رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هكذا تحدث المُعَـلِّم "شوقى جلال" فى وصيته الأخيرة

  رحل عن دنيانا، منذ أيام قلائل، مُكللًا بالمحبة ومُحاطًا بالاحترام، علمٌ من أعلام الثقافة والفكر والترجمة والإبداع؛ "شيخ المُترجمين"، أو "فيلسوف التراجمة، وتُرجمان الفلاسفة" على حد وصف د. "عمرو على بركات"، وباني جسور المعرفة والتفكير مع العقل الإنساني الخلّاق في الشرق والغرب، الأستاذ الكبير "شوقي جلال"، (30 أكتوبر 1931 ـ 17 سبتمبر 2023)، رحمه الله رحمة واسعة.

   لم يكن الأستاذ "شوقي جلال" مُجرد "مُترجم" والسلام، يُترجم ليعتاش أو ليعيش دون أن يُعير مضمون ما يُترجمه ما يستحق من تَبَصُّرٍ واعتبار، وإنما تفاعل مع فعل الترجمة كسبيلٍ لخدمة الوطن والمواطنين، وسلاحٍ للتنبيه، وأداةٍ للتوعية، ووسيلةٍ للتغيير، ورافعةٍ للمعرفةٍ تدفع بمسيرة المُجتمع قُدمًا إلى الأمام، وتُميط اللثام عما غفلنا عنه فتخلفنا، وأخذ به الآخرون فتقدموا.

   درس الأستاذ "شوقي" الفلسفة وعلم النفس، بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة، وحصل على الليسانس عام 1956، واتجه إلى العمل في التأليف والترجمة منذ بدايات حياته المهنية، وكان عضوًا بلجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وإفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة التابع للأمانة العامة لجامعة الدول العربية ومقرها الجزائر، وغيرها من الهيئات الثقافية والفكرية المرموقة.

   ترجم الأستاذ "شوقي جلال"، وألَّفَ نحو ثمانين كتابًا، كما اشتهر بترجماته الدقيقة والرصينة لأُمهات الكتب العالمية، في الأدب ومن أبرزها: "المسيح يُصلب من جديد" لـ "نيقوس كزانتزاكس"، لكنه اهتم اهتمامًا خاصًا بالكتب المُهمة في التأريخ للعلم، وإنجازاته، ومناهج البحث فيه، وتأثيراته العميقة على الكون والبشر والحياة الإنسانية، ومنها: "تشكيل العقل الحديث" لـ"برينتون"، و"بنية الثورات العلمية" لـ"توماس كون"، و"الآلة قوة وسلطة ـ التكنولوجيا والإنسان" لـ"آر. إيه. بوكانان"، و"تكوين العقل" لـ"كريس فريث"، و"تاريخ العلم والعلماء" لـ"جون جرين"، و"فكرة الثقافة" لـ"تيري إيجلتون"، و"الثقافة والمعرفة البشرية"  لـ"ميشيل توماسيللو"، وغيرها من أرفع الكتب العالمية.

  وإضافةً لهذا الفرع من فروع المعرفة المُتقدمة، اهتم اهتمامًا شديدًا بترجمة عيون الكتب والدراسات الموضوعية في البحث التاريخي وتاريخ الحضارات، وبالذات تلك التي تميزت بالموضوعية والتجرّد، وسعت لإبراز الحقائق بعيدًا عن الانحياز والسطو والتدليس، على نحو ما فعل البعض بالادعاءات الكاذبة عن دور مزعوم لليهود في تأسيس وبناء الحضارة المصرية القديمة الزاهرة، وآثارها العظيمة الباقية؛ أو تلك التي أنكرت فضل السبق لحضاراتنا القديمة على ما تلاها من مراحل حضارية (غربية) تالية، تأكيدًا لمزاعم المركزية الغربية، ودورها التاريخي في بناء ركائز الحضارة الكونية المُعاصرة، ومن أهم ما ترجمه في هذا السياق، كتاب "التراث المسروق" للباحث الأمريكي "جورج جيمس" والذي يُثبت الجذور والأسس المصرية القديمة للفلسفة (اليونانية)، كما تحمس وكتب عن الترجمة التي تمت لكتاب "أثينـة السـوداء: الجذور الأفرو آسيــوية للحضــارة الكلاسيــكية" لـ"مارتن برنال"، والذي دافع عبر صفحاته عن مصر وحضارتها ضد حملات الازدراء الموجهة لها، التي وصلت ذروتها بعد الاحتلال الإنجليزي عام 1882، حيث كانت النزعة الإمبريالية الإنجليزية ـ الأوروبية ـ تُغذي النعرة العنصرية في الدراسات الكلاسيكية والمصريات، وتدعم "النموذج الآري" الذي يُميز بين الشعوب على أساس العنصر والسلالة واللون.

   فالجنس الآري الأبيض، أو الهندو ـ أوروبي أو الهندو ـ جرماني هو الأسمى والأفضل، ولا يُمكن أن يتلقى التأثير من الجنس الأدنى مثل مصر الإفريقية السوداء، على نحو ما أشار د. "أحمد عثمان" في مقدمة ترجمة الجزء الأول من الأجزاء الثلاثة لهذا السفر القيِّم.

   لكن جهد الأستاذ "شوقي جلال" لم يتوقف عند الترجمة وحسب، على ما قدمه من عطاء وافر في هذا المجال، وإنما وضعَ من تأليفه عشرات الكتب والأبحاث المُميزة، تناول فيها ـ بعمقٍ وشجاعةٍ ونزاهةٍ وموضوعيةٍ ـ الأمراض المُزمنة لثقافتنا وشعوبنا، مُشَرِّحًا أوضاع مصر والمجتمعات العربية قياسًا إلى العالم المُتقدم، وواضعًا اليد على "أصل الداء" و"سر البلاء"، ومن هذه المؤلفات: "الحضارة المصرية: صراع الأسطورة والتاريخ"، "ثقافتنا والإبداع"، الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل"، "المجتمع المدني وثقافة الإصلاح"، "أركيولوجيا العقل العربي"، "التراث والتاريخ"، "على طريق توماس كون"، "العقل الأمريكي يُفكر"، "الصين: التجربة والتحدي".. إلخ.

   وقد أجمل الأستاذ "شوقي جلال" خُلاصة رؤيته لـدواعي وأسباب ما أطلق عليه "أزمة الفكر العربي"، التي اعتبرها "أزمة حضارة، أو أزمة فعل التحول الحضاري"، في كتابه المُهم "الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل"، مؤكدًا على حاجتنا لـ"دراسة سوسيولوجية وأنثروبولوجية وتاريخية نقدية لواقع حركتنا في التاريخ، وبُنيتنا الثقافية الاجتماعية المُتوارثة، وأثرها على السلوك العرفاني، ومسئوليتها عن التقاعس والتواكُل، وأن نُعيد إحياء إيجابيات حياتنا الفكرية، مع تجديد أو تثوير قواعد تفكيرنا وتنشئتنا وتعليمنا".

   وفي آخر حواراته القيِّمة، التي أجراها معه د. "محمود القيعي"، بـ "جريدة الأهرام"، (مُلحق الجمعة الثقافي ـ 30 يوليو 2023) حذَّرَ ـ وكأنه كان يُدلي بوصيته الأخيرة ـ من أن "الدولة"، أي "دولة"، إذا ضعفت، لأسباب داخلية على وجه الخصوص، ضعفت مناعتها، واشتدت الأطماع فيها، وتصارعت النسور على افتراسها"، مؤكدًا على وجوب إعادة الاعتبار لمن أسماه "الإنسان العام" أو ما يُمكن وصفه بـ"المواطن العادي": لأنه "هو القوة الداعمة لحماية بلده ضد الأطماع، (حين) يكون الفرد صاحب وعي حُر، مؤمنًا بذاته وتاريخه"، مُوضحًا أن "الحضارة ليست مُجرد امتلاك أدوات وتقنيات حضارية من حيث السلاح والاتصالات والطعام، بل الأهم من حيث الإنسان فكرًا وثقافة، ومُساهمة حُرة للفعل الحضاري، والإحساس بالمُشاركة الفعّالة ..إلخ"؛ أي "عدم الاغتراب عن المُنتج الحضاري، بل المُساهمة في صُنعه"، ضاربًا المثل بتجربتين مُعاصرتين ناجحتين، هما اليابان والصين، حيث نأيتا بنفسيهما عن الغرق في "المُشاحنات النظرية" حول "الهوية وأبعادها"، و"إنما أكدتا هويتهما وحققتا ذاتهما بالتحدي والنديّة، وبإنتاج الوجود المُجتمعي على مستوى حضارة العصر، ونجحتا في تأكيد الهوية المُجتمعية التاريخية بفضل تطوير الموروث، واستيعاب مكونات الحضارة الكونية الحديثة، وإنتاج الوجود الحضاري الذاتي في نديّةٍ وتحدٍ يُعزز كبرياء المواطن".

   هكذا تحدث المُعلِّم "شوقي جلال" في وصيته الأخيرة، فهل نتفهمها، ونأخذ بجماع خبرته المُكَثَّفة فيها؟