رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وثائق سرية تكشف تاريخ المنظمات الصهيونية فى إيران

أدى اشتعال الحرب النفسية والإعلامية بين إيران وإسرائيل التى تأججت خلال الأشهر السابقة منذ وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم فى إسرائيل، وفوز التيار المحافظ بكرسى الرئاسة والمتمثل فى رئيس الجمهورية «إبراهيم رئيسى»، وكذلك أزمة الحرب فى غزة، وتبنى إيران محور المقاومة المتمثل فى حماس وحزب الله، ومحاولة إسرائيل نقل ثقل الحرب إلى الخارج باستهدافات صاروخية للحرس الثورى الإيرانى فى سوريا، وإصرار إيران على ضلوع إسرائيل فى تفجيرات كرمان بالتواطؤ مع داعش. كل تلك الأسباب مجتمعة أدت إلى ظهور العديد من الكتب والأبحاث فى المجال العام الإيرانى، تؤرخ لتاريخ اليهود والحركة الصهيونية فى إيران، فى محاولة لتوجيه الرأى العام، وكذلك النخبة الثقافية إلى الإدانة السياسية والتاريخية الكاملة لإسرائيل.

أهم تلك الكتب الذى أُعيد طبعه حديثًا هذا العام، هو كتاب «المنظمات اليهودية والصهيونية فى إيران»، الطبعة الأولى للكتاب كانت منذ عشرين عامًا تقريبًا، ورغم أهمية الكتاب لكن تم التغافل عنه خلال السنوات السابقة، لتصدر منه طبعة حديثة خلال الشهر الماضى، وتم الترويج له من جديد على المواقع والصحف الإيرانية.

يُعد هذا الكتاب من أهم الكتب التى تناولت تاريخ الحركة الصهيونية فى إيران، لاعتماده على الوثائق السرية المسربة من جهاز «السافاك» (المخابرات الإيرانية فى عهد الشاه) وكذلك العديد من الخطابات والمراسالات بين قادة الحركة اليهودية فى إيران وإسرائيل، التى أعلنتها الحكومة الإيرانية بعد الثورة.

الكتاب من تأليف «مؤسسة الأبحاث السياسية»التابعة للدولة، ويقع فى حوالى ٨٠٠ صفحة، يتناول بدقة بالغة أغلب تفاصيل المنظمات اليهودية فى إيران وعلاقتها بنظام الشاه قبل الثورة، وموقفها من الثورة الإسلامية، وعمق ارتباطها بالحركة الصهيونية، وأساليب التمويل التى مارستها تلك المنظمات لدعم المهاجرين اليهود من إيران إلى إسرائيل.

فرغم أن لليهود تاريخًا طويلًا فى إيران منذ العهد الإمبراطورى القديم وإلى الآن، ولكن ظلوا غير قادرين على الاندماج الكامل فى المجتمع الإيرانى، بل أنهم تحت طائلة الشك على تعاقب الحكومات فى إيران. يبلغ عدد اليهود فى إيران الآن ما يقارب العشرة آلاف، وهو عدد فى تناقص مستمر من حوالى مائة ألف يهودى، وظهر هذا التناقص بوضوح فى مرحلة السبعينيات والثمانينيات بسبب هجرة أغلب اليهود الإيرانيين إلى إسرائيل.

يرصد الكتاب فى نسخته الجديدة علاقة المنظمات اليهودية بنظام الشاه، خاصة فى عهد رضا بهلوى وابنه من بعده محمد رضا بهلوى، آخر ملوك إيران قبل الثورة، وموقف اليهود من الثورة وما بعدها، فقد كان رضا بهلوى من أكثر الداعمين للأقلية اليهودية فى إيران، وسمح بالعديد من الصحف والمجلات التى تمثلهم، بعضها كان ناطقًا بالعبرية، إلا أن الأجواء تورت بشدة بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية والموقف من النازية وغيرها من المستحدثات السياسية فى ذذلك التوقيت، ولكن ومع وصول محمد رضا بهلوى إلى الحكم، ومحاولته غلق المجال العام فى إيران، وممارسة آليات الحكم العسكرى شبه العلمانى «تمثلًا لتجربة أتاتورك فى تركيا»، ظهرت مرحلة جديدة من مراحل التقارب بين النظام واليهود فى إيران، واستخدمهم فى مرحلة الغزل السياسى بينه وبين إسرائيل وأمريكا، وفى محاولة للسيطرة على التيار الدينى وآيات الله، سمح بظهور العديد من المنظمات اليهودية، سنحاول رصد بعضها فيما يلى، ولكن ومع الموقف الأمريكى المتغير ضد نظام الشاه، ودعم الولايات المتحدة لبعض التيارات المعارضة فى إيران إرهاصات الثورة الإيرانية، صرح الشاه بمعاداته للسامية بشكل مباشر، واعتبر أن الولايات المتحدة تحت سيطرة لوبى يهودى صهيونى يقود العالم، وانتهت مرحلة الغزل السياسى بين يهود إيران والشاه.

مما أدى إلى انضمام العديد من يهود إيران تحت سقف الحركة الثورية التى كان يقودها اليسار فى البداية ثم لحقها التيار الدينى، وكان لليهود الإيرانيين حضورًا واضحًا فى الترويج للثورة فى الداخل أو الخارج الإيراني، ولكن وبعد نجاح الثورة، حاول نظام «الخمينى» فى بدايته أن يتعامل مع جميع الأقليات ومنها اليهود بحيادية سياسية ودينية، ومع تصاعد الصراع السياسى بين إيران وإسرائيل، قرر نظام الخمينى التضييق على الأقلية اليهودية تحديدًا، وظهرت حركة من الإعدامات ضد أغلب قادة المنظمات اليهودية التى ثبت تورطها فى دعم إسرائيل أو الحركة الصهيونية، واستمرت حالة التضييق تلك إلى الآن بشكل أو بآخر، رغم محاولة النظام الإيرانى خلال المرحلة الحالية التعامل بمزيد من الحرية مع الأقليات الدينية أو العرقية، والتى تشكل إجمالًا حاولى ٥٢٪ من المجتمع الإيرانى.

يتناول الكتاب فى فصوله الأولى أهم الحركات اليهودية والمنظمات التى تتبع إسرائيل ونشاطها الاجتماعى والسياسى فى إيران، ومن أهمها «اللجنة اليهودية فى طهران» وهى لجنة منوط بها الأمور الدينية ليهود إيران، وتأسست منذ سبعين عامًا تقريبًا، وما زالت قائمة إلى الآن ولها علاقات جيدة مع النظام فى إيران، إلا أن الكتاب يرصد دور تلك اللجنة فى مرحلة ما قبل الثورة وبدايتها، قبل مرحلة إعادة هيكلتها من قبل الحكومة الإسلامية، والسماح بتوجدها تحت شروط متابعة أمنية معقدة، فالكتاب يتهم تلك المنظمة تحديدًا بتعاونها الدائم من إسرائيل، وتمويلها لمختلف حركات الهجرة اليهودية خارج إيران، كما يرصد عن طريق المراسلات التى تمت بين قيادات المنظمة ويهود أوروبا، الدعم المادى المقدم من الخارج الإيرانى فى عهد الشاه، مما استتبع إنشاء صندوق تابع لـ«الوكالة اليهودية»، وبالتالى إسرائيل مباشرة، أُطلق عليه «الصندوق القومى لليهود» لتمويل حركات الهجرة، والعديد من العمليات الاستخباراتية فى الداخل الإيرانى.

كان نشاط الصندوق القومى لليهود واضحًا للغاية فى عهد الشاه، وبدايات الثورة الإيرانية، مركزه الأصلى طهران، ثم انتقل إلى هوندا ثم ألمانيا، إلى أن استقر الأن فى إسرائيل، وله فروع فى عدة دول فى العالم، خاصة بعد إغلاقه فى إيران، وهو المنوط به التنسيق بين رجال الأعمال وجهات دعم إسرائيل فى الخارج وبين النظام الصهيونى فى الداخل.

وطبقًا للوثائق المخابراتية الإيرانية، فمن أهم المنظمات التى تعاونت ضد إيران لصالح إسرائيل فى عهد الشاه، «هيئة نساء يهود إيران»، وهى هيئة تم تأسيسها عام ١٩٧٤ وأغلقت فى إيران عام ١٩٧٩، قبل أن تنتقل إلى نيوجرسى فى أمريكا وما زالت قائمة هناك. رغم أن الغرض من تأسيس الهيئة كان الأعمال الخيرية لصالح المرأة فى إيران عمومًا واليهوديات تحديدًا، ورغم أن الأجهزة الرقابية للدولة أخضعت تلك الهيئة لشروط تأسيسية غاية فى الصعوبة، إلا أن الكتاب يستعرض علاقة تلك الهيئة بالحركة الصهيونية والوكالة اليهودية. عن طريق الأعمال الخيرية المزعومة، راصدًا العديد من المراسلات وتسجيل لقاءات بين مديرات تلك الهيئة وعناصر من جهاز الموساد.

وبعد انتقال تلك الهيئة إلى نيوجرسى، انبثق منها «منظمة نساء همدان» فى إيران، وظلت تلك المنظمة تمارس نفس الأنشطة السابقة، وكانت على علاقة وثيقة وخاضعة لإشراف «اتحاد آليانس» وهو اتحاد يهودى مركزة الآن فى باريس، ومنوط به متابعة حياة اليهود فى الشرق الأوسط.

يناقش الكتاب فكرة محاولة المنظمات الصهيونية الوجود بين مختلف شرائح المجتمع، فبعد أن حاولت الوجود فى الإطار الاقتصادى والسياسى، وكذلك وجودها بين النساء، كان من اللازم الوجود بين الطلاب، فظهرت «مؤسسة الطلاب الإيرانيين اليهود»، وهى منظمة كان هدفها المعلن، تثقيف وتوعية شباب الجامعات، عن طريق الندوات وغيرها من أشكال التفاعل الطلابى، ولكن وطبقًا لما نشر من وثائق، رصدت الأجهزة الأمنية فى عهد الشاه، تعاون بين أعضاء فى المنظمة وممثلين للحركة الصهيونية فى فرنسا. ما استتبع القبض على بعض أعضائها وإغلاق المؤسسة.

أما بقية فصول الكتاب فتتناول دور تلك المنظمات وغيرها الكثير، فى الهجرة إلى إسرائيل وتمويل الحركة الصهيونية، والدعم الأمريكى الإسرائيلى لتلك المنظات فى الداخل، فقد رصد حوالى ثلاثين منظمة يهودية فى إيران، اُتهمت بالتعاون مع الحركة الصهيونية وإسرائيل.

لاقى الكتاب فى طبعته الأخيرة رواجًا كبيرًا فى إيران، وتناولته الصحف والمواقع بالعرض والتحليل، فى ضوء الصراع الإيرانى الإسرائيلى فى الوقت الحالى. مع الإلحاح على فكرة السلام الذى يعيشه يهود إيران الآن فى ظل الحكومة الإسلامية، وعدم التشكيك فى وطنيتهم، والفصل بين اليهودية والصهيونية، فى محاولة لاحتواء مخاوف الأقلية اليهودية فى إيران الآن فى ظل الصراعات السياسية بين الدولتين.