هرموبوليس الجديدة.. العودة للجذور من أجل الحاضر والمستقبل «2-3»
بدعوة كريمة من الدكتورة ميرفت عبدالناصر، شاركت نخبة من المثقفين المصريين فى الاحتفال بالذكرى الخمسين لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، وكان الاحتفال بالعميد هو محور الدورة التاسعة لمهرجان تحوت، والتى حملت عنوان: «الأيام من بيتوزيرس إلى طه حسين».
وكانت المفاجأة إقامة الاحتفال فى واحة «هرموبوليس الجديدة»، استغرقت الرحلة من القاهرة إلى هرموبوليس الجديدة حوالى ٤ ساعات، حيث تقع القرية على بعد ٣٢٠ كم من القاهرة، وتبعد ٢٠ كم من مركز ملوى، بجوار آثار تونا الجبل، وبالقرب من مدينة أخناتون الشهيرة ومقابر بنى حسن.
بدأت الدكتورة ميرفت عبدالناصر، عاشقة المصريات، تأسيس هرموبوليس الجديدة فى عام ٢٠٠٩ واستغرق التجهيز ٣ سنوات، وتم افتتاحها فى عام ٢٠١٢، لتكون منارة تربط بين ماضى الفكر المصرى القديم وحاضره.
تقع هذه القرية الواحة على مساحة عشرة أفدنة، وقد أطلقت عليها اسم واحة، لأنها تختلف تمامًا، بمجرد دخولها تجد نفسك قد انتقلت نفسيًا وروحيًا من تدرجات الكثبان الرملية المحيطة بها إلى مساحة من الأرض منبسطة ومرحبة، ومن هجير اللون الأصفر لأشعة شمس الصعيد إلى ظلال وخضرة الأشجار، مع تنويعات من الألوان البيضاء والحمراء لأوراق أشجار الجهنمية.
بمجرد نزولنا من الأتوبيس الذى أقلنا من القاهرة، وجدنا أنفسنا أمام بوابة من الحجر يعلوها قوس يمثل قبة، وعلى جانبى الممر الرملى كانت المزرعة العضوية حيث أشجار الزيتون بلونها الرمادى المخضر، حيث تعود شجرة الزيتون لموطنها الأصلى مصر وليس اليونان كما يتصور البعض، فأول رسم لغصن الزيتون كان مصاحبًا لأخناتون، الملك الذى أحدث ثورة دينية واجتماعية وفنية، ما زالت آثارها فى تل العمارنة غير بعيدة عن هرموبوليس الجديدة.
وينتهى الممر ببوابة حديدية، تنفتح على ساحة خضراء مستطيلة الشكل على جانب أضلاعها الجانبين والأمامى تتراص أجنحة الضيافة التى يبلغ عددها ١٦ جناحًا، وإلى جانب الأرقام يحمل كل جناح اسم أحد المفكرين أو العلماء الذين ارتبطت أسماؤهم بتاريخ وفلسفة منطقة هرموبوليس، ذو النون المصرى، أفلاطون، سقراط، أرسطو، وليام جيمس.
وقد نزلت مع الصديقتين أميرة النشوقاتى، الصحفية بالأهرام ويكلى، وحفيدة شيخ الملحنين زكريا أحمد، وأميرة صديق، الأثرية الموسوعية، مكتبة الإسكندرية، فى الجناح رقم ١٣ وقد حمل اسم عالم النفس السويسرى الشهير كارل يونج، الأجنحة مبنية بطراز معمارى متميز، حيث استخدمت الحجارة من المحاجر القريبة من المنطقة، تتميز المفروشات فى الأجنحة بالبساطة الشديدة مع انتشار الموتيفات المصرية القديمة، فى نظام بيئى يبتعد بمن يقيم فيها عن صخب المدينة، فلا توجد شاشات تليفزيون أو مكيفات، فالأشجار التى تحيط بالأجنحة من الأمام والخلف والقباب التى تمثل سقفًا مرتفعًا تعطى برودة داخلية، والإضاءة الطبيعية من خلال النوافد المستطيلة المرتفعة، كلها عوامل تجعلك تمتلئ بالراحة والسكينة، وتزيد البهجة بالجلوس حول البحيرة التى تتوسط الحديقة التى تفتح عليها أبواب الأجنحة، وهى أبواب خشبية من «ضلفتين»، كل ضلفة لها شُراعة من الحديد المشغول والزجاج المصنفر، أبواب تحمل رائحة البيوت القديمة فى ريفنا ومدننا فى الأربعينيات والخمسينيات، على سطح البحيرة الرائق والهادئ فى سكينة أبدية تنتشر العشرات من زهرة اللوتس الزرقاء المصرية، تبقى الزهرة الزرقاء مغمورة فى الليل لتظهر مرة أخرى فى صباح اليوم التالى مع ميلاد الشمس، لتنبعث فى سمو يربطها دائمًا بالنور، وكأنها تأبى أن تحيا إلا فى النور، فلا حياة إلا فى وجود النـور، وعندما يختفى النور لا تستطيع أن تبقى فوق السطح بين عالم الأحياء، عالم الظاهر، وإنما تفضل أن تنزل إلى عالم الباطن أو العالم السفلى، ترحل وتعود من جديد عند شروق شمس كل يوم جديد، تُسبح لرب الوجود والموجودات، هانئة فى طفوها، راسية على أوراق عريضة غضة لامعة الخضرة، تنشر عطرًا يساعد فى الاسترخاء العقلى والتأمل، فشم زهرة اللوتس وتقريبها من الأنف فى رسومات قدماء المصريين لم يكن لمجرد الزخرفة، بل كانت تأخذ أوضاع التأمل التى يمكن أن نقارنها بتمارين «اليوجا»، حيث أثبتت الأبحاث التى أجريت على زهرة اللوتس المصرية الزرقاء أن لها تأثيرًا على مخ الإنسان يؤدى إلى حالة من الاسترخاء العقلى تمكن الإنسان من الوصول إلى ما يعرف بالـ«تنوير»، تلك اللحظة الفارقة والفاصلة بين النوم واليقظة. وتوضح بعض النصوص القديمة أن «شم الزهرة» وتقريبها للأنف يعنى «اسـتنشاق رحيق الأبدية».
وربما تكون زهرة اللوتس هى سر عبقرية قدماء المصريين، كما يوضح عالم الفيزياء «بول دافيز» أن نسبة الخلايا العاملة فى الحمض النووى البشرى هى فقط ٣٪، وأن الـ٩٧٪ المتبقية منه خاملة وغير عاملة، وأن وظيفة الـ٩٧٪ لم يكتشف كل أسرارها حتى الآن.
ويضيف «دافيز» أن «أحد أساليب التأمل فى مصر القديمة كان استنشاق زهرة اللوتس، التى ساعدت المصريين القدماء فى تحفيز جزء من الحمض النووى الخامل، وإدراك علوم متطورة جدًا كانت موجودة بداخلهم مسبقًا ولكنها خاملة».
وسط هذا السحر والبيئة المحفزة على التأمل واكتشاف أسرار الكون والوجود، كانت الإقامة فى هرموبوليس مع نخبة من العلماء والباحثين والمثقفين المصريين، وخلال يومين دارت نقاشات وطُرحت رؤى تنويرية واجتهادات حول الثقافة المصرية، وكيفية ربط الماضى بالحاضر والمستقبل.
.. وللحديث بقية