حسام أحمد مؤلف «النهضوى الأخير»: طه حسين تغلب على البيروقراطية ونفذ مشروعًا تعليميًا لتخريج نخبة مثقفة تقود المجتمع
- وظّف عمله الإدارى لتنفيذ أفكاره التى طرحها فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»
- الوثائق الرسمية أثبتت سعيه لإحداث تغيير حقيقى فى حياة المصريين يساعدهم على مواجهة الاستعمار وإنجاح الديمقراطية
- تعرض لهجوم كبير بسبب احتفاله بالثقافة الأوروبية وسعيه للاستفادة من إيجابياتها
أمام كم كبير من الدراسات والكتب عن الأديب والمفكر المصرى طه حسين، لم يحظ دوره فى العملين السياسى والوظيفى باهتمام مماثل. من هنا جاء كتاب «النهضوى الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات فى مصر»، الذى صدرت نسخته الإنجليزية عن مطبعة جامعة ستانفورد فى العام ٢٠٢١، وصدرت الترجمة العربية له عن مشروع «كلمة» فى العام الجارى، بترجمة الدكتور موسى الحالول، للباحث المصرى حسام أحمد، الأستاذ المساعد فى تاريخ الشرق الأوسط الحديث بجامعة كارلتون فى كندا.
يسلط الكتاب الضوء على الحياة السياسية التى عاصرها طه حسين، واشتبك معها، سواء بعمله السياسى أو بكتاباته، بداية من إعلان بريطانيا استقلال مصر الاسمى عام ١٩٢٢، واعتماد دستور ١٩٢٣ وبداية الحياة البرلمانية ١٩٢٤، وهى الفترة التى شهدت تكثيفًا للمناقشات حول سبل الإصلاح ونيل الاستقلال الكامل. فعبر سرد السيرة الاجتماعية لطه حسين وعمله المؤسسى والسياسى الذى اضطلع به فى النصف الأول من القرن العشرين فى مصر، يضىء الكتاب على التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التى شهدتها تلك الفترة.
لا تقتصر أهمية الكتاب على تلك الإضاءة لتحولات فترة مضطربة فى التاريخ المصرى، وإنما تتجاوز ذلك إلى تقديم منظور جديد يُمكِّن القارئ من فهم إنتاج طه حسين الفكرى فى سياق عمله السياسى الذى حركته نزاعات وأسئلة مختلفة انخرط فيها على المستوى العملى عبر وظائفه الحكومية، وهو منظور يمكن من خلاله دحض الكثير من الانتقادات التى وجهت إلى مشروع طه حسين الفكرى ورؤيته لسبل النهضة والتغيير.
يتطرق الكتاب إلى كيفية استجابة طه حسين للتحولات المختلفة التى عاصرها، والأسباب التى جعلته يؤكد مرارًا قضية التعليم باعتبارها أولوية فى الإصلاح والنهضة، كما يكشف عن أبعاد أخرى لرأى «حسين» الشائك حول هوية مصر الثقافية التى ربطها بأوروبا والبحر المتوسط، وهو الرأى الذى جعله موضع انتقادات مستمرة منذ نشره بكتابه «مستقبل الثقافة فى مصر».
ويوضح المؤلف أن مثل هذه الآراء التى تبناها طه حسين يمكن فهمها فى سياق مرحلة ما بين الحربين، والنشوة التى أحاطت بتوقيع المعاهدة البريطانية المصرية ١٩٣٦، وانتهاء الامتيازات الأجنبية والانضمام إلى عصبة الأمم، فقد كانت رغبة طه حسين الأساسية هى اقتراح حلول للتغلب على العقبات التى حالت بين البلاد واستقلالها الكامل، ورأى أن مصر يجب أن تصبح دولة قوية، من خلال تطوير القوة التى تفهمها أوروبا وتحترمها.
يفصل ذلك بقوله: «النمط الرومانسى فى كتابة التاريخ الذى استند فيه طه حسين إلى تفاعل مصر التاريخى الطويل مع عالم البحر المتوسط والفلسفة اليونانية حفزته ضرورة سياسية، وكان نمطًا فى الكتابة عدّه ضروريًا لتحطيم مفاهيم التنافر المزعوم بين المصريين والأوروبيين».
عبر الوثائق التاريخية، يثبت المؤلف أيضًا انخراط طه حسين فى معاداة الاستعمار والاستعماريين، إذ تكشف مشاريعه الثقافية لتأسيس معاهد ثقافية لدراسات اللغة العربية والإسلامية فى دول المغرب العربى عن رغبته فى التصدى للنفوذ الفرنسى فى هذه الدول، ورغبته فى أن يكون هدف هذه المعاهد البعيد هو مناهضة الاستعمار، وهو ما جعله يدخل فى صدام مع الحكومة الفرنسية التى قاومت توسيع النفوذ الثقافى المصرى.
وعلاوة على ذلك، تنفى جهود طه حسين فى مجمع اللغة العربية عنه تهمة «التغريب»، فقد دافع العميد عن اللغة العربية الفصحى باعتبارها حلقة الوصل فى العالم العربى بين الماضى والحاضر، وعارض أى تعبير أدبى أو فنى عامى، مدافعًا عن «دمقرطة اللغة» بما يعنى أن تظل نابضة بالحياة وغير مقتصرة على المجال الدينى.
من ثم، يأتى هذا الحوار الذى أجرته «الدستور» مع الباحث حسام أحمد، المتخصص فى التاريخ الثقافى والاجتماعى، لمناقشة عدد من المحاور المهمة التى أثارها كتابه «النهضوى الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات فى مصر»، والتى يمكن أن تكوّن منظورًا جديدًا فى التعاطى مع مشروع طه حسين الفكرى والأدبى.
■ فى كتابك «النهضوى الأخير» قدمت سيرة اجتماعية لطه حسين لدراسة التحولات بالنصف الأول من القرن العشرين فى مصر، فلماذا وقع اختيارك على طه حسين تحديدًا؟
- كتابى «النهضوى الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات فى مصر» مستقى من رسالة الدكتوراه التى قدمتها لجامعة ماكجيل فى كندا عام ٢٠١٧. ولقد جاء اختيارى لطه حسين لكونه من أبرز الشخصيات المؤثرة فى تاريخ مصر الحديث، فدراسته فى إطار السيرة الاجتماعية تساعد فى فهم التحولات الاجتماعية والثقافية التى شهدتها مصر فى النصف الأول من القرن العشرين والتى شارك هو فى صنعها.
فضلًا عن ذلك، فقد وجدت أن الباحثين لم يتعرضوا لحياة طه حسين الوظيفية والسياسية بالقدر الكافى، خصوصًا فى الجامعات الغربية، ومن ثم، أردت معرفة طبيعة العلاقة بين طه حسين الأديب وطه حسين رجل الدولة، فدراسة الدور الذى لعبه طه حسين فى بناء أهم المؤسسات التعليمية والثقافية فى مصر تسهم فى تعميق فهمنا لكتاباته، وكذلك لما يُعرف بالحقبة الليبرالية فى مصر، أى الفترة الممتدة من استقلال ١٩٢٢ وحتى ١٩٥٢، بما قد يقود لإعادة النظر فى بعض السرديات المهمة التى تسيطر على دراسات الشرق الأوسط فى الغرب مثل الاستعمار والحداثة والقومية.
لتحقيق ذلك، لم أعتمد فقط على كتب طه حسين المنشورة، وإنما استعنت بمصادر رسمية من دار الوثائق القومية المصرية، وأرشيف كلية الآداب بجامعة القاهرة، وأرشيف وزارة التعليم المصرية، وأرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، كما قابلت أسرة طه حسين التى أمدتنى بالعديد من الوثائق المهمة التى توضح مسئولياته الإدارية وتعاملاته مع الحكومة الفرنسية وما إلى ذلك.
■ كيف تغلبت على الإشكالية التى تطرقت إليها بخصوص كتابة السيرة الاجتماعية وهى: إلى أى مدى يمكن اعتماد فكرة أن تكون السيرة ممثلة للسياق التاريخى والاجتماعى دون اضطرار إلى تكييف الموضوع ليتناغم مع صورة عامة للتاريخ؟
- حرصت على ألا أوظف الموضوع ليتناغم مع سردية معروفة لتاريخ طه حسين أو لتاريخ هذه الفترة، فبعد دراسة طويلة لكل الوثائق لم أحاول استخدامها لإثبات أو دحض صورة مألوفة لطه حسين؛ كمروج للتغريب على سبيل المثال، ولكننى تركت المصادر تقود سردية جديدة ركزت فيها على أعمال طه حسين السياسية والإدارية فى سياق استعمارى معقد.
السيرة الاجتماعية تتخذ من شخص ما عدسة لتحليل تغييرات اجتماعية معينة عبر دراسة منظور هذا الشخص للتغيرات المختلفة وكيفية تعامله معها، وهو ما يسمح للمؤرخ بمراجعة السرديات التاريخية التى لا تتطابق فى أغلب الأحيان مع التجارب الشخصية على أرض الواقع، وبناءً على ذلك، خرجت بمفهوم جديد عن طه حسين وعن الحقبة البرلمانية قبل عام ١٩٥٢ بعيدًا عن الصورة المعروفة عن طه حسين الأديب والمفكر الذى قاد معارك فكرية وأدبية مشهورة، إذ قادتنى متابعتى لطه حسين فى اجتماعاته الرسمية ومفاوضاته السياسية إلى فهم مشروعه الكبير الذى لا حدود فيه بين الفكر والعمل وبين الثقافة والسياسة.
من ناحية أخرى، فقد قادتنى الوثائق الرسمية إلى فهم سعى طه حسين لإحداث تغيير حقيقى فى حياة المصريين يساعدهم فى مواجهة الاستعمار وإنجاح العملية الديمقراطية بالتركيز على آليات إنتاج المعرفة وإتاحتها لعموم المصريين ودعم الدولة لها، كما بينت العقبات البيروقراطية التى كان عليه التعامل معها، وتوظيفه ضغط الأهالى للإعفاء من المصروفات الدراسية فى المطالبة بزيادة التمويل الحكومى للمنح الدراسية تمهيدًا للمطالبة بالتعليم المجانى.
■ الموقف الذى تبناه طه حسين حول هوية مصر الثقافية المرتبطة بأوروبا والبحر المتوسط كان سببًا فى عداء نقاد ما بعد الاستعمار والإسلاميين والقوميين له فيما تكشف فى كتابك عن كونه بالأساس موقفًا براجماتيًا أكثر منه تعبيرًا عن تبعية فكرية.. هل تظن أن إعادة قراءة أعمال طه حسين الفكرية من هذا المنظور يمكن أن تقدم صورة أكثر انضباطًا لمنهجه الفكرى؟
- كثيرًا ما يتعرض طه حسين للهجوم نظرًا لاحتفاله بالثقافة الأوروبية ولتركيزه على قراءة تاريخية تبرز علاقات مصر القديمة والمستمرة مع منطقة البحر الأبيض المتوسط، خصوصًا اليونان. وقد عبَّر عن هذه الرؤية بقوة فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» كما هو معروف.
أوضح فى الكتاب كيف أن «مستقبل الثقافة فى مصر» هو جزء فقط من مشروع طه حسين الإصلاحى الأكبر، فتستكشف الفصول المختلفة كيف تطور مشروع طه حسين على مدى السنوات التى سبقت نشر كتابه، وكيف ساعدته واجباته الرسمية «من ١٩٣٩ إلى ١٩٤٤ ومرة أخرى من ١٩٥٠ إلى ١٩٥٢» على تنفيذ العديد من أفكاره بعد نشر مستقبل الثقافة.
فى كتابى، أستخدم العدسة المؤسسية فى تحليلى هذا الكتاب الشهير، الذى كتبه طه حسين بعد التوقيع على المعاهدة الإنجليزية المصرية عام ١٩٣٦، والتى أعطت مصر مزيدًا من الحرية والاستقلال من خلال حصر الوجود العسكرى البريطانى فى منطقة قناة السويس مثلًا، كما مهدت لانضمام مصر إلى عصبة الأمم، والاتفاق على إلغاء الامتيازات الأجنبية عام ١٩٣٧. فى ذلك الوقت، رأى طه حسين أن هذه المعاهدة بمثابة خطوة مهمة إلى الأمام، لكنه فهم أيضًا أن هذا الاستقلال منقوص وأن على المصريين إثبات قدرتهم على تحمل أعباء هذا الاستقلال. فقد احتفظ البريطانيون مثلًا بجيشهم فى مصر بحجة أن مصر لم تكن قوية بما فيه الكفاية لحماية قناة السويس، والتى كانت حيوية للغاية للمصالح البريطانية.
وفى «مستقبل الثقافة فى مصر» تناول طه حسين هذا الضعف، وأوضح أن هدفه من تأليف الكتاب هو اقتراح حلول للتغلب على العقبات التى تحول دون استقلال البلاد الكامل. فقال إن مصر يجب أن تصبح أمة قوية من خلال تطوير نوع القوة التى تفهمها أوروبا وتحترمها، وعندها فقط ستعترف أوروبا بأحقية مصر فى الاستقلال الكامل وبقدرتها على حماية مصالحها دون الاعتماد على الأجنبى، وبذلك لن يكون لدى الإنجليز أى سبب لإبقاء جيشهم فى البلاد. وظّف طه حسين عمله الإدارى والسياسى لتنفيذ العديد من الأفكار النظرية التى عرض لها فى «مستقبل الثقافة» عن اقتناع بأنه السبيل الأمثل لتحقيق الاستقلال ولتوفير حياة كريمة للمصريين فى ظروف تلك اللحظة. هنا نرى تفكير طه حسين العملى فى دعوته إلى تأسيس نظام تعليمى وثقافى قوى، على غرار النظام الأوروبى، والذى يُمكّن المصريين من إنتاج المعرفة اللازمة لتحقيق هذه الأهداف عن طريق الأخذ بالأسلوب العلمى المعتد به فى الأوساط العلمية وقتها، فقد آمن طه حسين بأن مثل هذا المسعى ممكن التحقيق، ومن هنا جاء حديثه عن علاقة مصر التاريخية بالغرب، وعن تأثره بها وعن تأثرها به، ليقول لقرائه فى ذلك الوقت إنه إذا نجحت هذه المؤسسات بشكل جيد فى أوروبا، فلا شىء يمنعها من العمل بنجاح فى مصر.
ومن المهم الإشارة هنا إلى الضوابط التى وضعها طه حسين لهذا التفكير العملى. فمن وجهة نظره أن هذه المؤسسات، بمنهجياتها البحثية المتطورة، سوف تشجع على الدراسة النقدية للتراث العربى الإسلامى، وتحافظ عليه وعلى اللغة العربية الفصحى، وتتيحهما لعموم الناس، وبالتالى توفر أفضل حماية ممكنة ضد «الذوبان» فى أوروبا.
■ يُلقى الكتاب أيضًا ضوءًا جديدًا يفسر أسباب تركيز كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» على قضية التعليم بشكل أساسى.
- بالفعل، فالدراسة تظهر أن اهتمام طه حسين بإصلاح المؤسسات لم يبدأ فى عام نشر الكتاب، بل بعد حصول مصر على استقلالها الاسمى مباشرة، حين دعا إلى إصلاح وزارة المعارف وتخليصها من النفوذ البريطانى الذى رأى أنه المسئول عن تقليل عدد المدارس، وفرض الرسوم الدراسية، وتفضيل الكتاتيب على التعليم العالى. وسرعان ما أصبح التعليم العالى، خاصة كلية الآداب فى الجامعة المصرية، حجر الزاوية فى مشروعه، حيث أراد أن تخلق الجامعة «النخبة المفكرة» التى تحتاجها البلاد وتعتمد عليها فعمل جاهدًا على تطويرها وزيادة أقسامها.
فضلًا عن ذلك، فقد كان لطه حسين دور كبير فى إعادة هيكلة مجمع اللغة العربية والسعى لجعل اللغة الفصحى أسهل فى التعلم والتدريس. وإلى جانب عمله فى هذه المؤسسات الثلاث، أنشأ طه حسين بصفته وزيرًا للمعارف العديد من المعاهد والكراسى الجامعية للدراسات العربية والإسلامية فى أنحاء البحر الأبيض المتوسط، بهدف بسط نفوذ مصر وتأثيرها الثقافى خارج حدودها. هنا على سبيل المثال، استخدمت سجلات أرشيف الدولة المصرية والفرنسية لسرد تفاصيل قصة إنشاء المعهد المصرى فى مدريد، وكذلك الكراسى البحثية فى نيس وأثينا، كما كتبت قصة الصراع الكبير الذى نشأ بين طه حسين والسلطات الفرنسية حين أصر على بناء المعاهد المصرية فى شمال إفريقيا ومناهضة السياسات الاستعمارية الفرنسية هناك.
■ وماذا عن كتاب «فى الشعر الجاهلى» الذى أثار جدلًا مماثلًا؟ ما الذى تكشفه الوثائق والعمل المؤسسى لطه حسين عنه؟
- المواد الأرشيفية توثّق مسيرة طه حسين الطويلة بصفته عميدًا لكلية الآداب بجامعة القاهرة، وموظفًا حكوميًا فى وزارة المعارف العمومية، حيث كان مراقبًا للثقافة العامة، ثم مستشارًا فنيًا لوزير المعارف، وأخيرًا وزيرًا للمعارف، وأيضًا عضوًا ثم رئيسًا لمجمع اللغة العربية حتى وفاته. هذا العمل المؤسسى لطه حسين يلقى ضوءًا جديدًا على هذا الكتاب الذى لم يكن هدفه النيل من المقدسات أو الانتقاص منها، وإنما كان محاضرات موجهة إلى طلبة الجامعة المصرية الجديدة حاول طه حسين من خلالها رسم منهج نقدى جديد لدراسة التراث أو أى موضوع بحثى آخر، فقد كان الهدف من الكتاب هو الدفاع عن حق الجامعة الجديدة فى دراسة النصوص بحُريّة بناءً على أسلوب علمى شاع فى الأوساط العلمية وقتها.
■ تطرقت فى كتابك إلى فكرة الثنائيات التى حكمت التعاطى مع مسيرة طه حسين وفكره والتى تراوحت بين «عملقته» أو تخوينه.. هل برأيك هذا ناتج عن قصور محدد فى النظر إلى أعمال الراحل ومسيرته؟
- كتابى هو محاولة لفهم طه حسين وجيله فى سياقهم الخاص، وليس من خلال عدسة كل ما حدث منذ ذلك الحين. فقد أعيدت كتابة التاريخ فى مصر منذ عهد الرئيس عبدالناصر بطريقة جمعت هؤلاء المثقفين معًا فى جانب أو آخر، على سبيل المثال «الحداثيين» أو «التقليديين».
ويعد طه حسين مثالًا بارزًا للمثقف الذى ظل حبيسًا لهذه الثنائيات التى تتجاهل السياق الذى كتب فيه والقيود البيروقراطية والسياسية التى اتخذ فيها قراراته، سواء فى كتابات بعض الإسلاميين الذين يشوهون صورته أو من قبل الآخرين الذين يمجدونه بصورة غير نقدية. ونحن نجد هذا الاتجاه أيضًا فى دراسات أدباء ما بعد الاستعمار فى الغرب الذين اعتمدوا على مقاطع مختارة فى الكتابات المنشورة لطه حسين وجيله لخلق صورة لهم كمثقفين «أغوتهم» الثقافة الأوروبية.
ولكن دراسة الجانب السياسى والإدارى فى تاريخ طه حسين توضح أنه كان مدركًا تمامًا الدور السياسى للثقافة والتبعات السياسية للتعليم. فبالنسبة إليه، لم تكن الثقافة أبدًا مجالًا اجتماعيًا فنيًا معزولًا، بل كانت أفضل وسيلة لضمان نجاح الديمقراطية المصرية، وتحقيق التكافؤ الفكرى مع أوروبا، ومحاربة علاقات القوة غير المتكافئة التى أعاقت البلاد عن الاستقلال الكامل.
خلال الفترة البرلمانية، لم يكن طه حسين مثقفًا فحسب، بل كان سياسيًا ورجل دولة أيضًا، لذلك من الضرورى أن نأخذ بعين الاعتبار مسيرته المهنية فى الخدمة المدنية وحياته السياسية من أجل إنتاج قراءات جديدة وغنية بالسياق لأعماله المنشورة.
ومن هنا تظهر أهمية السيرة الاجتماعية كمنهج بحثى تاريخى يلبى دعوة بعض المؤرخين، مثل المؤرخة التونسية ليلى الداخلى، التى تؤكد ضرورة إعادة كتابة قصة النهضة العربية والمثقفين العرب، وليس تاريخ الفكر العربى، كوسيلة للنظر بجدية إلى مجتمع هؤلاء المثقفين والبنى الاجتماعية التى خرج منها فكرهم واندمج فيها. وتقترح «الداخلى» الاهتمام بممارساتهم الفكرية للسماح بالتصدى لما تصفه بـ«سلسلة المعارضات» التى غالبًا ما تُستخدَم كعدسة لفهم المثقفين العرب وتقييمهم، فتختزلهم فى التأثيرات الفكرية الغربية أو فى انتمائهم الدينى. بهذه الطريقة يمكن إعادة تقديم هؤلاء المثقفين بالتركيز على دورهم الفعال فى مجتمعهم، وليس فقط «كناقلين للمعرفة».
كُتِب عنه:
«مقدمات طه حسين»، جمع وتقديم حسن أحمد جغام، دار المعارف.
«طه حسين وتحديث الفكر العربى»، فيصل دراج، مركز دراسات الوحدة العربية.
«طه حسين، من الشاطئ الآخر: كتابات طه حسين بالفرنسية»، جمعها وترجمها وعلّق عليها عبدالرشيد الصادق محمودى، المركز القومى للترجمة.
«طه حسين وسيكولوجية المخالفة»، مصرى عبدالحميد، دار الغريب. ٢٠٠٦
«طه حسين بين التحرير والتغريب.. دراسة نقدية لكتاب مستقبل الثقافة فى مصر»، أحمد دعدوش، دار ناشرى للنشر الإلكترونى.
«طه حسين بين السياج والمرايا»، عبدالرشيد المحمودى، دار آفاق.
«العمى والسيرة الذاتية.. دراسة فى كتاب الأيام لطه حسين»، فدوى مالطى دوغلاس، ترجمة لمياء باعشن، كتاب الرياض.
«مع طه حسين فى أيامه»، عطية عامر، دار المعارف.
«طه حسين مفكرًا سياسيًا»، رشيد القرقورى، دار المعارف.
«رسائل طه حسين»، إبراهيم عبدالعزيز، دار ميريت.
«طه حسين.. قضايا ومواقف»، حسن أحمد جغام، دار المعارف.
«محاكمة طه حسين»، خيرى شلبى، دار المعارف.
«طه حسين مطلوب حيًا وميتًا»، على شلش، الدار العربية للطباعة.
«سيرة الغائب سيرة الآتى: السيرة الذاتية فى كتاب الأيام لطه حسين»، شكرى المبخوت، دار الجنوب للنشر.
«طه حسين: سيرة مكافح عنيد»، أحمد علبى، دار الفارابى.
«طه حسين أيام ومعارك»، نجاح عمر، دار الموقف العربى.
«معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين»، إبراهيم عوض، مطبعة الفجر الجديد.
«فن المقال الصحفى فى أدب طه حسين»، عبدالعزيز شرف، الهيئة المصرية العامة للكتاب.