! وهى تخاطبه: «يا باشا أنا مأجرة الجراش من الحى وأنا هنفعك، بالنص يا باشا».
كل الثورات والاحتجاحات تعود بنا للدائرة ذاتها، ويصبح أكبر إنجازات ثورة يناير أنها أتت بالإخوان إلى الحكم وإنجازها الأعظم أنها جعلت بعض التكاتك تجرؤ على دخول «المنيل»، كل ذلك لكن ماما لا تريد الاعتراف بالواقع، وتتجاهل كم المنغصات والإزعاج الذى يحاصرنا؛ رنات الموبايل، رسائل الفيس، الواتس، التكات التى لا تصمت، الاهتزازات التى لا تتوقف. يبدو أن لا شىء يدعو للراحة كل ما داخلى وما حولى غاضب، مضطرب.. الملاحظات الدائمة: «فيه آنسة تضع مونيكير أسود؟! عمرى ما شفت شعر بصبغة زرقاء! هو عقل أدفع فلوس فى البناطيل المقطعة دى! فرقة BTS بنات ولا صبيان؟».
كل ما أريده أن تعاملنى كإنسان بالغ عاقل راشد ولست طفلة، لقد كبرت وهذه الحماية والمتابعة الدقيقة تخنقنى، طوال الوقت شكوى من تصرفاتى، وإحساس بالخيبة والإحباط وأننى أقل من مستوى توقعاتها، طوال الوقت نصائح، ألا يوجد غير الكلام فيما يصح؟ المذاكرة، المدرسة، حتى الشتيمة التى لا تسمح بها نحن نعتبرها أداة إقناع، وأحيانًا أحل بصراخى مشكلة مع نفسى. تحاول السيطرة على وقتى، تنظمه وفق ساعتها البيولوجية واهتماماتها، أين ماما التى كانت تدللنى وتستمع لحكاياتى وخرافاتى وتضحك عليها؟ الآن صار كل شىء جادًا وعقيمًا.
وجدّى لا يكف عن النصائح الاستراتيجية على شاشات التليفزيون أو فى الحياة «أنا ضد ترقية أمين الشرطة لضابط شرطة بعد حصوله على كلية الحقوق من التعليم المفتوح، هل سنضحك على أنفسنا أغلب هؤلاء الأمناء يحصلون على الشهادة بالغش من مذكرة يشتريها من مكتبة خارج الجامعة قبل دخوله الامتحان، أنا مع ترقية الأمين الذى حصل على الثانوية العامة وأن يدرس القانون فى الجامعة، وأن يصبح ضابطًا، لأنه أكثر وعيًا وكان متفوقًا فى دراسته».
بعد سنوات من يناير يمكن لجدّى أن يردد شعاره على شاشة التليفزيون «ارفع رأسك فوق أنت ضابط شرطة»، يمكنه أيضًا أن يشير بأصابع الاتهام للثوار الغر السذج، إشاراته تحقر من يقين تمسكنا به لأيام، تبدد ثقة أننا حقًا نستطيع، لا أحد يتخلى عن دوره، كل يتمسك بمكانه على المسرح، ويزاحم الآخرين كى يكون فى المنتصف حيث دائرة الضوء، الوجوه تلمع، تبتسم وخلف الكواليس الكل غاضب، الغضب يغسل زيف وجهنا. فى الغضب تكتسى وجوهنا تعبيرات حيوانية بدائية تعود بنا لصراحة وعرى الغابة.
لماذا غضب جدى عندما اكتشف أننى المنتج التنفيذى لبرنامج تسجيلى عن «التفريعة الثانية للقناة» وتمت إذاعته على قناة دويتشه فيله؟
- أنت أسهمت واشتريت شهادات استثمار فى المشروع؟
- نعم يا جدى، اشتريتها لأنها ستكسب، ولكن الديون والقروض.. تضخمت.
- هذا عمل عظيم والدولة تحتاج لمشروع يلتف الناس حوله.
- يا جدى، محافظ البنك المركزى نفسه قال: إن مشروع قناة السويس وإنشاء محطات كهرباء جديدة تكلفت مليارات.
- يا أروى، ليس كل ما يُعرف يُقال، وأنتِ وأصدقاؤك لا تعلمون شيئًا.
الموضوع أبسط مما يتصور جدى، كل ما فى الأمر كانت لدىّ مواد فيلمية وتسجيلات، وكل متحدث تكلم بما يعرف وعن اقتناع، الجزئيات كلها صحيحة، المهم الرؤية الكُلية، قدمت ما يريد جمهور «دويتشه فيله»، أن يشاهده ويسمعه.
- لا بد أن يكون عندك ولاء للبلد أكثر. واحد من تلاميذى سيتكلم معك بخصوص شغلك الأخير.
- أمن الدولة؟
- اسمه الأمن الوطنى.
- جدى، لن أخبرهم بشىء.
- لا يحتاجون لمعلومات منك، المتطوعون كثيرون.
لم يتم حبس أو توجيه اتهام لأى من فريق البرنامج. كان وجودى بينهم كافيًا لحماية الجميع، شريطة تعلم الدرس وعدم تكرار الخطأ: «نحن نثق فى حسن نيتك. لكن بعض العناصر تحاول استغلال أبنائنا».
أيها الضابط.. نحن من صنع آلهة من الأحلام والأمنيات.. نفخنا فيها من أرواحنا، من براءتنا، من الشغف بالحياة، من الرغبة فى التغيير، لسنا تافهين، لسنا مرفهين، لسنا العيال اليويو، الكلبوبة، فى يناير نزلنا الميدان، نتجمع عند السفارة الإيطالية فى كافيه «كاكاو» قبل موعد الدرس، ونخترق الشوارع اللولبية لجاردن سيتى، لم ننتبه أن براندات ملابسنا، أو أن الهيدفون وموبايلات الآى فون ستكون محط انتباه، لكن بمجرد دخول الميدان يتم الالتقاط والفرز، مبهورين بجرأة لم نعتد عليها.. تقول ماما إن جسدى يستقيم وأصير أشبه ما أكون بجندى مداومة بمجرد اقترابى من سور مدرستى «الميرديديو».
يتولى وليد السائق الذى يصر على مرافقتنا مهمة تسهيل دخولنا: أروى، فادى، جيسيكا، جيروم، فاتيما. سبق أن دخلت الميدان مع ماما بعد أن علمت باقتحام المتحف المصرى، وقفنا متراصين فى سلاسل حول المتحف، كنا فى حماية الجيش. ظننت أننا بعيدون عن نفوذ جدى، كنت أتوهم، فصفة حفيدة اللواء يسرى صالح، يمكنها أن تظللنى مهما ادعيت غير ذلك.
الغريب.. كيف تحملت ماما كل أذى بابا ولم تلجأ لجدى أبدًا؟
ألا يكفى هذا؟ علىّ أن أستيقظ الآن، أمدد عضلات ذراعىّ وساقىّ ليكتسى جسمى بملامح الهمة والنشاط بما يسمح لى أن أتدلل على جدى كيفما أشاء وربما يوافق على قيادتى سيارته الجديدة اليوم.
أنزل على مهل، الساعة العاشرة.. جدى فى مكتبه، ماما فى الجيم، تركت لى رسالة: «سيأتى مسيو ماهر وفريقه، كل حاجة مضبوطة» ماذا تقصد؟ عادى، ماما تنثر تعليماتها فى كل مكان.
تجهز دادة سهاد الحمام وبعده فنجان نسكافيه بلاك.
- أضيف عليه لبن؟ يا حبيبتى أنت صغيرة على البلاك.
- يا دادة أنا كبيرة.. كبيرة جدًا، أنا عجوز بنزق شابة.
- المهم لا تتأخرى.
- يعنى سأتأخر عن الديوان يا دادة؟!
- لا. ستتأخرين على فرحك!
فرحى! يالله، اليوم الخميس.. يوم زفافى.
أى وجه علىّ أن أرتدى؛ المتوترة، المرهقة، أم أظهر لهم وجهى الحقيقى؟ اللا مبالية التى استيقظت فى الصباح وقد نسيت يوم زفافها، كيف نسيت؟ وأنا المشغولة بتفاصيل المفروشات والفستان والشقة، ستة شهور منذ أعلنا الخطوبة، وأنا لا أفعل أكثر من كتابة قائمة المشتروات التى أحتاجها، أدخل على صفحات ومواقع تجهيز العرائس، آخذ رأى جدى، يشجع المنتجات الأمريكية، الأوروبية، يمتعض عندما أخبره عن المنتجات التركية، يقول:
- كيف نشترى من دولة تدعم الإرهاب وتريد هدم الدولة المصرية؟
- يا جدى، هذه خلافات عارضة، إنجلترا احتلتنا، فرنسا احتلتنا، هل يوجد شعب لم يمر علينا؟
طبعًا موقفه لم يجعلنى أقترح أن نقضى شهر العسل فى إسطنبول رغم أنها شعبية جدًا.
عند اختيار قاعة الأفراح، اخترنا قصر محمد على، القصر الذى تطل عليه فيلا جدى، منذ يومين والشركة المنظمة لحفل الزفاف تستعد بتجهيز الجانب الشمالى من حديقة القصر.