فيلسوف الكسل ألبير قصيري والمقاهي.. حكايات أخرى عن الونس والكتابة
حكاية عجيبة هي التي جمعت الكاتب ألبير قصيري بالمقاهي، هي حكاية الونس والكتابة ليس في فرنسا وحدها ولكنها بدأت من هنا، من مصر، فكان ونسه ومعظم أوقاته على المقاهي، يجلس ويراقب ويراكم المعرفة عن الناس وسلوكها ومعرفتها وتفاصيلها البسيطة بدون أن يدرك أن معظم هؤلاء الذين يراقبهم سيكونون شخصيات لرواياته فيما بعد.
الحب الجارف للمقاهي
وبالرغم من هذا الحب الجارف للمقاهي لكنه لم يكن يكتب عليها، كانت له طقوس مختلفة، وشرح قصيري ذلك في إحدى حواراته، يقول:" إنني أكتب سطرا كل أسبوع، أنا لا أصحح كتاباتي لأنني لست راضيا أبدا عما أكتب، أفعل ما استطيع، لكنني لست سعيدا أبدا، أستطيع كتابة عشرون سطرا دفعة واحدة، ولكنني سأحتاج لشهرين لتصحيحها، إن كل جملة هي موضوع تساؤل، لا توجد حملة زائدة في كتبي، ولكن انا لا استطيع الكتابة سوى في غرفتي، وحين أكون في سفر، وأكون مقيما في فندق ما، لأنني لا أذهب عند الأصدقاء، أستطيع فقط قراءة الجريدة لأنني لا اكون مرتاحا، إنني أحتاج إلى عالم خاص لكي أكتب".
وعن علاقتة قصيري بالمقاهي في مصر، ففي حوار أجراه مع صديقه وأستاذه بيار جازيو الذي كتب عنه من خلال قاهرة شبابه كما أوردت الكاتبة ميسون صقر في كتابها «مقهى ريش»، يقول بيار «كان البير يقطن في شارع شريف، وكان اصدقاؤه الأكثر غنى يقطنون الزمالك، أو جاردن سيتي، الحيين المبنيين من فيلات في شوارع هادئة، إلا أن كل شئ كان يدور في وسط البلد، في حيز صغير على مسافة بضعة شوارع، كان يكفي أن تتوجه بعد الساعة الخامسة من جروبي سليمان باشا إلى جروبي عدلي لتلتقي الجميع في جروبي سليمان باشا، تعلم ألبير الرقص، وكانت المقاهي تحتل مكانة رئيسية في أيام يكتنفها الخمول والتبطل، وكان الأمريكين أحد المقاهي المفضلة لديه حيث يقع تراسه عند تقاطعي شارع فؤاد وعماد الدين، وهناك كان يرقب عودة تلميذات المدارس الثانوية اللاتي ينتمين إلى كبرى العائلات، وهو ما كان يترك انطباعا عند الكاتب الشاب الذي كان يبدو مع ذلك ثائرا متشددا.
البسفور
كان قصيري يعشق أيضًا مقهى البسفور الاكثر حيوية والكائن بالقرب من محطة باب الحديد، وكانت هناك المكتبات التي تقدم في معظمها كلاسيكيات الأدب الفرنسي وآخر ما صدر عنه.
في فرنسا كانت هناك علاقة وطيدة بين قصيري والعاملين بالمقاهي، وتحدث عنها الصحفي ماريون فان دونتر غريم في مقدمة حوار اجراه مع قصيري يقول فيه" منذ عام 1945 وألبير قصيري يسكن السان جيرمان دوبري، لكنه لم يكتب أبدا سوى عن مصر، ورواياته تمارس نقدا لهذا الحرمان المسقي بفن الحياة والكسل، والذي تم تصوره كفلسفة وخصوصا كطريقة في التفكير، يوما بعد يوم ومنذ اللحظات الأولى لما بعد الحرب العالمية الثانية كان نادلو مقهى "شي دو لاباي" أو مقهى "فلور" بحي سان جيرمان دي بري"يرون قدوم ألبير قصيري نحيل ومستقيم في مشيته مثل حرف الألف، دائما رزين ورائع وهذا المنديل الصغير الذي يزين جيب الصدر لسترته، وكذا المشية المفككة، ومن كثرة ما يرى جالسا لوحده وهو يتأمل مرور الفتيات أو محدقا في الشارع بعينين واسعتين يقدم له الناس جريدة ما، يحكي العجوز من أعلى بهزء ماكر وأنيق ورباطة جأش:" يعتقدون أنني أحس بالضجر، ولكني لا أستطيع أن أحس بالضجر، لأنني بحضرة السيد قصيري".
ويقول في موضع آخر "إن عالمه هو ذاكرته عن الشوارع الشعبية ومقهي ومواخير القاهرة مثل الأشجار والمعادلات والأمثال وليس ثمة من داع للكتابة عن سان جيرمان دي بري فقد عاش فيه كثيرا ، وكان رفيقه ألبير كامي في اصطياد الفتيات وكان ايضًا صديقه ورفيق مقهاه السيناريست ميشيل متراني وهو شرقي مثله يقتسمان من الصباح للمساء نفس المقاهي".
هكذا كان قصيري حين يظن الجميع انه وحيد تطل المقاهي كرفيق دائم وأنيس كبير تحتمله ويحتملها ويبث كل منهما همه للآخر.
حياته في مصر
ولمعرفة كيف وصل قصيري لهذه الرؤية لابد أن نتجه للورء، وتحديدا لفترة وجوده في مصر، كان قصيري في مصر يحب حياته يحب الدنيا لكنه لا يحمل في داخله ما يحمله الآخرون من نظرة لمستقبلهم، كان يعيش من ريع مبان تملكها عائلته، ولم يكن يحب العمل، وسار في هذا على نهج والده وجده، جميعهم لم يعملوا، سوى أن قصيري عمل لفترة قصيرة بحارا على مركب، كانت حياته تمضي بدون أي تخطيط مسبق، ويتضح هذا في كيفية انتقاله لفرنسا، حتى علاقته بالمقاهي بدأت هنا.
زيارة ألبير قصيري لنجيب محفوظ
وللحديث عن حكايات ألبير قصيري مع المقاهي لا بد ان نشير للمؤرخ والمترجم والناقد محمود قاسم، فألبير قصيري عرفه المصرين متأخرا بعد أن ترجم له قاسم عددا من رواياته والتي جاءت بالصدفة البحتة، فيحكي قاسم - وهو صاحب الفضل في معرفة الجميع لألبير قصيري - أنه كان في زيارة لمنزل المخرجة أسماء بكري وحصل على رواية "شحاذون ومتكابرون"، وما إن وصل إلى بيته حتى بدأ في ترجمتها، وصدرت الرواية بالفعل فأتبعها قاسم بترجمات أخرى منها "منزل الموت الأكيد" ونشرت عن دار سعاد الصباح، ورواية العنف والسخرية التي صدرت عن سلسلة روايات الهلال، وبعدها رواية "كسالى في الوادي الخصيب"، وفي زيارة ألبير قصيري لمصر كان محمود قاسم رفيقه وزارا معا نجيب محفوظ في مكتبه بالأهرام.
وكتب قاسم العديد من المقالات عن نشأة قصيري وحياته ويعد من أهم المراجع عن الكاتب المصري الشهير.
إعادة اكتشاف ألبير قصيري
يقول محمود قاسم في إحدى مقالاته والتي عنونها بـ"إعادة اكتشاف ألبير قصيري"، " هو من مواليد مدينة القاهرة في الثالث من نوفمبر عام 1913، من أبوين مصريين، التحق بالمدارس الدينية الفرنسية في القاهرة مثل أغلب أبناء جيله بعد أن عاشت أسرته لفترة بين الإسكندرية ودمياط .
وقد عشق قصيري القراءة في سن مبكرة . وأعجب بالشاعر الفرنسي بودلير الذي كان له تأثير قوي عليه ، لدرجة أنه استلهم عنوان كتابه الأول الذي نشره في القاهرة تحت عنوان " اللدغات " من بودلير . كان قصيري قد سافر إلى باريس لأول مرة عام 1930 . وفي العام التالي نشر ديوان شعره الأول الذي ضم عدداً قليلاً من الصفحات .
وفي عام 1939 سافر ألبير إلى الولايات المتحدة ، وهناك التقى بالكاتب الإباحي المعروف هنري ميللر الذي أعجب بإبداعاته ، وترجمها إلى الغلة الإنجليزية . وكان قصيري ينشر في تلك الفترة قصصه في مجلة " الأسبوع المصري " ، ومن هذه القصص : " رجل متفوق " . وهي مجلة كانت تصدر في القاهرة باللغة الفرنسية . ومن الجدير بالذكر أن هذه القصة قد غير عنوانها إلى " ثأر ساعي البريد " التي نشرت في مجموعته القصصية الأولى والوحيدة ، " الناس الذين نسيهم الله " Les hommes oublies de dieu عام 1940 ، وهو نفس العام الذي صدرت فيه بالقاهرة أيضاً روايته الأولى " منزل الموت الأكيد " .
جماعة الفن والحرية
وقد انضم قصيري إلى جماعة أدبية يسارية المنهج والاتجاه عرفت باسم " الفن والحرية " التي كانت تؤمن أن الفن " لا يتكون من صور للحياة . وأبعد من كل التفسيرات المؤقتة والخالدة للأحاسيس . ولكل حالات وأوضاع الوعي . الفن يمثل طريقة وجود موقف حيوي .. وفي نفس الوقت عاطفي وواع " . وكان من أبرز أعضاء هذه الجماعة جورد حنين وأنور كامل ورمسيس يونان وفؤاد كامل وكامل التلمساني . وقد أصدرت الجماعة مجلة أدبية مهمة تحمل عنوان " التطور" ترجمت فيها لألبير قصيري ثلاث قصص هي " قتل الحلاق امرأته " ، و " مدرسة الشحاذين " ، و " ساعي البريد رجل مثقف " .
ومثلما صادق قصيري الكابت الأمريكي ميللر قبل الحرب . فإنه تعرف على الكاتب البريطاني لورانس داريل الذي كان يعيش في مصر في تلك الآونة ، وهو صاحب رباعية الإسكندرية .
عمل بحارا بإحدى السفن
وفي عام 1945 عمل قصيري فوق سفينة تجارية .وحول هذه التجربة تحدث إلى محمود قاسم وقت زيارته لمصر في عام 1989 قائلاً : " لم أكن أنوي مغادرة مصر . لكن هي روح المغامرة التي كانت تتلبسني دائماً منذ الطفولة ، كنت أحلم بالقيام بجولة حول العالم لأختلط بأجناس بشرية عديدة . فالتحقت عام 1945 للعمل كبحار مبتدئ في إحدى السفن المصرية التجارية . كان بها جزء مخصص للركاب وتحمل اسم " النيل " ظلت تجوب بي الموانئ شهوراً طويلة . كنا نترك الميناء لنذهب إلى أخرى .
في نهاية الرحلة رست السفينة على الساحل الفرنسي . فوجدت أنني عثرت على ضالتي . فهنا يمكنني أن أنشر كتبي باللغة التي أجيد التعبير بها . هنا مركز ثقافي وإشعاعي يمكنني أن أتكيف معه .
كانت فرنسا باباً مفتوحاً بعد الحرب العالمية الثانية .وكانت تشهد حركة ثقافية وفكرية كما ننشدها جميعاً كمثقفين مصريين من أعضاء جماعة الفن والحرية . وذلك في الأدب والفلسفة والفن التشكيلي والسينما .
ومن المعروف أن قصيري قد أقام منذ تلك الآونة في فندق صغير بباريس عقب نزوله المدينة . وظل يسكن به منذ ذلك التاريخ حتى الآن . لا يفكر أن يغيره ، ويقع هذا الفندق في الحي اللاتيني الذي تقع فيه مقهى المونمارتر التي يجلس عليها أشهر أدباء فرنسا . وقد صادق كلاً من جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وجان جينيه . أما أقرب أصدقائه إلى نفسه فقد كان الكاتب ألبير كامي.
ومن هنا نعرف أنه برغم ولع قصيري بالأدب الفرنسي فإنه لم يكن مغرما بفرنسا وإنما كان يراها هي الوجهة الأصوب، ومن هنا بدأت تتشكل أسطورة ألبير قصيري، وقد كتب منتصر القفاش على لسان إدوار خراط أن قصيري كانت حياته " تدور كلها داخل مثلث رؤوسه الثلاثة المقهى والفندق والمطعم ، ولا يخرج عنها تقريباً ., قال لي أنه من دمياط أصلاً . وأنه أوشك أن ينسى التحدث بالعربية منذ موت والدته التي كانت تقيم معه في باريس ولم تتعلم حرفاً من اللغة الفرنسية . ولا تعرف القراءة والكتابة إلا باللغة العربية . لاحظت أنه يتردد أحياناً في العثور على لكلمة باللغة العربية . لاحظت أنه يتردد أحياناً في العثور على الكلمة باللغة العربية . وفضلنا مواصلة الحوار بالفرنسية .
وينفي محمود قاسم نسيان قصيري للغته العربية فيقول:"عندما جاء قصيري إلى القاهرة لحضور تصوير فيلم شحاذون ونبلاء كنت برفقته وكان نجيب محفوظ قد حصل علي جائزة نوبل في الأدب، وباعتبار أن كلا الرجلين كتب عن مصر من خلال المناطق الشعبية فإنني أقنعته بزيارة محفوظ في مكتبه بصحيفة “الأهرام” وتصورنا معا هناك، وكان لافتا أن قصيري يتحدث باللهجة المصرية كأنه لم يترك القاهرة يوما واحدًا.
في الأخير ونتاجا لعالم ألبير قصيري في معادلة طرفاها المقهى وحجرة الفندق ومن قبلها المقاهي في مصر وبيته وليس هناك طرف ثالث كان لا بد ان تحوي روايات قصيري شيئا من هذا العالم، والحقيقة أنها كل العالم بالنسبة له، فيحكي أن معظم شخصياته هم أناس يجلسون على المقاهي، واستوحاهم في رواياته كغالبية الأبطال في روايات شحاذون ومكابرون وهي شخصيات مثل يكن وجوهر وغيرها.