رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خلى السلاح صاحى.. عدونا غدَّار

(ربما يجىء يوم نجلس فيه معًا، لا لكي نتفاخر ونتباهى، ولكن لكي نتذكر وندرس ونُعلم أولادنا وأحفادنا، جيلًا بعد جيل، قصة الكفاح ومشاقه ومرارة الهزيمة وآلامها وحلاوة النصر وآماله.. نعم سوف يجىء يوم نجلس فيه لنقص ونروي ماذا فعل كل منا في موقعه، وكيف حمل كل منا أمانته وأدى دوره .. كيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة في فترة حالكة ساد فيها الظلام، ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق حتى تستطيع أمتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء).. صدق الرئيس الراحل، محمد أنور السادات، عندما قال ذلك في خطاب النصر أمام مجلس الشعب، فى السادس عشر من أكتوبر 1973.. لأننا، وبعد مرور خمسين عامًا من هذا الانتصار العظيم، وفي عيده الذهبي، احتفلت مصر، درة التاريخ وأصله، ومبتدى الحكاية ومنتهاها، ممثلة في قواتها المسلحة، بتخريج دفعات من الأكاديمية والكليات العسكرية المصرية، في أجواء حامت فيها أرواح الشهداء، التي نالت التحية والتقدير، في ذكرى جاءت حاملة للعِبرة.
صحيح، كان الليل طويلًا وثقيلًا، ولكن الأمة لم تفقد إيمانها أبدًا بطلوع الفجر، وبأن التاريخ سوف يسجل لهذه الأمة أن نكستها لم تكن سقوطًا، وإنما كانت كبوة عارضة، وأن حركتها لم تكن فورانًا وإنما كانت ارتفاعًا شاهقًا.. إن قواتنا لم تُعط الفرصة لتقاتل عام ١٩٦٧ دفاعًا عن الوطن وعن شرفه وعن ترابه، لم يهزمها عدوها ولكن أرهقتها الظروف التي لم تعطها الفرصة لتقاتل.. إن القوات المسلحة المصرية قامت بمعجزة على أعلى مقياس عسكرى، استوعبت العصر كله تدريبًا وسلاحًا، بل وعلمًا واقتدارًا، وحين أصدر لها الرئيس السادات الأمر أن ترد على استفزاز العدو وأن تكبح جماح غروره، فإنها أثبتت نفسها، وقد أخذت هذه القوات في يدها زمام المبادأة وحققت مفاجأة العدو وأفقدته توازنه بحركتها السريعة.
لم يكن السادات متجاوزًا حين قال إن التاريخ العسكري سوف يتوقف طويلًا بالفحص والدرس أمام عملية يوم السادس من أكتوبر، حين تمكنت القوات المسلحة المصرية من اقتحام مانع قناة السويس الصعب واجتياز خط بارليف المنيع وإقامة رءوس جسور لها على الضفة الشرقية من القناة، بعد أن أفقدت العدو توازنه في ست ساعات، و(إذا كنا نقول ذلك اعتزازًا، وبعض الاعتزاز إيمان، فإن الواجب يقتضينا أن نسجل من هنا، وباسم هذا الشعب وباسم هذه الأمة، ثقتنا المطلقة فى قواتنا المسلحة.. إن هذا الوطن يستطيع أن يطمئن ويأمن بعد خوف، أنه قد أصبح له منذ الآن، درع وسيف).. وقد كان.. مازال العالم يعرف قدر انتصار السادس من أكتوبر، ويحفظ معدن الجندي المصري، ويستفيد من دروسه، وخصوصًا خطة الخداع الاستراتيجي، غير المسبوقة في التاريخ العسكري، وأصبحت درسًا من الذكاء، استفاد منها البعض بعد مرور خمسين عامًا كاملة، وفي نفس يوم العبور العظيم، وكأن شهر أكتوبر هو تميمة النصر على العدو الصهيوني.
وسط ابنائه، طلبة الأكاديمية والكليات العسكرية، وقف الرئيس عبد الفتاح السيسي، بوجه مستشعرا لآلام إخوتنا في قطاع عزة، لم يُبدِ ابتسامًا طوال أحداث حفل التخرج، الذي استمر لساعات، اللهم إلا عندما سمع كلمات أوائل طلبة الكليات العسكرية، وأوائل خريجي الجامعات المصرية، الذين اقسموا لمصر على الولاء، والمشاركة في معركة العزة والبناء.. كيف لا، وهذه الأكاديمية هي التي تمد الوطن بصفوة شبابه، الذين يحملون أمانة الدفاع عن الأمة، ليكون كل منهم بطلًا من أبطال القوات المسلحة، خير أجناد الأرض، هؤلاء الذين يكونون القوة الغاشمة التي تحمي ولا تعتدي، تدافع ولا تُهاجم، لأنها تحمل في أعطافها شرف العسكرية المصرية ونبل القيم الإنسانية، لأنها لجيش مخلص رشيد، على أهبة الاستعداد الدائم للقيام بواجباته، داخل حدودنا، وإذا تطلب الأمر، خارج حدودنا.. وكأنما أراد الرئيس أن يشهد العالم بعض من الاحتفال بانتصار السادس من أكتوبر، شاهدًا على رسالة التواصل بين الأجيال في مصر.. جيل يُسلم القياد إلى آخر.. وليؤكد من جديد، أنه إذا كان الجيش قد فعلها وانتصر في 73، هذا الانتصار المُذهل للعدو وللعالم، فإنه قادر على أن يفعلها في كل مرة
تحدث الرئيس إلى الشعب المصري، وإلى كل شعوب الأرض بكلمات واضحة، وعبارات لا تحتمل تأويلًا.. إن حكم التاريخ وقواعد الجغرافيا قد صاغوا ميثاق الشرف العربي في وجدان الضمير المصري، مما جعل مصر، دائمًا وأبدًا، في صدارة الدفاع عن الأمة العربية، مُقدِمة الدماء والتضحيات، باذلة كل ما تملك من أجـل الحــق العربي المشــروع.. حين كانت الحرب كنا مقاتلين، وعندما كان السلام كنا له مبادرين، لم نخذل أمتنا العربية ولن نخذلها أبدًا.. واليوم ونحن في قلب تطورات شديدة الخطورة، وسعي دؤوب من أطراف متعددة للحيد بالقضية الفلسطينية عن مسارها الساعي لإقرار السلام القائم على العدل وعلى مبادئ (أوسلو)، والمبادرة العربية للسـلام، ومقـررات الشـرعية الدوليـة.. إلى تصعيد ينحرف عن هذا المسار، وإلى صراعات صفرية لا منتصر فيها ولا مهزوم، صراعات تخل بمبادئ القانون الدولي والإنساني، وتخالف مبادئ الأديان والأخلاق.
حرص الرئيس، في كلمته، على دعوة كافة الأطراف إلى إعلاء لغة العقل والحكمة، والالتزام بأقصى درجات ضبط النفس، وإخراج المدنيين والأطفال والنساء، من دائرة الانتقام الغاشم، والعودة فورًا للمسار التفاوضي، تجنبًا لحرائق ستشتعل ولـن تتـرك قاصـيًا أو دانيًا إلا وأحرقته، لأن كل صراع لا يؤول إلى السلام، هو عبث لا يعول عليه، مؤكدًا استعداد مصر لأن تسخر كل قدراتها وجهودها للوساطة، وبالتنسيق مع كافة الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة دون قيد أو شرط، لأن سعي مصر للسلام واعتباره خيارها الاستراتيجي، يحتم عليها ألا تترك الأشقاء في فلسطين الغالية، وأن نحافظ على مقدرات الشعب الفلسطيني الشقيق، وتأمين حصوله على حقوقـه الشـرعية، فهذا هو موقفنا الثابت والراسخ، وليس بقرار نتخذه، بل هو عقيدة كامنة في نفوسنا وضمائرنا، آملين بأن تعلو أصوات السلام، لتكف صرخات الأطفال، وبكاء الأرامل ونحيب الأمهات ولن يتأتى ذلك، إلا بتوفير أقصى حماية للمدنيين من الجانبين فورًا، والعمل على منع تدهور الأحوال الإنسانية، وتجنب سياسات العقاب الجماعي، والحصار والتجويع والتهجير، وعدم تحميل الأبرياء تبعات الصراع العسكري، وهو ما يستوجب تسهيل وصول المساعدات الإنسانية، لأبناء الشعب الفلسطيني، بشكل عاجل، وهنا، يجب على المجتمع الدولي اليوم أن يتحمل مسئولياته في هذا الصدد.
أراد الرئيس أن يقطع الطريق على المزايدين على عروبة مصر ونخوة شعبها، وسيرهم الحثيث في الدعوة إلى إفراغ قطاع غزة من أهله وتهجيره إلى سيناء، الحلم القديم الذي راود البعض أيام حكم الإخوان، وقطع المشير عبد الفتاح السيسي الطريق عليهم، وقت أن كان وزيرًا للدفاع، وراود نتنياهو منذ عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك.. فأكد في كلمة مُرتجلة، أن الأمم تصمد بشعبها وقيادتها معًا، ومن المهم الانتباه إلى التحديات الموجودة في منطقتنا، ولابد من متابعة ومراجعة الأوضاع على حدودنا من اتجاهاتها الثلاث.. ستجدونها مشتعلة.. وضرب مثلًا للبسطاء، يوضح أنه عندما يكون لنا جار لديه مشكلة، بالتأكيد ستؤثر فينا، فما بالك لو أن بيته كان مشتعلًا.. البيوت من حولنا مشتعلة، لكن شاءت إرادة اله أن تظل مصر آمنة مطمئنة.
صحيح هناك صعوبات وتحديات ـ هكذا يقر الرئيس ـ لكن الأهم هو ثباتنا وصمودنا، وأن نكون متفائلين بالله.. فمصر تدير شئونها بما يهدف إلى السلام والبناء والتنمية والتعاون.. سياسة راسخة وقديمة.. أساسها أن لا نتطلع خارج حدزدنا، ولا أن ننظر إلى ما في أيدي غيرنا، راضين بما أعطاه لنا الله.. وبالرغم من صعوبة المرحلة الحالية، إلا أن مصر تبذل جهدها لاحتواء التصعيد والاقتتال، ومحاولة وقفه في قطاع غزة، والتخفيف عن الشعب الفلسطيني هناك.. ولذلك، فإن اتصالات مصر لا تنتهي، نتحدث مع الجميع، وفي نفس الوقت، نحرص على تقديم المساعدات الإنسانية والطبية، والتأكد من وصولها إلى أهالي القطاع.. ومع هذا، فالمغرضون يرددون الشائعات، ولهؤلاء نؤكد، أن مصر تتواصل مع الأشقاء لوضع حد للأزمة المتفاقمة في عزة، بعيدًا عن العواطف ـ وإن كانت ضرورية ـ إلا أن العقل يجب أن يصل بنا إلى السلام، دون أن يكون الثمن مكلفًا.. صحيح نحن مستعدون لهذه الكُلفة، لكن في حدود إمكانياتنا.. لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولا مساومة على شبر من أرض مصر.
مصر لم تتسبب في مشكلة لأحد.. بل على العكس، فإن على أرضها أكثر من تسعة ملايين ضيف، يعيشون بين ظهرانينا، يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب، ويحظون بالرعاية الطبية والتعليمية وغيرها من المتطلبات الإنسانية، شأنهم شأن كل المصريين.. جاءوها جميعًا طلبًا للأمن والأمان، لكن قضية سكان قطاع غزة تختلف كثيرًا.. لأن ما يُراد من تهجير هؤلاء السكان إلى سيناء، هو إفراغ للقطاع من أهله، وتصفية القضية الفلسطينية برمتها.. وهنا يجب أن ننتبه، لأن مشكلة فلسطين هي قضية القضايا، هي قضية العرب، ومن المهم أن يظل شعبها على أرضه.. قال الرئيس، إن مصر، ومنذ عام 2011، تعاني من ظروف صعبة، أزمة بعد أزمة، لكن الله دومًا يُسلِمها من كل سوء.. فرق بين تكاليف حياة وإهدار حياة وخراب دول.. مصر ستظل باقية صامدة، قادرة بإذن والله وبشعبها، ولن يستطيع أحد المساس بها، إلا من خلال شعبها.. هي قادرة على تأمين نفسها، وشعبها مسئول أيضًا عن هذا التأمين.. وهنا لفت الرئيس إلى أهمية الحذر، وأخذ الحيطة من هؤلاء الذين يزينون للناس ويفتنونهم عن بلادهم.
تحية إلى شهيدنا البار، وإلى جندينا الهُمام.. وحفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.