أبرزها رفض أمريكا تمويل السد العالي.. دوافع تأميم قناة السويس
قد يتوقف التاريخ عند سارد الأحداث والمواقف ووضع علامات الاستفهام والتساؤلات ليبدأ الخبراء والساسة على آثاره في تحليل الأسباب والدوافع ووضع السيناريوهات المحتملة والنتائج المتوقعة التي تتجلى وتنكشف حقيقتها فيما بعد بمرور الزمن ليسطرها التاريخ كحقائق جديدة نستقي منها العبرة والدرس لما هو آت.
لم يكن تفكير الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس محض صدفة وإنما كان أمراً يشغل باله وخاطره تراود مخيلته منذ قيام ثوره 23 يوليو 1952 رغبة منه في استرجاع الحقوق المصرية المسلوبة السيادة الكاملة على قناة السويس المرفق الملاحي الأهم في الربط بين الشرق والغرب والتي لم يتجاوز نصيب مصر من أرباحها الفتات بنسبة لا تتعدى 3% ظل قرار تأميم قناة السويس مرهونا باختيار الوقت الأمثل لإعلانه وجاء سحب الولايات المتحدة الأمريكية لعرض تمويل مشروع السد العالي كشرارة لانفجار الوضع والتفكير بشكل جدي في استعادة قناة السويس قبل انتهاء فترة الامتياز بـ 12 عاما.
وفي عام 1955 بدأت مباحثات تمويل السد العالي مع بنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تدخل مرحلة حاسمة وكان من المقرر أن يتعهد البنك الدولي بتقديم 200 مليار دولار لتمويل السد العالي على ان تكون الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بتقديم قرض بذات القيمة ليكون إجمالي المبلغ مقترض 400 مليون دولار من قصر مليار دولار تمثل التكلفة الإجمالية لإنشاء السد العالي.
وأثمرت المفاوضات مع الجانب الأمريكي والبريطاني على أن يتم تقسيم دفعات القرض على مرحلتين في المرحلة الأولى تقدم أمريكا قرضا بمبلغ 54 مليون دولار فيما تقدم بريطانيا قرضا قيمته 16 مليون دولار بخلاف قرض البنك وقيمته 200 مليون دولار ويستكمل التمويل في المرحلة الثانية بتقديم أمريكا وبريطانيا المبلغ متبقي وقيمته 130 مليون دولار.
ومع تقدم المفاوضات لتحويلها إلى نطاق الواقع الفعلي تأرجح الموقف الغربي نتيجة فرضه شروطا مجحفة تحمل تدخلا سافرا غير مقبول في الشؤون المالية المصرية وقد تكون نواة للتدخل السياسي بل والعسكري في مصر وهو ما انتبهت له الحكومة المصرية واتفقت حياله مع الاتحاد السوفيتي لدعمها في موقفها والضغط على القوة الغربية وهو ما أثمر عن اعلان يوجين بلاك مدير البنك الدولي في 18 فبراير 1956 موافقه البنك على تمويل المشروع.
ولم تمضي أيام معدودات حتى تغير الموقف الغربي مرة أخرى من تمويل مشروع السد نتيجه للسياسة المصرية اتجاه القضية الفلسطينية ورفضها القاطع للصلح مع إسرائيل، علاوة على استكمال تسليح الجيش المصري بعقد صفقات سلاح مع الجانب السوفيتي بالإضافة إلى رفض الرئيس عبد الناصر الانضمام لحلف بغداد وغيره من الأحلاف العسكرية السياسية تأسيسه لحركة عدم الانحياز فضلا عن مساندته لثورة الجزائر واعترافه بالصين الشعبية.
وفي 19 يونيو 1956 وخلال المباحثات التي جمعت الدكتور أحمد حسين سفير مصر في واشنطن بوزير الخارجية الأمريكية في الاذاعة ووسائل الاعلام أعلن لينكولن هوايتي المتحدث الرسمي بإسم وزارة الخارجية الأمريكية سحب العرض الأمريكي بالمساهمة في تمويل السد العالي لأسباب ارجعها إلى سوء وضع مصر الاقتصادي والادعاء بتأثير السد العالي على الحقوق المائية لدول شقيقة مثل السودان وإثيوبيا وأوغندا بما يعد تشكيكا في النوايا المصرية وافسادا للعلاقات التاريخيه بحوض النيل.
أما الموقف البريطاني فلم يختلف كثيرا عن الموقف الأمريكي فسرعان ما شككت بريطانيا في قدرة الاقتصاد المصري على تمويل السد العالي وتسويه القروض المطلوبة وهي ترد الطرف عن تقارير البنك الدولي التي تؤكد قوة الاقتصاد المصري وارتفاع الدخل القومي من 748 مليون جنيه عام 1952 إلى 868 مليون جنيه عام 1954 وهذا وشاءت الأقدار أن يكون قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتاميم قناه السويس هو الرد الأمثل على محاولات القوى الغربية التحكم في مصير الدولة المصرية ووقت خطتها الاستعمارية في مهدها.