نفوق جماعي وهجوم غير مبرر.. ماذا يحدث داخل البيئة البحرية؟
عدد من الوقائع التي شهدها العالم مؤخرًا داخل البيئة البحرية، بين نفوقًا جماعيًا للحيتان، وأخر للأسماك، وهجومًا للقروش، والتي أرجعها الكثيرون إلى التغير المناخي أثارت العديد من المخاوف و التساؤلات المشروعة حول ما يمكن أن يأتي به ذلك التغير من أثار على تلك البيئة، و حول مستقبل هذه البيئة في ظل ارتفاع معدلات هذا التغير.
وفي أحد شواطئ اسكتلندا، وجدت مؤخرًا مجموعة من 55 حوتا نافقًا، وذلك بعدما عثر عليها عندما جرفتها المياه إلى أحد الشواطئ في واحدة مما اعتبره خبراء بحريون أسوأ حادث جنوح لحيتان في المنطقة.
باحث بالمعهد القومي لعلوم البحار: الزلازل أخطر أسباب انتحار الحيتان
وعن جنوح الحيتان إلى الشاطئ ونفوقها، أوضح الدكتور أشرف صديق محمد دكتور باحث المعهد القومي لعلوم البحار والمصائد بالغردقة لـ"للدستور"، أن الحيتان هي حيوانات ثديية تعيش في أعماق البحار على مسافات تصل أحيانًا إلى ثلاث آلاف متر كما أنها تتميز بأوزان ضخمة للغاية، ووجباتها اليومية تصل أحيانًا إلى طن تقريبًا مشيرًا إلى أن تلك العوامل قد تتسبب في موتها خاصة في فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة الشديدة التي وصفت بأنها هذا العام هي الأعلى في تاريخ الكرة الأرضية ربما منذ آلاف السنوات.
وتابع أن هذه الحرارة تتسبب أحيانًا في تراكم الطفيليات على جسم الحيتان التي ينتج عنها إصابة الحيتان بالعديد من الأمراض ومن ثم يزيد من فرص موتها، كما أنها تؤثر كذلك على غذاء تلك الحيتان، وقد تتسبب في قلته، مما يؤدي إلى هجرتها بحثًا عن الطعام، وإنهاكها في تلك الهجرة.
وأضاف أشرف أن الحيتان أيضًا، تحتاج إلى التنفس من الهواء الجوي لثوان بمعدل كل ساعة تقريبًا، ثم تعود مباشرة إلى الماء.
وأشار إلى أنه أثناء تعرضها للإنهاك لا يمكنها العودة مرة أخرى إلى الماء مما يعرضها لخلل في التوازن، ومن ثم يصبح من السهولة أن تزيحها تيارات الماء نحو الشاطئ مما يؤدي إلى نفوقها إذا لم يسرع أحد بإنقاذها.
وأردف الباحث في المعهد القومي لعلوم البحار والمصائد، أن تغيرات المناخ وتأثيرها على حياة الحيتان والأسماك لا تتمثل فقط في ارتفاع درجات الحرارة، بل أن هناك سببًا ربما هو الأخطر ألا وهو الزلازل موضحًا أن لها تأثيرًا قويًا على حركة الأسماك متسببًا في نقلها من بيئتها المعتادة إلى بيئة أخرى ليست بيئتها ولا يوجد بها غذائها المعتاد، ضاربًا المثل بحوت الأوركا الذي يعيش في العادة على أعماق كبيرة للغاية أسفل البحار.
وقد تفاجأ العالم بالإعلان مؤخرًا عن ظهوره في مياه الخليج العربي على بعد 40 كيلو متر فقط، وهي بيئة غير بيئته، وذلك عقب زلزال تركيا الشهير مشيرًا إلى أنه إلى الآن لا يوجد أجهزة رصد دقيقة توضح التأثيرات المحددة للزلازل على حياة الأسماك.
وبحسب مرصد "كوبرنيكوس" - الخدمة المعنية بتغير المناخ في الاتحاد الأوروبي - فقد سجلت المحيطات أعلى درجات حرارة على الإطلاق؛ إذ جاء متوسط درجة حرارة سطح البحر العالمية اليومية هذا العام محطما الرقم القياسي له عام 2016، ووصل متوسط درجات الحرارة إلى 20.96 درجة مئوية، وهو رقم أعلى بكثير من متوسط الحرارة في هذا الوقت من العام.
وتعد المحيطات منظمًا حيويًا للمناخ، إذ تمتص الحرارة وتنتج نصف كمية الأكسجين الموجودة على كوكب الأرض، ما يؤثر على أنماط الطقس.
ووفقًا لكوبرنيكوس أيضًا، فإن المياه الأكثر دفئا تكون أقل قدرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون، ما يعني بقاء المزيد من غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي، بالإضافة إلى تسريع وتيرة ذوبان الأنهار الجليدية التي تتدفق إلى المحيط، ما يؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر.
مدير معهد علوم البحار: التغييرات المناخية ليست المسئولة
في الوقت نفسه، يرى الدكتور محمود عبد الراضي دار، مدير معهد علوم البحار والمصائد بالغردقة، أن ما يشير إليه البعض بانتحارًا الحيتان هو أمر غير صحيح، موضحًا أن جميع الكائنات الحية تتميز بغريزة حب البقاء لذا من الصعب عليها القيام بذلك، لذا حالات "النفوق" تعد حسب محمود حالات فردية.
بينما نسب “عبد الراضي” السبب في هذا النفوق إلى كبر سن بعض الأسماك أو إصابتها التي قد تؤدي إلى عدم قدرتها على المقاومة داخل الماء والسير مع السرب مما ينتج عنه ذلك النفوق.
إضافة إلى ذلك أوضح أن ارتفاع درجات الحرارة في البر يختلف تأثيره في البحر مشيرًا إلى أن هذا الارتفاع يتسبب في زيادة ملوحة البحر، وهو ما يؤدي إلى زيادة كثافة طبقات المياه التي يصل سُمك كل منها إلى 30 متر، مؤكدًا أن هذه الزيادة في الكثافة ينتج عنها ما يعرف بالتقليب الرأسي مع حركة الرياح الذي يؤدي بدوره إلى تبديل الطبقة ذات درجة الحرارة المرتفعة ليحل محلها الطبقة الأسفل منها، وهي الأقل منها في درجات الحرارة، وهو ما يعطي تلطيفًا لحرارة الماء.
كما أشار مدير معهد علوم البحار والمصائد بالغردقة، إلى أنه لا خوف على أغلب أنواع الحيوانات من التأثر بسبب التغيرات المناخية موضحًا أنها قد استطاعت من قبل تحمل التواجد عبر الأزمنة المختلفة منذ آلاف السنوات وكان قد حدث الكثير من التغيرات في الكرة الأرضية التي تفوق بمراحل التغيرات الحالية مشيرًا إلى أنه يرجع ذلك إلى اتسام تلك الحيونات بصفة التأقلم، وهي صفة هامة للتوائم مع الطبيعة وانقلاباتها.
نفوق أسماك أخرى
لم يقتصر النفوق في البيئة البحرية فقط على الحيتان، بل امتد كذلك إلى العديد من الأسماك الأخرى، وكان آخرها في منطقة "المكس" بمحافظة الإسكندرية، حيث نفقت كميات كبيرة من أسماك البوري وتجمعت على الشاطئ.
الباحث في المعهد القومي لعلوم البحار: سلوك الصيادين السبب
وأشيع أن أسباب هذا النفوق يرجع إلى دفن تلك الأسماك رأسها بالرمال بسبب التغيرات المناخية ما أدى إلى موتها، وهو ما نفاه الدكتور أشرف صديق محمد، الباحث في المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد بالغردقة، مؤكدًا أن السبب في ذلك يرجع إلى استخدام الكثير من الصيادين أساليب مخالفة في الصيد تعتمد على إلقاء شباك ذات أطوال كبيرة وتركها داخل البحر يومًا كاملًا لصيد كميات أكبر من المعتاد، وهو ما يؤدي إلى انحباس كميات كبيرة من الأسماك داخل هذه الشباك وموتها ثم وصولها إلى مرحلة التعفن "الانتفاخ"، وهو ما ينتج عنه ترك الصياد لها في الماء لأنها أصبحت فاسدة ولن يقبل بها التجار، وهو الأمر الذي يؤدي إلى طفو هذه الكميات من الأسماك الكبيرة على الشاطئ، وظهور مشاهد نفوقها تلك.
القانون يجرم
حدد القانون 146 لسنة 2021 لحماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية عدة ضوابط للسماح بعمليات الصيد في البحيرات والمسطحات المائية، وذلك لمنع عمليات الصيد العشوائي وتحديد الأدوات والآلآت المستخدمة فى الصيد.
وجاء في المادة 21 من القانون أنه "يحظر الصيد فى المناطق والفترات الممنوع الصيد فيها أو الصيد بالطرق والمواد والأدوات غير المسموح بها، وتحدد اللائحة التنفيذية ضوابط تعيين المناطق والفترات الممنوع الصيد فيها وطرق ومواد وأدوات الصيد المسموح بها .
وبحسب المادة 22 فإنه " يحظر وجود شباك أو آلات أو مواد غير مرخص بها أو غير مسموح الصيد بها على المركب ، كما يحظر حيازة هذه الآلات والأدوات والمواد فى مواقع الصيد".
استشاري الطاقة والبيئة وتغير المناخ: مخلفات المصانع والسفن السبب
من جانبه، أكد ماهر عزيز استشاري الطاقة والبيئة وتغير المناخ، أن نفوق الأسماك والحيتان ليس ناتجًا عن التغيرات المناخية الطبيعية، وذلك لكون درجة حرارة المياه هي في الواقع أقل من درجة حرارة الجو بمعدل 10 درجات، وهو ما يعني عدم وصول درجات حرارة المياه إلى المعدلات التي لاتتحملها الأسماك وبالتالي تموت بسببها، مشيرًا إلى أنه - وحسب قوله- فقد وصلت مصر إلى معدلات حرارة مشابهة في درجات الحرارة من قبل، ولم يحدث لأسماكها نفوقًا، مشيرًا إلى أن الدرجة المناسبة التي يعيش فيها السمك هي 25 درجة مئوية، ويتحمل حتى 30 درجة مئوية.
وأضاف أن نفوق هذه الأسماك والحيتان يرجع في الأغلب إلى أحد عاملين أساسيين أو كليهما، وهما إلقاء بعض السفن العابرة بالمواد والمخلفات الخطرة التي يبتلعها السمك فتؤدي إلى موته، أو إلقاء كذلك بعض المصانع القريبة بمخلفاتها في البحار مما يؤدي إلى ذات النتيجة ضاربًا المثل بما حدث في اليابان عندما نفقت ملايين من الأسماك على شواطئها بسبب إلقاء أحد المصانع مخلفاتها في البحر والتي كانت تحتوي على عنصر الزئبق الذي أدى إلى تسمم تلك الكميات الهائلة من الأسماك ونفوقها جميعًا.
هجوم القرش
ولعل أبرز الظواهر البحرية الغريبة أيضًا، والتي فرضت مخاوف وتساؤلات عدة حول أسبابها، ظهور أسماك القرش بالقرب من الشواطئ وهجومها على الإنسان، وهو ما حدث مؤخرًا بإحدى شواطئ البحر الأحمر، وكذلك ظهور عدد من القروش الصغيرة بعد اصطيادها على ساحل البحر المتوسط.
رئيس مجلس ادارة جمعية الإنقاذ البحري بالبحر الأحمر: الإنسان دخيل على بيئة القروش
حسن الطيب، رئيس مجلس إدارة جمعية الإنقاذ البحري بالبحر الأحمر، أوضح لـ"للدستور"، أن البحر الأحمر هو البيئة الطبيعية لهذا القرش، وتواجد الإنسان في هذا المكان يعد اختراقًا لعالم هذا الحيوان، وليس العكس، خاصة أن القروش في هذه الفترة تكون في حالة تزاوج ووضع بيض، لذا فهي تختار أماكن آمنة بعيدة عن الأعماق لكي يكون البيض في مأمن عن الأسماك الأخرى.
وأضاف أن القروش لا تعتبر الإنسان وجبتها المفضلة لذا فهي في الغالب تلفظه بعد ابتلاعها إياه، مشيرًا إلى أن هجومها عليه يرجع في العادة إلى سلوك خاطئ من الإنسان نفسه، مثل إطعام بعض الصيادين القروش لجذبها واستخدامها في الرحلات السياحية مما يؤدي إلى التغيير في سلوك سمك القرش مع ارتفاع درجات الحرارة والتغيير المناخي مما يكون له تأثير على سلوكه بالإضافة إلى عمليات صيد السمك المفتوحة والمتروكة بدون أي قيود والتي تقلل من المخزون السمكي فيتجه سمك القرش نحو الشاطي للبحث عن طعام بديل.
خلال السنوات الماضية، وقعت عدة حوادث هجوم للقروش في مصر في البحر الأحمر، في عام 2022، لقيت سائحتان مصرعهما في هجمات لأسماك القرش.
وفي عام 2020، فقد صبي أوكراني ذراعه، فيما فقد مرشد سياحي مصري ساقه، وفي عام 2018، قتلت سمكة قرش سائحة تشيكية قبالة شاطئ البحر الأحمر"
وبحسب دراسة قامت بها جامعة نورثمبريا في المملكة المتحدة فقد انخفضت أعداد بعض أنواع القروش بنسبة 90% على ساحل الشمال بسبب الاحترار المستمر للمحيطات.
كما يشير تقرير صادر عن الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة IUCN إلى أن القروش تصنف بالفعل كأنواع مهددة بالانقراض وأن التغيرات في المحيطات قد تزيد من خطر الانقراض على بعض الأنواع.
رئيس هيئة الثروة السمكية: التطور التكنولوجي للتأقلم مع المناخ هو الحل
من جانبه أكد الدكتور صلاح مصيلحي، رئيس هيئة الثروة السمكية، أن مصر واحدة من أكثر الدول المتوقع أن تكون عرضة للأثار السلبية للتغيرات المناخية على البيئة البحرية بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر الناتج عن تلك التغيرات، والذي قد يصاحبه تعرض مناطق واسعة من المنطقة الساحلية لدلتا النيل للفيضان وتأثير ذلك السلبي على الاستزراع السمكى حيث تقع معظم المزارع السمكية في مصر في منطقة دلتا النيل وتتركز بشكل رئيسي في البحيرات الشمالية (مريوط ، إدكو ، البرلس والمنزلة).
وللتغلب على الآثار السلبية للتغيرات المناخية على الثروة السمكية وكيفية التكيف معها أكد مصيلحي أنه يجب تنوع أنماط أنشطة الصيد، والاتجاه لأقلمه أسماك المياه المالحة على الملوحة المنخفضة أو المتوسطة.
وأضاف أنه يجب كذلك استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة لزيادة كثافة الأسماك بهدف زيادة الانتاجية دون التأثير على كمية المياه المستخدمة، كما يجب طرح حلول فعالة لاستخراج المياه الجوفية قليلة الملوحة واستغلالها ، مشيرًا إلى أنه ينبغي العمل أيضًا على تطوير سلالات تتحمل ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض جودة المياه ونسبة الملوحة.
وأردف أنه لابد من الاهتمام بقطاع البحوث العلمية والتكنولوجيا التطبيقية، وانشاء مراكز للجينوم وحفظ السلالات للأحياء المائية للحفاظ عليها من الانقراض .
كما أشار “مصيلحي” إلى ضرورة السيطرة على المسببات المرضية وانتشارها عن طريق رقابة صحية صارمة للأنواع البيولوجية الوافدة، واتباع نظام الأمان الحيوي للمزارع والمفرخات السمكية، بالإضافة إلى حماية الشواطئ من عمليات النحر والتآكل ، وعمل الدراسات البيئية اللازمة لمناطق الصيد ، وتقليل مصادر التلوث.
فضلًا على ذلك أكد رئيس هيئة الثروة السمكية على ضرورة تقييم تأثير تغير المناخ على البيئة البحرية والساحلية باستخدام نظم متطورة لجمع وتخزين وتحليل البيانات البيئية البحرية، بالإضافة إلى أهمية اللجوء إلى استخدام أنظمة الإنذار المبكر للتنبؤ بالآثار الاجتماعية والاقتصادية للتغيرات المناخية، بالإضافة إلى أهمية لعمل على الحد من انبعاثات السفن باستخدام محركات فعالة، وكذلك استخدام معدات الصيد التي تتطلب وقودًا أقل تؤدى إلى تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بشكل كبير.