رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مؤتمر «بريكس» خطوة ثابتة باتجاه نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب «2»

حظى قرار قمة تَجَمُّع «بريكس» فى دورته الخامسة عشرة، التى استضافته مدينة «جوهانسبرج» عاصمة دولة جنوب إفريقيا، والخاص بقبول طلب ست دول جديدة الانضمام إليه، ومنها «مصر»، بقبول وترحيب شعبى ورسمى ملحوظين.

تجربة مُرّة ونتائج بائسة!
ومصدر هذا الموقف الإيجابى من قرار التحاق مصر والدول الخمس الأخرى بركب «بريكس»، هو الإدراك العام، الصحيح، الذى تَكَوَّنَ لدى مُعظم مواطنى شعبنا وشعوب العالم الأخرى، بناءً على التجربة التاريخية المُمتدة لقرون، والمُتراكمة خلال عقود طويلة من المُعاناة والعنت فى العلاقة بين «المركز» و«الأطراف»، أى بين تحالف الدول الغربية الكُبرى الاستعمارية فى القرون السابقة، ثم الإمبريالية بزعامة الولايات المُتحدة مؤخرًا من جهة، وشعوب العالم «المُتخلف»، أو «المنهوب»، أو «النامى»، أو «الصاعد»، أو «البازغ»، أيًا  كان المُسمّى أو النعت، من جهة أخرى!
لقد أسفرت هذه التجربة المُرّة، عن إدراك عميق بأن هذه العلاقة المحكومة بالاستغلال والنهب والغدر والخديعة، لن تُنجز بأى حال التقدُّم المنشود لهذه الشعوب، ولن تدعمها فى محاولاتها لتجاوز مِحََنها المُتراكمة، أو لمواجهة التهديدات الوجودية المُتنامية لكينونتها، فهذا وهمٌ، لا يُمكن أن يتحقَّق بدعم من الغرب الإمبريالى، العنصرى، النيو ليبرالى، المُهيمن الراهن، لسبب أولى بسيط هو أن هذا الغرب صانع الكارثة ومُسبب الأزمة، وازدهار هذا الغرب الإمبريالى المُتوحش ورفاهيته ورخاء مواطنيه، إنما يعتمد- فى الأساس- على استمرار تخلُّف الشعوب خارج نطاقه، فى دول ما كان  يُدعى «العالم الثالث»!

إن هذا الوضع القائم والمُستقر من قرون، يُساعد الغرب ثلاث مرّات. 
الأولى: عبر الاستنزاف المُباشر لمُقدَّرات هذه الشعوب وثرواتها الخام، كالبشر، والنفط، والمعادن، والمواقع وخلافه «على نحو ما وقع، ويقع فى دول إفريقيا وغيرها، ودوافع انقلاب النيجر الأخير، مثال حى على ذلك».
والثانية: كسوق واسعة مُمتدة، تضم مليارات عديدة من البشر، لا غنى عن الهيمنة عليها من أجل تصريف فائض الإنتاج الغربى الهائل من سلع الإنتاج الاستهلاكى، التى أصبحت- بفعل آلة الترويج الإعلانى والثقافى الغربية الرهيبة- ضرورة حياة لا غنى عنها، ومن بيع الأسلحة وأدوات الدمار للنُخَبِ الحاكمة فى هذا العالم المُتخلّف، التى تُمثل مصدرًا مضمونًا ومُستمرًا لدخل ضخم لن تتنازل عنه الشركات العملاقة المُنتجة بسهولة!
والثالثة: كمجال لتصدير الفوائض المالية «وقسم كبير منها تراكمات لودائع الطبقات والنظم المُسيطرة فى العالم الثالث، كمدخولات دول النفط وغيرها»، والتى تُمنح للدول التى تحتاجها، كقروض باهظة الكلفة، وتُستخدم لفرض الإرادة وإملاء الشروط!

فرصة مواتية لقفزة تنموية
ولأن العالم الراهن، يمر بتحولات بنيوية مُتسارعة، على جميع الأصعدة، وبالذات التكنولوجيا والاقتصاد، تمثل فرصة مواتية، غير مسبوقة، لمن أرادَ، وعملَ، واستطاع، للتطور والانفلات من مُستنقع التخلُّف، والتى سبق أن وصَّفَهَا الرئيس الصينى، «شى جينبينج»، فى خطاب له بمنتدى سابق لأعمال مجموعة «بريكس»، يوليو 2018، بقوله: «إننا نشهد تغيُّرات كُبرى فى عالمنا، وهو شىء لم يره أحد على مدار قرن.. إن العقد المُقبل سيكون عقدًا  مُهمًّا  تحل فيه مُحركات نمو عالمى جديدة محل مُحركات نمو قديمة، وإن جولة جديدة من الثورة والتحول فى العلوم والتكنولوجيا والصناعات التى تتسم بالذكاء الاصطناعى والبيانات الضخمة، ومعلومات الكم والتكنولوجيا الحيوية تكتسب قوة دافعة، وتمنح الميلاد لعدد كبير من الصناعات وأشكال الأعمال الجديدة، وستُغيِّر بشكل جذرى التنمية العالمية وطرق عمل الشعوب ومعيشتها.. ويجب أن نغتنم هذه الفرصة المُهمة؛ لتمكين الأسواق الصاعدة والبلدان النامية من تحقيق قفزة فى التنمية».
إن النجاح فى هذه المُهمة الصعبة، لكن المُمكنة، يتطلَّب تحديثًا جذريًا فى طبائع ومقومات الدول الجديدة، وأيضًا يتطلب تغييرًا هيكليًا فى النظام الدولى الراهن. هذا التغيير الذى أوضح ملامحه المأمولة البيان الختامى لمؤتمر «جوهانسبرج» الأخير، بالنص على إعراب الدول المُشاركة فى المؤتمر «عن بالغ قلقها إزاء استخدام التدابير القسرية الانفرادية التى تتعارض مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وتؤدى إلى تداعيات سلبية لا سيما فى العالم النامى»، والتأكيد «مُجددًا على التزامهم بتعزيز وتحسين الحوكمة العالمية، من خلال تعزيز نظام دولى ومتعدد الأطراف أكثر مرونةً وفعاليةً وكفاءةً وتمثيلًا وديمقراطيةً، وخاضع للمساءلة».

عالم متعدد الأقطاب يتشكَّل اليوم
وليس هذا فحسب، وإنما اللافت للنظر فى هذا السياق، ما طُرح على لسان القادة الروس خلال وقائع أعمال «مؤتمر الدفاع والأمن» الذى نظمته «وزارة الدفاع الروسية» فى 15 أغسطس 2023، أى فى وقتٍ مُتقارب مع عقد مؤتمر قمة «بريكس» الأخيرة بجنوب إفريقيا، حيث أثار الانتباه «القاموس» اللغوى الذى استخدمه الرئيس الروسى «بوتين»، ووزيرا الدفاع والخارجية الروسيان «سيرجى شويجو» و«سيرجى لافروف»، فى وصف ما يجرى على الساحة الدولية من تحرُّكات وصراعات، والذى يسترجع تعبيرات «الحرب الباردة» التى غابت عن أسماع العالم لأكثر من ثلاثة عقود! 
إذ على حد تعبير الرئيس الروسى فإن: «التحديات الأمنية فى العالم ناتجة عن التصرفات المُتهورة والأنانية والاستعمارية الجديدة للدول الغربية، ونتيجةً لقيام حلف الناتو بمواصلة بناء قُدراته، واستخدام وسائل الضغط العسكرية وغير العسكرية»، مُنتقدًا «مُحاولات بعض الدول للتلاعُب بالشعوب، وتأجيج الصراعات، وإجبار بلدان أخرى على الانصياع لها فى إطار الاستعمار الجديد»، مُشيرًا إلى دور هذه الدول الغربية فى «تأجيج الصراع فى أوكرانيا»، وممارسة «سياسة صب الزيت على النار» وجر دول أخرى إليه، وإلى تَعَرُّض «دول منطقة الصحراء والساحل، مثل جمهورية إفريقيا الوسطى ومالى، لهجوم مُباشر من مجموعات إرهابية عديدة، بعد أن شنّت الولايات المُتحدة وحلفاؤها العدوان على ليبيا، مما أدى إلى انهيار الدولة الليبية».
كما أشار وزير الدفاع الروسى «شويجو» إلى أن الغرب يقوم بإشعال الحروب والصراعات فى جميع أنحاء العالم، ويسعى لفرض مصالحه الخاصة، ونرى الوجود الأمريكى والغربى فى الدول الإفريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية، والاستمرار فى بناء القواعد العسكرية الأمريكية، وتعزيز البنى العسكرية فى المُحيطين الهندى والهادئ، وتدشين تحالفات عسكرية مثل «أوكوس»... إن «الولايات المتحدة ما زالت تحاول زعزعة الاستقرار فى الشرق الأوسط، لذلك فعلينا أن نكون مُستعدين لجميع السيناريوهات». 
كما لفت وزير الخارجية الروسى «لافروف» الأنظار إلى خطورة الدور الذى تقوم به الولايات المتحدة و«الناتو» و«الاتحاد الأوروبى».. «من أجل إنقاذ مشروعهم الجو ـ سياسى لاستنزاف روسيا وتقسيم العالم الروسى، بمساعدة أوكرانيا بمزيد من الأسلحة الحديثة، وإشعال الصراع أكثر فأكثر»، مُحَذِّرًا من أن «مسارهم المُغامر وغير المسئول، يزيد- بشكل كبير- خطر وقوع صدام عسكرى مُباشر بين القوى النووية». 
لقد شهد هذا المؤتمر أكثر التعبيرات الروسية تحديدًا وحِدَّةً، فى مواجهة الولايات المتحدة، والغرب، والنظام العالمى الأُحادى القطبية القائم، منذ انهيار «الاتحاد السوفيتى» السابق أوائل عقد التسعينيات المنصرم، وتحريضًا على العمل، مع سائر الشعوب والدول المُتضررة منه، لتغييره، وتبديله- كما ذكر «بوتين» فى كلمته بالمؤتمر- بآخر أكثر عدلًا وإنصافًا، و«لتشكيل عالم مُتعدد الأقطاب، يقوم على المُساواة ومبادئ السيادة».. «إن عالمًا مُتعدد الأقطاب يتشكَّل اليوم»! جريدة «الشرق الأوسط»،  16/8/2023.

نتائج مُبَشِّرة وأدوار مُرتقبة
إن تجمُّع «بريكس» الذى يضم كتلة بشرية هائلة الحجم، تنتشر فى ربوع قارات المعمورة، وتنتج نسبة مؤثرة من الإنتاج العالمى، وتتحكم فى مصادر هائلة للدخل والثروات، وتسيطر على منافذ ومراكز استراتيجية دولية حاكمة، وتتمتع بقدرات علمية وتقنية بالغة الرقى، وتضم جيوشًا جرّارة وتملك ترسانات حربية نووية يُحسب لها ألف حساب، والذى يسعى- على نحو ما أشرنا آنفًا- لتشكيل نظام عالمى بديل للمنظومة الأحادية الراهنة، واستبدال النظام المالى الدولى القائم، بما يُمثله من استبداد وهيمنة، تصب فى صالح الغرب ومؤسساته المالية والدولار وسيطرته السياسية والاقتصادية.. إلخ، بنظام آخر خالٍ من الاستغلال والإكراه، يُمثل فرصة ذهبية لا مناص من انتهازها للعبور ببلادنا من «بحر الظُلمات» إلى أفق النور والرحابة، ومن سوط «صندوق النقد» وويلاته، إلى صوت الحرية والانطلاق، وهو أمر بيدنا نحن الآن لا بيد «عمرو»، وعلينا أن نبدأ رحلة الألف ميل.. بالخطوة الأولى.
...........................
* الأمين العام للحزب الاشتراكى المصرى
«أوكوس» اتفاقية أمنية ثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، لدعم أستراليا بواسطة الولايات المتحدة وبريطانيا فى تطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية وتكنولوجيات حربية حديثة، إضافة إلى تعزيز الوجود العسكرى الغربى فى منطقة المحيط الهادئ من أجل الردع النووى، وفى مواجهة الصين بشكل أساسى.