رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من تاريخ جماعة الإخوان الأسود (3)


عادةً ما تلجأ الدول الكبرى، التي تسعى لبسط هيمنتها على أجزاء كبيرة من العالم، إلى تدعيم علاقاتها ببعض الجماعات المحلية، التي تساعدها في تنفيذ سياساتها في هذه المنطقة.. فعلتها فرنسا وبريطانيا، بتدعيم صلتها ببعض الجماعات الإثنية في مستعمراتهما الخارجية، في آسيا وإفريقيا، رغبةً منهما في إيجاد نُخبة معينة تساعدهما على تحقيق مصالحهما في هذا الإقليم أو ذاك.. وفي القرن العشرين، برزت هذه الظاهرة بوضوح؛ ففي الحرب العالمية الثانية حاول الألمان استخدام المسلمين في الاتحاد السوفييتي وآسيا الوسطى، وتكوين طابور خامس لمواجهة السوفييت.. وبعد ذلك، أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، برز هذا الاستخدام السياسي للعديد من الجماعات المناوئة لأيديولوجية الآخر، فنجد دعم المعسكر الغربي للإسلاميين في المنطقة العربية، لضرب المشروع القومي الناصري، ونجد دعم السوفييت للأحزاب الإشتراكية والشيوعية والعسكريين، لضرب المشروع الرأسمالي في العديد من الدول.
في هذا السياق، بدأت علاقة بريطانيا بالجماعات الأصولية، بإيجاد حليف استراتيجي لها في بعض المناطق لتنفيذ سياساتها التوسعية، وهي علاقات ممتدة ووثيقة الصلة، منذ بدأت بريطانيا مشروعها الاستعماري لتُصبح بريطانيا العظمى، «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس».. والحديث عن هذه العلاقات ليس كلامًا مُرسلًا، وإنما هناك من الأدلة والوثائق التي تؤكد على استخدام بريطانيا للجماعات والحركات الأصولية الإسلامية، سواء لمواجهة نفوذ روسيا القيصرية في آسيا الوسطى في القرن التاسع عشر، أو لتفتيت السلطنة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى.. كما أنَّ علاقة بريطانيا بجماعة الإخوان أو احتضانها للعديد من أنشطة الجماعة، والغالبية من قادة التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، لم يكن وليد هذه الأيام، وإنما الموضوع ممتد.. وهذا لا يعني أنَّ العلاقة بين جماعة الإخوان وبريطانيا كانت مستقرة دائمًا، أو أنها تسير على وتيرة واحدة، بل خضعت إلى الكثير من المد والجزر، بما يخدم مصالح الطرفين.
وقد أشار حسن البنا في مذكراته «الدعوة والداعية»، الى أنَّه تلقى دعمًا من هيئة قناة السويس، المملوكة للحكومتين الفرنسية والبريطانية، كمساهمة في بناء مسجد الإخوان بمدينة الإسماعيلية.. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، بدأت بريطانيا تمول جماعة الإخوان وبعض الروابط والجماعات الإسلامية الآخرى لمساندتها.. ووفق الوثائق الرسمية التي رفعت بريطانيا عنها السرية، أنَّه حصل أول اتصال بين بريطانيا وجماعة الإخوان عام 1941.. وفي 18 مايو 1942 عُقِد اجتماع في السفارة البريطانية مع أمين عثمان باشا، رئيس وزراء مصر، ونُوقشت العلاقة مع الإخوان، وفيه اتفقا على أنَّ تتولى الحكومة المصرية سِرًا دعم الإخوان، وأنها ستحتاج في هذا الدعم البريطاني، كما أنَّ الحكومة المصرية ستُدخل عملاء موثوقًا بهم في صفوف الإخوان لتراقب الأنشطة عن كثب، كما ستتعاون الحكومة البريطانية بالمعلومات مع الحكومة المصرية في هذا الشأن.
وقد ذكرت الموسوعة البريطانية، أنَّ جماعة الإخوان لجأت إلى العنف في الفترة من عام 1945 1949، واغتالت العديد من الشخصيات، بينهم محمود فهمي النقراشي، رئيس وزراء مصر الأسبق.. وذكر تقرير السفارة البريطانية في القاهرة، أنَّ جماعة الإخوان تمتلك تنظيمًا إرهابيًّا منذ عهد بعيد، ولم تنجح الحكومة المصرية في القضاء عليه.. وفي فبراير وأبريل 1953، بدأت اللقاءات الرسمية بين حسن الهضيبي، المرشد الثاني لجماعة الإخوان, وتريفور إيفانز، في السفارة البريطانية، في الوقت الذي كانت الحكومة المصرية تتفاوض مع بريطانيا لجلاء قواتها تمامًا ونهائيًا عن مصر، وقد اتهمت الحكومة المصرية جماعة الإخوان بأنها تُعرقِل وتعطل مفاوضات الجلاء، وقد أُلقيَّ القبض على الإخوان متلبسين بجريمتهم، ومع اقتراب المواجهة بين عبد الناصر وبريطانيا، اشعلت جماعة الإخوان الحرب ضد الرئيس «القومي» عبد الناصر، وصلت إلى محاولة اغتياله في حادث المنشية 1954.. كما استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا حركات الإسلام السياسي والحركي، ومن بينها جماعة الإخوان في مصر، والجماعات الجهادية في أفغانستان، لضرب التيارات القومية والناصرية في مصر، إبان فترة الخمسينيات والستينيات، بينما استُخدمت الثانية لضرب نفوذ وقوات الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.
كانت هناك رغبة واضحة من البريطانيين والإخوان للتعاون مع بعضهما البعض، والتي أصبحت أكثر أهمية أواخر 1953، وهو الوقت الذي قال فيه عبد الناصر بمقاومة جماعة الإخوان لمشروع الإصلاح الزراعي، ومحاولة تخريب الجيش من خلال «الجهاز السري» للجماعة.. في مطلع 1954 اشتبك أنصار الحكومة والإخوان في جامعة القاهرة؛ وتم إصابة عشرات الأشخاص، كما تم إحراق سيارة جيب عسكرية، الأمر الذي جعل ناصر يصدر قراره بحل جماعة الإخوان.. من بين قائمة طويلة من الاتهامات ضدهم تضمنها مرسوم الحل، جاءت اجتماعات الجماعة مع البريطانيين، الاجتماعات التي استمرت حتى وصلت لتكون أقرب إلى «معاهدة سرية».. وفي الوقت الذي سعى فيه الإخوان للترويج لانتفاضة شعبية، حاول جناحها العسكري اغتيال عبد الناصر، فيما عرف بـ «حادثة المنشية»، التي وقعت في الإسكندرية، بعدها تم إلقاء القبض على مئات من أعضاء الجماعة، في حين هرب بعضهم خارج البلاد.
قررت بريطانيا التخلص من جمال عبد الناصر بعد ثلاث سنوات من الثورة، خصوصًا في أعقاب تقرير رالف ستيفنسون، سفير بريطانيا في القاهرة آنذاك، الذي قال فيه، « إنَّ الحكومة تعمل من أجل مصالح الشعب، في محاولة منها لعمل إصلاحات داخلية يستفيد منها الفقراء»، ووصف رالف حكومة الثورة آنذاك بأنها «أفضل من أي حكومة مرت بها مصر منذ عام 1922؛ لأنها تحاول أن تفعل شيئًا للشعب بدلًا من مجرد الحديث»، وأنهى ستيفنسون تقريره إلى هارولد ماكميلان، وزير الخارجية في حكومة أنتوني إيدن، «أن حكومة ناصر تستحق كل المساعدة الممكنة، التي يمكن أن تقدمها لها بريطانيا العظمى بشكل صحيح».. بعد تسعة أشهر من كتابة هذه المذكرة، قررت البريطانية اغتيال عبد الناصر والتخلص منه نهائيًا.. في عامي 1955 و1956 ساند عبد الناصر العديد من الحركات التحررية ضد الاستعمار، خصوصًا في البلاد العربية، الأمر الذي كان بمثابة إعلان ناصر العداء، لبريطانيا وفرنسا والدول الكبرى في ذلك الوقت، وفي الوقت نفسه قام المسئولون البريطانيون برصد دقيق لأنشطة جماعة الإخوان المناهضة للنظام، والتي أدركت أنَّ الجماعة أصبحت تشكل تحديًا خطيرًا لعبد الناصر، كما جاء ذلك وفقًا لتقرير روبرت باير، ضابط وكالة المخابرات المركزية البريطانية السابق.
قبل العدوان الثلاثي على مصر، توقع تقرير للمسئولين البريطانيين، أنَّ جماعة الإخوان ستكون المستفيد الأول لتشكيل حكومة والإمساك بمقاليد السلطة، في حال شن حرب على مصر واعتقال جمال عبد الناصر؛ السيناريو الذي أكد المسئولون البريطانيون، إمكانية حدوثه، و إن كانوا يخشون أن سيطرة الإخوان ستُنتج نموذجًا أكثر تطرفًا من حكومة ناصر نفسها، إلا أن ذلك لم يمنعهم من الاتفاق معهم.. وبعد بضعة أشهر من هزيمة بريطانيا، وبالتحديد أوائل عام 1957، أوصى تريفر إيفانز، المسئول الذي قاد الاتصالات البريطانية مع الإخوان، في عدة تقارير كتبها قبل أربع سنوات، بأن «اختفاء نظام عبد الناصر، ينبغي أن يكون هدفنا الرئيسي»، وأشار مسئولون آخرون إلى أن جماعة الإخوان ظلت نشطة ضد ناصر داخل وخارج مصر، خصوصًا في الأردن، وأشارت التقارير إلى ضرورة استخدام الجناح العسكري للإخوان في الفترة المقبلة.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.