على ومدحت وإيمان
بالنسبة لجيلى تعنى هذه الأسماء الكثير.. أما جيلى فهو جيل مواليد السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى.. وأما هذه الأسماء فهم الأساتذة على الحجار ومدحت صالح وإيمان البحر درويش.. آخر ممثلى الطرب الكلاسيكى فى الثمانينيات.. وآخر جيل كان يقدر قيمة الكلمة فى الغناء.. تعاونوا مع شعراء يكتبون بحساسية جديدة، وصنع كل منهم عالمًا غنائيًا خاصًا به.. لا أحد ينسى كلمات أغانٍ مثل «أنا كنت عيدك»، أو «اعذرينى»، أو «لما الشتا يدق البيبان» لعلى الحجار، وهذه نماذج بسيطة من إبداع هذا الفنان الكبير.. لا أحد أيضًا ينسى كلمات «كوكب تانى»، و«خاصمت الشوارع»، و«خطى معايا خطى» لمدحت صالح.. ولا أحد ينسى كلمات مثل «ضمينى وانسى الدنيا»، أو «طير فى السما» لإيمان البحر درويش.. رحلة صعود وهبوط هذه المواهب الكبيرة هى رحلة مصر منذ بداية الثمانينيات حتى الآن.. مواهب أصيلة تظهر لأنها تأسست فنيًا وثقافيًا فى الستينيات والسبعينيات قبل تراجع كل شىء.. يستقبلها المجتمع استقبالًا حسنًا بقوة دفع العناصر المثقفة التى كانت تدير الإعلام والثقافة فى ذلك الوقت، والتى تعلمت أيضًا فى الخمسينيات والستينيات.. مع الوقت يتغير كل شىء.. تظهر أجيال جديدة لا تقدر قيمة الكلمة.. تظهر أنواع جديدة من الموسيقى الإلكترونية بكلمات وإيقاعات تناسبها.. يصبح المال هو معيار النجاح الوحيد.. ترتبك مواهب كثيرة وتحتار بين مواصلة مشروعها أو مجاراة الجديد الذى لا يناسبها.. تظهر أيضًا دعوات ممولة لتحريم الفن، ويتخصص دعاة معينون فى إقناع الفنانين بأن الفن حرام، ويقال إن هؤلاء الدعاة كانوا يمولون من دول بعينها أو من بعض الأفراد فيها.. يرتبك موهوب عظيم مثل إيمان البحر درويش ويعتزل، ثم يعود عدة مرات، وتساعد فى ذلك حساسيته الفائقة وشعوره الدائم بأن هناك من يتربص به.. يلجأ مدحت صالح للتمثيل فى المسرح الخاص ثم الانزواء لسنوات، ثم يبدأ فى عودة خجولة عقب ٢٠١٣ ويزداد حضوره كلما بدأت مؤسسات الدولة فى الاستقرار ودعم المواهب الأصيلة.. ما جرى مع مدحت صالح جرى حرفيًا مع على الحجار الذى قاوم أحيانًا وانزوى أحيانًا.. ووجه مجهوده لغناء مقدمات المسلسلات بعض الوقت.. ثم بدأ فى العودة بخجل.. حفلات صغيرة فى بعض المراكز الفنية الخاصة.. ثم حفلات أكبر فى الأوبرا.. ثم حضور دائم وتكريس له كمطرب كبير ارتبط بطفولة وشباب أجيال من المصريين.. منهم من أصبح مسئولًا فى الثقافة والإعلام وساهم فى إنصاف هذا الجيل ورد اعتباره إليه.. فى ضوء هذه الاعتبارات لم أجد أدنى مشكلة فى وجود حالة من التنافس بين المطربين الكبيرين حول مشروع إعادة إحياء تراث الغناء المصرى.. كلاهما منذ سبع سنوات فقط لم يكن يلقى التقدير اللائق به.. سطوع نجميهما مرة أخرى وتحولهما إلى محركين فنيين وأصحاب مشاريع دليل على أننا نتقدم للأمام وعلى رعاية الدولة الفن الجاد.. الفنان الكبير مدحت صالح بدأ بالفعل مشروع «الأساتذة» مع دار الأوبرا، ونتائج الحفل الأول أكثر من رائعة.. وفى اليوم التالى التقت وزيرة الثقافة الفنان على الحجار وتم الإعلان عن تبنى الدولة مشروعه «١٠٠ سنة غُنا».. من وجهة نظرى فإن المشروعين مختلفان، والواقع يقول إن الدولة ستدعم كل مشروع يعلى من قيمة الفن المصرى.. بل إننى أكاد أجزم بأن محمد الحلو لو خرج من عزلته وقدم مشروعًا ثالثًا فستدعمه الدولة المصرية التى أعادت الاعتبار للفن المصرى.. تحول مدحت وعلى إلى نجمين فى ٢٠٢٣ هو نتيجة عمل وسياسات تبنتها الدولة فى الإعلام منذ ٢٠١٤.. وهو أشبه بنظرية «أثر الفراشة» التى تقول إن رفرفة فراشة فى الصين قد تؤدى لفيضان فى المكسيك بعد وقت ما.. لذلك أنا فخور بالتنافس بين المطربين الكبيرين، وإن كنت أطلب من الأستاذ على الحجار أن يتوقف عن الحديث للإعلام ويترك مشروعه يعبر عنه.. وفى الوقت نفسه أحيى موقف الشركة المتحدة من الفنان الكبير إيمان البحر درويش وإعلانها عن أنها ستتخذ كل الإجراءات اللازمة لعلاجه ورعايته.. وهو امتداد لموقف ناضج اتخذته مؤسسات الدولة من هذا الفنان، عقب تصريحات غير متزنة نسبت إليه.. إذ تم تقدير الظرف النفسى الذى يمر به وتفهمه.. تحية لكل من دعم الفن المصرى الأصيل، ولكن من ساهم فى عودة مصر إلى نفسها.. وما زال أمامنا الكثير والكثير.