طاقة نور.. مات المثقف المثال.. رحلة صحفية في عالم محمد جابر«صاحب الألف وجه»
فى بداية الخمسينيات، وبينما مصر حبلى بثورة وشيكة على النظام الملكى.. كان هناك فى منطقة شعبية تحمل روح مصر ويحميها مقام السيدة زينب طفل صغير عمره ٦ سنوات فقط يواجه موقفًا صعبًا فى أول يوم له فى المدرسة، حيث بدأ مدرس الفصل أول طقس مدرسى متعارف عليه فى مصر، وهو حصر أسماء التلاميذ الجدد فى الفصول.. ونادى على الأسماء واحدًا تلو الآخر.. وعندما نادى على اسم محمد جابر لم يرد أحد.. نادى مرة أخرى فلم يرد أحد أيضًا.. ولأن الأستاذ يعرف صاحب الاسم، فذهب إلى طفل خجول حلو الملامح وقال له: أنت محمد جابر؟!.. تعجب الطفل وأنكر قائلًا له: لا يا أستاذ أنا اسمى نور إسماعيل.. فلاحت فى أفق عينى الأستاذ مسحة من حزن وتعاطف.. كبته وعاد يقول للطفل الصغير: «لا يا حبيبى أنت من النهارده اسمك محمد جابر».
انتهى اليوم الدراسى سريعًا وانطلق الطفل إلى بيته فى ٧ حارة الصايغ التابع لقسم الخليفة ليحكى للمرأة التى تنتظره ما حدث، ومستفهمًا منها سر ما قاله الرجل.
جلست المرأة الحانية التى كان يتعامل معها الطفل حتى تلك اللحظة على أنها أمه، وحكت ما لم يصل لإدراك الطفل الغض البرىء؛ ليكتشف نور أن اسمه الحقيقى هو محمد جابر، أما إسماعيل هذا فلم يكن سوى عمه أخو جابر الذى باع الدنيا حتى يربى أبناء أخيه الراحل فى السادسة والعشرين من عمره، أما أمه التى كشفت عن الأسرار فلم تكن سوى عمته التى شاركت أخاها إسماعيل فى حمل أثقال والده المتوفى، وهما نور أو محمد وأخته الكبيرة بعد أن قررت الأم الحقيقية أن تتزوج.. وتصنع لها حياة جديدة.
تلك الحياة المفعمة بالشقاء النفسى لنور المحروم من أبويه كانت دافعًا له ليكتشف ما بداخله من قدرات ومواهب خرجت بدافع التحدى، فوجد نور الطفل والمراهق نفسه يلعب الكرة ويرسم ويشترك فى جماعة التمثيل فى مدرسته.. كل ذلك فى وقت واحد.. باختصار كان يريد أن يتحدى الجميع ويقول: أنا هنا ولن يهزمنى اليتم ولا الخذلان.
بعد موقف المدرسة بسنوات أصبح ابن حى السيدة زينب طالبًا فى معهد الفنون المسرحية ليمارس هوايته الأثيرة التى اكتشفها فى نفسه ورجحت كفتها أمام موهبة لعب الكرة التى أهلته قبل ذلك إلى الانضمام لأشبال الزمالك.
مرت الأيام سريعًا على محمد جابر الذى لم يفضل هذا الاسم ربما للهروب من واقع يتمه الأليم.. وصار نور الشريف الطالب النجيب فى معهد الفنون المسرحية.. وفى وقت قياسى بدأ مخرجو الستينيات ينظرون إليه ليترشح فى عام واحد لمسلسل يعرض فى التليفزيون، الجهاز الوليد الذى لم يكمل عامه الثامن بعد، وهو مسلسل «القاهرة والناس».. ثم فيلم سينمائى رشحه له ممثل شاب أتى من كلية زراعة القاهرة وسبقه إلى الشهرة اسمه عادل إمام.. وهو فيلم «قصر الشوق».. لتكتب منذ تلك اللحظة بداية مشوار فنى لواحد من أهم الممثلين المثقفين الواعين لقيمة رسالتهم الفنية.. ويتبلور مع الزمن لنور الشريف مشروع فنى هائل المفردات عظيم القيمة.. استمر فى عطائه والبناء عليه حتى وقف العمر عند الخامسة والستين فى مثل هذا اليوم من سنة ٢٠١٥.
إيريس نظمى تتحدث فى الستينيات عن شاب جديد: امنحوه الفرصة وستجدوا ما يسركم
«إن العثور على وجه جديد لم يعد مشكلة.. فالذين يتمنون أن يكونوا ممثلين كثيرون.. لكن المشكلة هى الوجه الجديد الموهوب والكثيرون تبهرهم أضواء الفن فيجرون وراءها ثم يسقطون فجأة فى الطريق، والسبب أنهم بلا موهبة ولا ثقافة ولا دراسة، والممثل الجديد لم يعد يكفى أن يكون وسيمًا، بل لا بد أن يكون موهوبًا قبل كل شىء، وأعتقد أن نور الشريف من هذا النوع.. ممثل يمكن أن يتطور وأن يتقدم بخطوات واسعة لو وجد الفرص الكافية».
ما سبق فقرة ضمن مقال بعنوان «لاعب الكرة الذى أصبح نجمًا»، نُشر فى عدد «آخر ساعة» الصادر يوم ١٢ يونيو ١٩٦٨ ضمن الباب الشهير «ناس تحت الأضواء» لصاحبته الكبيرة إيريس نظمى، التى كانت كلمة منها ضمن هذا الباب بمثابة جواز مرور لأى موهبة جديدة تقرر أن تكتب عنها.
إيريس نظمى لم يكن مجرد اسم صحفى لواحدة من أكابر المهنة وناقدة فنية لا يشق لها غبار وحسب.. بل كانت إيريس، لجيل نور الشريف وما قبله وما بعده، بمثابة «وش الخير»، خاصة عندما ترسخ بابها الأشهر «ناس تحت الأضواء» وأصبح نافذة أو قل نبوءة لشباب فى بداية الطريق الفنى سيصبحون بعد قليل من كتابة إيريس عنهم نجوم شباك.
ففى نفس الباب قبل مقالها عن نور الشريف بستة أشهر فقط، وتحديدًا فى العدد الصادر فى ٢٠ يناير ١٩٦٨.. كانت لها نبوءة أخرى لفنان شاب آخر مبتدئ اسمه عادل إمام.. عنونته حينها بعنوان «مولد نجم»، وعلقت على صورته: «عادل إمام وليس عادل أدهم كما تظنه الإعلانات» فى إشارة إلى أن اسم هذا الشاب لم يكن باللمعان الكافى للدرجة التى جعلت بعض صناع الأفيشات للأفلام التى شارك فيها وقتها كانوا يكتبون دون قصد اسمه عادل أدهم، وليس عادل إمام، على اعتبار أن الأول أكثر نجومية وشهرة بطبيعة الحال.
نرجع لمقالها عن نور الذى أرّخت فيه إيريس الظهور الصحفى الأول تقريبًا لهذا الفنان الذى ملأ الدنيا صخبًا وفنًا بعد نشر المقال لمدة تقارب نصف القرن، حيث تقول إيريس بالنص: «أحدث الوجوه التى شاهدتها فى الفترة الأخيرة هو الممثل نور الشريف، وقد شاهدته لأول مرة فى دور كمال فى فيلم قصر الشوق، وأحسست أنه لا يمثل ولكنه كان يؤدى دوره بطبيعية مطلقة».
ثم تستمر إيريس فى كشف الستار عن ذلك الشاب الموهوب الذى كانت سنه حينها لا تتعدى الـ٢٢ عامًا، حيث تقول: «إن نور الشريف إلى جانب أنه وجه مريح ومقبول ومعبر قد درس فن التمثيل فى معهد الفنون المسرحية، والغريب أن نور الشريف، وهذا ليس اسمه الحقيقى، كان يحلم بأن يكون لاعب كرة قدم معروفًا.. كانت أحلام محمد جابر، وهذا اسمه الحقيقى، تتركز فى الكرة فقط إلى أن دخل معهد التمثيل، فتغير مجرى حياته وأصبحت خشبة المسرح حلمه الحقيقى وأمله الذى يتطلع إليه».
أما ما لم تذكره إيريس، وفيه مفارقة قدرية جميلة، حكاها نور بنفسه كثيرًا فى كل اللقاءات التليفزيونية بعد ذلك، عندما يتطرق إلى مشواره، وهو دور عادل إمام فى ظهوره السينمائى الأول عندما شاءت الظروف أن يكون عادل الممثل الشاب حاضرًا مع مخرج الروائع حسن الإمام عندما كان يبحث عن ممثل شاب آخر يكون مناسبًا لدور «كمال» فى «قصر الشوق»، الجزء الثانى من ثلاثية محفوظ الخالدة.. حينها تذكر عادل شابًا وسيمًا رآه على المسرح لا يعرف عنه شيئًا إلا اسمه، فرشحه للإمام الذى ما إن رآه حتى منحه الدور الأول فى حياته السينمائية لتبدأ رحلة نور شديدة الثراء.
ويصبح ابن حى السيدة زينب نجم غلاف محتملًا فى كل المجلات الفنية ومحط أنظار الصحفيين الذين وجدوا بالتأكيد متعة خاصة فى حواراتهم معه غير موجودة عند الكثير من نجوم الشباك.. وجاءت الحوارات الصحفية مع نور مختلفة وتحمل قيمة لما يملكه الرجل من مخزون ثقافى هائل حرص على تغذيته بالقراءة النهمة والاستزادة فى كل فروع العلوم الإنسانية وعدم الاكتفاء بالنجومية الفنية التى قد تشغل الفنان عما سواها.
هل كره نور الشريف الصحافة بسبب إبراهيم سعدة؟
يوم ٢ ديسمبر سنة ١٩٩١ لم يكن يومًا عاديًا فى حياة ابن حى السيدة زينب «نور الشريف».. حيث كان على موعد مع قرار جرىء سوف يغير كثيرًا من نظرة نور للصحافة وعلاقته بها.. صاحب القرار كان سعدالدين وهبة، رئيس مهرجان القاهرة السينمائى وقتها، الذى قرر أن يكون فيلم «ناجى العلى» لنور الشريف، إنتاجًا وتمثيلًا، هو فيلم الافتتاح للمهرجان.
بعد ٥ أيام بالضبط، وتحديدًا فى يوم ٧ ديسمبر ١٩٩١، صدر العدد الجديد من جريدة «أخبار اليوم» ويتصدرها مقال لرئيس تحريرها حينها إبراهيم سعدة بعنوان: «رخا أم ناجى العلى» والمعنى واضح بالطبع.. مزايدة صريحة على وطنية صناع الفيلم، على رأسهم نور، الذين واجهوا ضغوطًا شديدة لإيقاف الفيلم.. وكان مقال «سعدة» بمثابة شرارة انطلاق أعنف حملة صحفية ضد ممثل وعمل فنى فى تاريخ السينما.
قال «سعدة» فى المقال بالنص: «إذا كان الهدف من هذا الفيلم تقديم السيرة الذاتية لرسام كاريكاتير، فكان لا بد أن يكون هذا الرسام هو فناننا العملاق (رخا) وليس ناجى العلى الذى لا يعرفه أحد فى مصر، إن فى حياة وسيرة الفنان الراحل (رخا) الكثير من المواقف الوطنية، والكثير من الدراما، والكثير من التضحيات». انتهى المهرجان وانتهت زوبعة الفيلم قليلًا، ولكن ظلت النار تحت الرماد بين «نور» و«أخبار اليوم» أكثر من شهر ونصف الشهر، حتى أعلن نور عن عرض الفيلم جماهيريًا فى سينمات القاهرة والمحافظات، وتحدد ميعاد العرض يوم ٢٠ يناير ١٩٩٣، وقبل ميعاد العرض بيومين فقط تصدرت صورة نور الصفحة الأولى من «أخبار اليوم» بشكل مهين لشخصية نور نفسه، حيث كُتب عليها «نور الشريف ودولاراته»، وفى نفس العدد استأنف «سعدة» حربه ضد نور وصناع الفيلم، حيث كتب مقالًا بعنوان «من أجل حفنة دولارات»، وبصرف النظر عما قاله وأزبد فيه إبراهيم سعدة عن ناجى العلى، الرسام الفلسطينى، عندما وصفه بأنه متواضع الموهبة جند ريشته للتشهير بمصر.. لكن يبقى السؤال: هل كره نور الشريف الصحافة بعد تلك الحملة التى نالت من سمعته وكادت تدفعه للاعتزال والهجرة من فرط قسوتها؟
الإجابة لا بد أن تكون لا.
لأن الصحافة كانت أيضًا هى المدافع الأكبر عن نور وفيلمه.. ولو تصفحنا باقى الجرائد بخلاف «الأخبار» و«الجمهورية» وبعض الجرائد الأخرى، ستجد أقلامًا مدافعة عن نور دفاعًا شديدًا.. ولا نتكلم هنا عن الجرائد المستقلة أو الحزبية لأن نصرتها له كانت قضية بديهية حتى لو من باب المعارضة التى تمثلها تلك الجرائد.. لكن الواقع يقول إن الجرائد والمجلات القومية هبت فيها أصوات عالية لنصرة نور الشريف وفيلمه. وخير مثال على ذلك المقال الذى كتبه رجاء النقاش بكل ما يمثله من قيمة فنية ونقدية ونُشر على صفحة كاملة فى مجلة «المصور» عدد ٦ مارس ١٩٩٢ بعنوان: «لماذا نطلق الرصاص على نور الشريف؟».. كان رجاء مدافعًا شرسًا ضد هجوم سعدة وسمير رجب وغيرهما، وهم الذين وصفهم بالأساتذة الزملاء وحذرهم من أنه فى حال القبض على قتلة ناجى، فبالتأكيد ستأخذ هيئة الدفاع عنهم ما كتبوه عن الفيلم ليكون دفوعًا عن هؤلاء القتلة من فرط ما فيها من تجنٍ على شخصية رسام الكاريكاتير ناجى العلى.
إذن لم تكن الحملة الصحفية المريبة على نور وفيلمه سببًا فى قطيعة مع الصحافة.. بل على العكس فإن جريدة «السياسى» فى ١٦ فبراير ١٩٩٢ بعد أيام من بدء الحملة الصحفية ضده نشرت مقالًا لنور نفسه يدافع عن فيلمه بعنوان رصين يدل على ثقافة صاحبه ووعيه وهو بالنص: «لم أنزعج من الهجوم على ناجى العلى لأنه خلاف فى الرأى». ومرت الأيام وداوت جراح نور الفنية، خاصة عندما لاقى الفيلم نجاحًا على المستوى الشعبى على الأقل.. ولكن بقيت جراحه الإنسانية لم تندمل عبّر عنها نور كثيرًا حتى فى حواراته التليفزيونية الأخيرة قبل نهاية العمر.
أوراق نور الضائعة.. يوم أن مات نور مرتين
فى يوم ١١ أغسطس سنة ٢٠١٥ كان يوم رحيل محمد جابر أو نور الشريف، ابن حى السيدة زينب، بعد رحلة عطاء مذهلة فى دسامتها وثرائها، ونال الفنان المثقف الراحل وداعًا على صفحات الجرائد يليق به.. لكن مع مرور بضع سنوات على وفاته تجددت مرارة الأحزان فى حلوق محبيه مرة أخرى، وكأنه مات ثانية بعد أن انتشرت بوستات كريهة لبيع مقتنيات وأوراق خاصة بنور الشريف على صفحات تتاجر فى الأشياء القديمة على فيسبوك. حالة من الذهول انتابت المهتمين بالأمر من فداحة الجريمة، وتساءل الجميع: كيف تسربت تلك الكنوز إلى أيدى تجار التاريخ الذين لا يدركون أن تلك الأوراق تحمل تاريخًا فنيًا لواحد من أهم وأعظم مَن مر على تاريخ الفن المصرى بكل فروعه؟!
عقود أفلام ومقالات صحفية عنه وله صور عائلية وفنية نادرة بالآلاف ودروع وجوائز لا تقدر بثمن، كلها كانت معروضة بشكل مأساوى بجانب الروبابيكيا.. وبالطبع تفرق دم تلك الجريمة بين القبائل لأن الأسرة نفت تمامًا علمها بتلك المعروضات، وقالت إنها سلمت مكتبة نور الثرية كاملة إلى مكتبة الإسكندرية وكله مسجل فى دفاترها، وعادت أسرة نور تقول إن أشخاصًا سرقوا تلك الأشياء فى حياته.. ومن جهتها نفت مكتبة الإسكندرية أن تكون تلك الأشياء قد تسربت مما سلمته الأسرة. وعملًا بمبدأ «ما لا يدرك كله لا يترك كله» استطاع الزميل وائل السمرى برعاية جريدة «اليوم السابع»، من خلال حملة واعية تم تدشينها بعنوان «لن يضيع»، أن يجمعوا ما استطاعوا إليه سبيلًا من أوراق ومقتنيات نور الشريف من تلك الصفحات فى محاولة نبيلة لإدراك ما يمكن إدراكه من تراث المثقف المثال نور الشريف، ابن حى السيدة زينب، الذى ملأ الدنيا صخبًا، وملأ جعبتنا إبداعًا لم ولن ينقطع.