رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السلام أمانة ورسالة

تأتي قمة القاهرة للسلام، التي انعقدت يوم السبت 21 أكتوبر الحالي بالعاصمة الإدارية الجديدة، وسط ظروف استثنائية، خطوة أولى نحو تحقيق سلام منشود في الشرق الأوسط، وطريقًا نحو حل القضية الفلسطينية التي كانت قد طواها النسيان والجمود، وأبرزتها للوجود ثانية عملية حماس في الأراضي المحتلة يوم السابع من نفس الشهر، لتدعو مصر لانعقاد هذه القمة، وصولًا لحل القضية التي استمرت خمسة وسبعين عامًا وهي تُراوح مكانها، لا يطرأ عليها جديد، اللهم إلا قضم إسرائيل، بين وقت وآخر، قطعة جديدة من الأراضي الفلسطينية، وضمها إلى ما سبق أن احتلته من أراضٍ، وتترك الشعب صاحب هذه الأرض حبيسًا لمنطقتين منفصلتين، هما الضفة الغربية وقطاع غزة، قبل أن تبدأ إسرائيل الهجوم الشرس على القطاع، ورغبتها التي لم تعد خافية، لتهجير سكانه نحو الأراضي المصرية، ليصبح هذا القطاع أرضًا بلا شعب، وربما يأتى الدور على الضفة الغربية، لتصبح بعدها فلسطين كلها، أرضًا بلا شعب، لتحتلها إسرائيل وتحقق حلمها فى الدولة اليهودية الخالصة، بعدما تبحث عن سبيل للتخلص من عرب 48، الذين يحملون الإقامة الإسرائيلية.
كان على القاهرة، التي تحمل على عاتقها عبء هذه القضية منذ بروزها للوجود قبل عشرات السنين، أن تعقد قمة، على خلفية العدوان اللا إنساني على قطاع غزة، ومنع المساعدات الإنسانية من الوصول إلى أهل هذا القطاع، مع الدعوات المتعاقبة والإجراءات المتلاحقة للشعب الفلسطيني الأعزل في القطاع لتهجيره قصريًا، تكون- أي القمة- خطوة نحو حدث تاريخي كبير في المنطقة، يُدرك من خلاله المجتمع الدولي خطورة الموقف الحالي، حتى لا يحدث ما هو أسوأ، وأن يعيد إلى الأذهان أن حل الدولتين، الفكرة القديمة المتجددة، ضرورة لسلام يعم الشرق الأوسط، إن لم يكن العالم برمته.. هذا العالم الذى يجب عليه إظهار التزامه تجاه رفض التهجير، ووقف مخطط الاجتياح العسكري الشامل، باعتبار أن ما تمارسه دولة الاحتلال الصهيوني مُخالفًا لما يجب عليها أن تتبعه، طبقًا للقانون الدولى والمعاهدات والمواثيق الدولية، وكل ما تنص عليه اتفاقات حقوق الإنسان في العالم، دون تفريق بين الشعوب على أساس من دين أو عرق أو هوية.
حملت كلمات المتحدثين في الجلسة الافتتاحية لقمة القاهرة للسلام تطابقًا كبيرًا، إلى حد ما، في الدعوة لمنع ممارسة العقاب الجماعي في قطاع غزة، ورفض التهجير القصري لأهل القطاع، وضرورة فتح ممرات آمنة ومستمرة لإيصال المساعدات عبر معبر رفح إلى هؤلاء المحاصرين في القطاع، الذين قتلهم الجوع وفتك بهم العطش وانقطع الدواء عن المرضى والمصابين الذين اكتظت بهم مستشفيات القطاع، حتى كادت تتوقف عن رسالتها مُجبرة، حتى أصبح ما يحدث هناك جريمة كبرى، إن لم تتوقف، أصبح من السهل انفلات العِقال فى الشرق الأوسط، ولدخلت المنطقة في موجة عنف، الله وحده يعلم متى تنتهى، وكيف يخرج الجميع منها بسلام لا يعرف أمانته إلا القادة العظماء، ولا يدرك رسالته إلا الشعوب المحبة لهذا السلام.
أين قيم الحضارة الإنسانية التي شيدناها على امتداد الألفيات والقرون؟.. أين المساواة بين أرواح البشر، دون تمييز أو تفرقة أو معايير مزدوجة؟

هكذا تساءل الرئيس عبدالفتاح السيسي موجهًا كلامه للعالم، عبر الفضائات التي تبث فعاليات القمة على الهواء، وعبر المشاركين في القمة، وعبر وكالات الأنباء ومراسلي الصحافة العالمية التي تنقل الحدث، لأن "مصر، منذ اللحظة الأولى، انخرطت في جهود مضنية، آناء الليل وأطراف النهار، لتنسيق وإرسال المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين في غزة.. لم تغلق معبر رفح البري في أي لحظة، إلا أن القصف الإسرائيلي المتكرر لجانبه الفلسطيني حال دون عمله.. هذه هي الحقيقة التي يتغافل عنها بعض المتنطعين.
إن العالم لا يجب أن يقبل استخدام الضغط الإنساني للإجبار على التهجير.. وقد أكدت مصر، وتجدد التشديد على الرفض التام للتهجير القسري للفلسطينيين ونزوحهم إلى الأراضي المصرية في سيناء.. إذ أن ذلك ليس إلا تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، وإنهاءً لحلم الدولة الفلسطينية المستقلة، وإهدارًا لكفاح الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية، بل وجميع الأحرار في العالم، على مدار خمسة وسبعين عامًا، هي عمر القضية الفلسطينية.. ويخطئ في فهم طبيعة الشعب الفلسطيني من يظن أن هذا الشعب الأبي الصامد، راغب في مغادرة أرضه، حتى لو كانت هذه الأرض تحت الاحتلال أو القصف.. كما أؤكد للعالم.. بوضوح ولسان مبين.. وبتعبير صادق، عن إرادة جميع أبناء الشعب المصري، فردًا فردًا: إن تصفية القضية الفلسطينية، دون حل عادل، لن تحدث.. وفي كل الأحوال لن تحدث على حساب مصر.. أبدًا.
هل كُتب على هذه المنطقة، بأن تعيش في هذا الصراع للأبد؟.. ألم يأن الوقت، للتعامل مع جِذر مشكلة الشرق الأوسط؟.. ألم يأت الحين، لنبذ الأوهام السياسية بأن الوضع القائم قابل للاستمرار.. وضع الإجراءات الأحادية.. والاستيطان.. وتدنيس المقدسات.. وخلع الفلسطينيين من بيوتهم وقُراهم، ومن القدس الشريف؟.. لقد دفعت مصر ثمنًا هائلًا من أجل السلام في هذه المنطقة.. بادرت به، عندما كان صوت الحرب هو الأعلى.. وحافظت عليه وحدها، عندما كان صوت المزايدات الجوفاء هو الأوحد.. وبقيت شامخة الرأس، تقود منطقتها، نحو التعايش السلمي القائم على العدل.. (واليوم.. تقول لكم مصر.. بكلمات ناصحة أمينة: إن حل القضية الفلسطينية ليس التهجير، وليس إزاحة شعب بأكمله إلى مناطق أخرى.. بل إن حلها الوحيد هو العدل، بحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة، في تقرير المصير، والعيش بكرامة وأمان، في دولة مستقلة على أرضهم.. مثلهم مثل باقي شعوب الأرض)".
في هذه القمة التي عقدت بالعاصمة الإدارية بالقاهرة، ذكّرنا الملك عبدالله الثاني، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، بـ"العهدة العمرية"، التي صدرت على عتبة بوابات القدس منذ نحو خمسة عشر قرنًا من الزمان، وقبل أكثر من ألف عام من صدور اتفاقيات جنيف، حيث أمر الخليفة عمر بن الخطاب الجنود المسلمين بألا يقتلوا طفلًا ولا امرأة ولا كبيرًا في السن، وألا يقطعوا شجرة، ولا يأذوا راهبًا، ولا يدمروا كنيسة.. وهذه قواعد الاشتباك التي يجب على المسلمين تطبيقها والالتزام بها، كما يتحتم أن يلتزم بها كل من يؤمن بإنسانيتنا المشتركة، فحياة كل المدنيين ثمينة.. فهل فعلت إسرائيل ما نصت عليه اتفاقيات جنيف، أو ربما ما تدعو إليه الديانة اليهودية؟.
لا، "بل تُغضبني وتُحزنني أعمال العنف التي استهدفت المدنيين الأبرياء في غزة والضفة الغربية وإسرائيل، وحملة القصف العنيفة الدائرة في غزة في هذه الأثناء شرسة ومرفوضة، على جميع المستويات".. إن ما يحدث في غزة عقاب جماعي لسكان محاصرين لا حول لهم ولا قوة، وانتهاك فاضح للقانون الدولي الإنساني، وجريمة حرب، وكلما تزداد وحشية الأحداث يبدو أن اهتمام العالم يقل شيئًا فشيئًا.. يقول الملك عبدالله الثاني: "في أي مكان آخر- يقصد أوكرانيا- كان العالم يدين استهداف البنية التحتية للمدنيين، والحرمان المتعمّد للسكان من الغذاء والمياه والكهرباء، والاحتياجات الأساسية، وبالتأكيد كان لتتم مساءلة الفاعل فورًا"، وعلى الرغم من مرور أسبوعين، منذ فرضت إسرائيل حصارًا كاملًا على قطاع غزة، يستمر الصمت الدولي من غالبية البلدان، لكنّ الرسالة التي يسمعها العالم العربي عالية وواضحة من هذه البلدان، أن حياة الفلسطينيين أقل أهمية من حياة الإسرائيليين، حياتنا أقل أهمية من حياة الآخرين، وتطبيق القانون الدولي اختياري وانتقائي، وحقوق الإنسان لها محددات، فهى تتوقف عند الحدود، وتتوقف باختلاف الأعراق والأديان، وهذه رسالة خطيرة للغاية، وعواقب اللا مبالاة والتقاعس ستكون كارثية على الجميع، لا يمكن أن نترك العاطفة تملي علينا كيفية التعامل مع اللحظة.
نحن أمام أزمة غير مسبوقة- لا شك في ذلك- تتطلب الانتباه الكامل للحيلولة دون اتساع رقعة الصراع، بما يهدد استقرار المنطقة، ويهدد السلم والأمن الدوليين.. ولذلك، دعا الرئيس السيسى الجميع "لنناقش معًا، ونعمل على التوصل إلى توافق محدد، على خارطة طريق.. تستهدف إنهاء المأساة الإنسانية الحالية، وإحياء مسار السلام، من خلال عدة محاور.. تبدأ بضمان التدفق الكامل والآمن والسريع والمستدام، للمساعدات الإنسانية لأهل غزة.. وتنتقل فورًا إلى التفاوض حول التهدئة ووقف إطلاق النار.. ثم البدء العاجل في مفاوضاتٍ لإحياء عملية السلام، وصولًا لإعمال حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، التي تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل، على أساس مقررات الشرعية الدولية.. مع العمل بجدية على تدعيم السلطة الوطنية الفلسطينية الشرعية، للاضطلاع بمهامها، بشكل كامل في الأراضي الفلسطينية".
دعونا نوجه رسالة لشعوب العالم.. بأن قادته يدركون عِظَم المسئولية.. ويرون بأعينهم فداحة الكارثة الإنسانية.. ويتألمون من أعماق قلوبهم لكل طفل برىء يموت بسبب صراع لا يفهمه.. يأتيه الموت بقذيفة أو قصف.. أو يأتي بطيئًا، لجُرح لا يجد دواءً.. أو لجوع لا يجد زادًا.. دعونا نوجه رسالة أمل لشعوب العالم.. بأن غدًا سيكون أفضل من اليوم.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.