رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحية إلى رجُل الأزمات الصعبة

في سابقة لم تحدث من قبل، قرر الرئيس عبدالفتاح السيسي أن يكون لقاؤه مع وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، علنيًا ومُذاعًا على الهواء.. لماذا؟.

لأن الرئيس أراد أن يوضح للعالم كله، وللمزايدين على مصر، أن هذه هي أرض الكنانة، علانيتها مثل مستورها، لا تتبنى وجهتي نظر تجاه قضية معينة، إنما هي رؤية واحدة وقرار واحد.. هذا رأينا فيما يحدث في قطاع عزة، وليس هناك في الكواليس ما تستحي القاهرة من إعلانه.. وكأنما الرئيس، أو هو كذلك بالفعل، أراد أن يحدد مسار الزيارة، وتوجيه بلينكن لما يجب الحديث حوله، دون أن تكون القاهرة رد فعل لما جاء به وزير الخارجية الأمريكي، الذي ـ وعلى عكس ما يُشاع ـ قد جعل القاهرة المحطة الأخيرة، بعد جولته في المنطقة، قبل أن يعود ثانية لتل أبيب، ليستمع للقول الفصل في قضية تؤرق الشرق الأوسط برمته، عندما أعرب الرئيس أنه يأمل في أن يكون اجتماعه بوزير الخارجية الأمريكي فرصة لإيجاد حل للأزمة الحالية، التي وصفها بـ(الخطيرة)، وشدد على ضرورة إيقاف تطورات الأزمة الحالية، التى من الممكن أن يكون لها تداعيات على منطقة الشرق الأوسط؛ وتحدث الرئيس باللغة التي يفهمها الغرب، وهي لغة الأرقام التي لا تكذب، (12500 فلسطيني قتلوا بسبب جولات العنف المتكررة في غزة.. التأخير في حل القضية الفلسطينية يترتب عليه المزيد من الضحايا.. ورد الفعل الإسرائيلي تجاوز مبدأ حق الدفاع عن النفس إلى العقاب الجماعى).
ولأنه ليس هناك رد فعل لا يسبقه فعل، فقد شدد الرئيس السيسى، على ضرورة خفض التوتر وتيسير دخول المساعدات إلى قطاع غزة، (إن الموجة التي تشكلت في أعقاب الأزمة موجة ضخمة جدًا، ونحن بحاجة للتحرك بقوة وبعزم لخفض التوتر وتيسير دخول المساعدات لقطاع غزة المحاصر دون مياه أو كهرباء أو وقود.. ويجب ضرورة الاستماع للمعنيين بالقضية والعالمِين بأسباب الأزمة).. وهنا، تساءل الرئيس (لماذا قُتِلَ السادات؟، ولماذا قُتِلَ رابين؟، ومن الذي قتلهم؟.. المتطرفون.. ونحن بحاجة للعمل سويًا).. نافيًا أن يكون ما يحدث في المنطقة حرب دينية، لأن اليهود الذين عاشوا في مصر لم يتعرضوا لأي شكل من أشكال القمع أو الاستهداف، كما لم يحدث في المنطقة العربية أن تم استهداف اليهود على مدار التاريخ القديم والحديث.. اليهود تم استهدافهم فقط في الدول الأوروبية، لكن لم يحدث ذلك مطلقًا في الدول العربية.. (تربيت في حي كان بجواري يهود، ولم تحدث أى مشكلة).
وقفت مصر بقوة أمام الطلب الأمريكي، ورفض الرئيس السيسي فتع معبر رفح لعبور الأمريكيين الموجودين في القطاع باتجاه أراضينا، إلا إذا عبرت المساعدات الإنسانية المُقدمة من مصر وغيرها باتجاه القطاع لنجدة أهاليه الذي قرصهم الجوع وأماتهم الظمأ، وعاشوا في ظلام دامس بعد قطع مصادر الطاقة عنهم.. ما دفع بلينكن لإعلان فتح الطريق أمام المساعدات، من اليوم التالي، بعدما قال، إنه جاء إلى مصر للتحدث بشأن العمل معًا لحل الأزمة وحماية المدنيين، مؤكدًا أن العمل سيكون بناءً ومثمرًا، (ما رأيناه الأيام السابقة يجعلنا نتحدث أكثر عن العمل معًا والتعاون في إطار المسار الصحيح، وإلا فإن البديل هو مسار لا يشوبه سوى  الدمار.. التحدي بالنسبة إلينا هو العمل معًا وإرجاع الجميع إلى الطريق الصحيح).. دون أن يسأل المغرضون أنفسهم، ما الذي كان من الممكن أن يكون عليه الوضع، إذا عاندت أمريكا؟!.. ولكنها إرادة مصر التي تتمسك بها، وتدافع عن الحق فيها، وهذا ما يستوجب منا التحية للرئيس السيسي، الذي يُثبت دومًا أنه (رجل الأزمات).
لقد أكدت مصر أن أمنها القومي (خط أحمر)، خط جديد ترسمه مصر، لا تتهاون في حمايته.. والمتذكر لاتفاقية كامب ديفيد، بين مصر وإسرائيل، يعلم أنه كانت من ورقتين فقط.. واحدة منهما بالكامل تخص فلسطين، وتنص على أنه يجب أن تكون فلسطين دولة حرة ولها أرضها، وهو ما لم تحققه إسرائيل وتقاعس عنه أصحاب الشأن.. وهذا معناه، أن المشكلة ليست في دخول أكثر من مليوني فلسطيني إلى مصر، فقد قال الرئيس السيسي من قبل، إن هناك أكثر من تسعة ملايين ضيف، لجأوا إلى مصر من الدول الشقيقة والمجاورة التي تعاني من أزماتها، طالبين الأمن والأمان والعيش الكريم.. فإذا أضفنا إليهم مليونين من قطاع غزة، فلن يمثلوا لنا كارثة من أي نوع، لأنه من السهل استيعابهم وسط الشعب المصري، وليس بالضرورة في سيناء، كما حدث مع غيرهم، إنما الكارثة تكمن في هذا الوضع الجديد، ويمثل لنا قضية (أمن قومي)، لأن مصر تعتبر أن القضية الفلسطينية هي عين أمنها القومي.. وهنا لا بد أن نفهم أبعاد هذا الموضوع.. فالقضية الفلسطينية ـ آمنت بذلك أو لم تؤمن ـ جزء من دور مصر في المنطقة، والناظر إلى ما يصدر عن البعض من تحريض على القاهرة، ووصفها بما لا يليق، فإن هؤلاء أنفسهم لا يقدمون للقضية إلا بعض مساعدات إنسانية وبيانات من الشجب والاستنكار لا تُسمن ولا تُغني من جوع، والدور الحقيقي والفاعل، هو دور مصر.
الداعون إلى تهجير أهل قطاع غزة إلى سيناء، وأهل الضفة الغربية إلى الأردن، إنما يقضون على القضية التاريخية للشعب المنكوب ويدفعون بها نحو الموت المُحقق، لأن الدولة هي أرض وشعب وسلطة، وبدون الشعب تضيع الأرض وتسقط السلطة، وتفنى الدولة.. لذلك، فإن مصر تشدد على أنه لا حل للقضية الفلسطينية إلا حل الدولتين، مع رفضها البات سياسة التهجير القصري أو الطوعي، أو محاولات تصفية القضية على حساب شعبها ودول الجوار.. ونؤكد أننا لا نخاف على سيناء من أحد، أو أن يستولى عليها طامع، لأن حدوث ذلك غير واقعي أو منطقي، ونحن قادرون على حمايتها، ولكن، كما قلنا، نخاف على القضية التي راح من أجلها ملايين الشهداء والضحايا عبر التاريخ، منذ وعد بلفور 1917، والنكبة عام 1948، وحتى الآن.. ولكل المُتنطعين نقول،: اسألوا انفسكم (هل دخول مليوني لاجئ إلى سيناء خطر عليها، أم أن الخطر على الفلسطينيين الذين سيفقدون دولتهم إلى الأبد).. فأزمة مصر هي تصفية القضية، ومثل هذا الإجراء كفيل بإنهائها تمامًا.
صحيح، أنهم يغرون مصر على المضي في طريق تصفية القضية، سواءٌ الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي وغيرهم، مقابل إسقاط الديون والدعم اللا محدود لخروج القاهرة من حالة التضخم وأزمتها الاقتصادية، ومساعدتها على أن تكون مركزًا تجاريًا واقتصاديًا ومنصة للطاقة في المنطقة، والدفع بها نحو أفاق المستقبل الرحب.. لكن مصر التي دفعت من أرواح أبنائها، شهداءً في سبيل القضية الفلسطينية ومن اقتصادها على مدار عشرات السنين وما زالت، لا يمكن أن تُفرط الآن، لأنها مسألة مبدأ وشرف دولة، في زمن عزَّ فيه الشرف.. إن المكاسب التي تفوق الخيال التي يعِدُون مصر بها، تهون أمام أن تتخلى مصر عن مبادئها، ولأن في ذلك خيانة لمصريتنا وعروبتنا، والقضية التاريخية للشعب الفلسطيني، ونحن لم نعتد التفريط في الحقوق ولم نطعن أحدًا في ظهره، بل إننا ضحينا كثيرًا بمصالحنا من أجل مصالح الآخرين، وهذا قدر الكِبار.. ناهيك عن أن مصر لم تُرهِبها يوم عصا ولم تُغرِها جزرة.. هل فهمتم؟!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.