«أيام العطش والحرب 2».. سمير الفيل: الصدق ضرورة فى أدب الحرب (حوار)
في السلسلة التي تنشرها جريدة "الدستور" تحت عنوان "أيام العطش والحرب" نلتقي المقاتلين الذين حاربوا في أكتوبر المجيدة، يحكون لنا عن ذكرياتهم إبان الصيام والجهد والرصاص والقذائف، يحكون عن أدب الحرب وهل أوفينا أكتوبر حقها في الأدب؟.
سمير الفيل تم تجنيده بعد عام واحد من الحرب، لكنه عايش أجواءها وكتب عنها كثيرًا، وراح يخلد القصص التي سمعها من أصحابها، حتى أنه حين يغلق عينيه فكأنما يعايش دوي الرصاص والقذائف والحناجر وهي تهتف "الله أكبر"، الدستور التقت سمير الفيل وكان هذا الحوار..
عبرت عن الحرب بالعديد من الأعمال.. هل يمكن أن تصف لنا تجنيدك وكتاباتك عن الحرب؟
ـ تعرضت مصر لهزيمة مروعة في الخامس من يونيو 1967، حيث احتلت سيناء كاملة والضفة الغربية للأردن، ومرتفعات الجولان السورية، وأشاعت إسرائيل أن عبور القناة يحتاج إلى عدة قنابل ذرية لا تتوافر للخصوم.
صمم المصريون على المقاومة، ونهض الكتاب بدورهم الحماسي في مخاطبة الشعب، وهو ما تمثل في القصائد الحماسية، والرغبة في تغيير الأنساق التقليدية داخل النطاق الأدبي.
تعرفنا على فرقة أولاد الأرض بقيادة كابتن محمد غزالي، وغيرها كما تشكلت منظمة سيناء العربية التي قامت بأعمال بطولية، وتم بناء حائط الصواريخ خلال حرب الاستنزاف، هل يمكننا أن ننسى أغاني محفزة للمقاومة، مثل: "موال النهار"، و"يا بيوت السويس"، و"مصر التي في خاطري".
لذلك لم تكن حرب السادس من أكتوبر شيئًا نبت من فراغ، نجحت الحرب نتيجة استخدام العلم في تطوير الكتائب القتالية، وقد حضرت فيما بعد مناورات الخريف السنوية في "وادي الملاك" و"صحراء العامرية"، و"تبة ضرب النار في "فايد"، ولاحظت الجدية وبذل العرق في التدريب.
أجلت دفعتي لثلاث سنوات، ولم أنخرط في كتائب الجيش إلا بعد الحرب بعام كامل، انضممت لسرية الهاون 82 مم، وتنقلت بين كتيبتي 16 مشاة، و18 مشاة، وكتبت أول رواية عن الحرب في عام 1974، لكنها فازت في مسابقة القوات المسلحة عام 1986، ولديّ شهادة تقدير موقعة من كل من عقيد محمد شوقي حامد، رئيس تحرير مجلة النصر، ولواء أركان حرب محمد جمال شرف الدين، مدير الشئون المعنوية للقوات المسلحة، بتاريخ 23 يناير 1986، نشرت بعدها في عام 1990، وفي اليوبيل الفضي للحرب منحتني القوات المسلحة ميداليتها الفضية في حفل كبير، أقيم بدار المدرعات بالقاهرة.
عبرت عن العساكر، والوقائع القتالية بحس إنساني فريد، أو كما قال جورج جحا في تقرير بثته "وكالة أنباء رويتر" بأن الكاتب قدم لنا الحرب في زي إنساني وبروح مرحة لطيفة، لا تخلو من عذوبة ورقة.. كانت أول مجموعة قصصية لي هي "خوذة ونورس وحيد" 2001، ومجموعة أخرى هي "كيف يحارب الجندي بلا خوذة؟" في نفس السنة، كما كتبت مجموعتي الثالثة "شمال.. يمين" عام 2007.
كلها كتابات عالجت فكرة الحرب والشهادة لأبطال حملوا أرواحهم على أكتافهم، ونازلوا العدو الصهيوني بإباء وشمم.
في ذات السياق نقرأ للدكتورة عزة بدر: "ترسم مجموعة "كيف يحارب الجندي بلا خوذة؟ لوحة قاسية للحرب .. إنها "جرنيكا" أخرى بالكلمات، فكما تطل الأعين المرتعبة، وبقايا العظام والرءوس المتناثرة هنا وهناك من "جرنيكا" الفنان العالمي بيكاسو، تطل الأعين المذعورة والقلوب الواجفة من مكامنها مشفقة على العالم من قسوة الحرب ومآسيها، تستطيع أن تسمع في هذه المجموعة القصصية أنات المعذبين الذين اكتووا بآلام الموت والفراق، تستطيع أن تنصت لجريح يود لو يرتشف قطرة ماء، يذوب المرء أمام آلام الجريح حتى لو كان خصمًا، يمد اليدين ليسقيه الماء فيرتد الماء سهمًا غادرًا، وطعنة مباغتة".
ـ هل معنى ذلك أنها كتابة تبحث عن جوهر الحرب كملمح من ملامح البحث عن النفس الحائرة؟
ـ بالضبط، وهو ما قال به المرحوم الدكتور حسين علي محمد: "لعل وراء ذلك شاعرية لافتة أصدرت عدة دواوين قبل أن تنتقل إلى التخييل السردي، لتقدم عالمًا قصصيًا ينتمي إلى الواقع ليؤسس كتابة راقية وملتزمة، تتقاطع مع المستقبل، وتتجاوز شكل الكتابة الإرشادية والوصفية التي قدمها لنا كتاب الواقعية في الستينيات، والتي نراها لا تختلف كثيرًا عن مثيلاتها الرومانسية التي كانت سائدة في ذلك الوقت".
أما الكاتب الراحل عبدالتواب يوسف فيقول: رواية "رجال وشظايا" معزوفة وطنية وأدبية غاية في الروعة والعذوبة، تخاطب العقل والقلب معًا، بلا صراخ ولا هتاف، وتنساب أحداثها لتهز المشاعر والوجدان.
وفي موضع آخر يضيف: "تتجاوز الرواية حدود الإطار التقليدي، بكل تفاصيل الحياة وعناصرها السالبة والموجبة، الحاضرة والهاربة، وهي كثيرًا ما تتشابك مع الخاص والعام في اللغة مباشرة، تتراوح بين لغة الحكي والنسج السردي، فهو يقيم جسرًا ممتدًا من خواطره كمقاتل ومثقف، يمضي باحثًا عن منابت القوة والنماء والتحدي في حلم الأمس ورؤاه".
تعلق الناقدة العراقية الدكتورة وجدان الصائغ على رواية "ظل الحجرة"، في شقها الذي يرصد الأحاسيس المؤلمة في حرب 1967: "بل هي أقدارنا، الوطن الذي داسوا بنيه بدبابات "الباتون" دون أن يملكوا حق الدفاع عن النفس، حظائر الطائرات التي دمرت والكباري التي قصفت والنابالم الذي أحرق مواقع المشاة، وأحال مواسيرالـ (م/ ط) إلى قطع من الحديد الخردة".
ويعقب الروائي الدكتور محمد إبراهيم طه على جانب من جوانب الكتابة، أن سمير الفيل يركز دائمًا حين يكتب عن الحرب على الإنسان، الذي يكره الحرب دائمًا، ولا يحبذها إلا للدفاع عن النفس حيث يكون مضطرًا لذلك.. لم يصور فيها مشهدًا لقذيفة تطلق إنما صور فيها مواقف عادية جدًا من حياة جنود ما بعد الحرب أو ما قبلها، أو جنود مكلفون في دشم أو خنادق، وعلى أكثر تقدير تبدو هناك في البعيد دبابة "سنتوريون"، محطمة من بقايا الحرب أو بعض ذكريات لأحد أبطال القصص عن زملاء حرب فقدوا في أكتوبر، إنما التركيز بشكل أساسي على أبناء الشهداء أو تسليط الضوء على ماسح أحذية، بعكاز تحت إبطه في مقهى، كان محاربًا وزميلًا للراوي".
ـ زاملت المحاربين في منطقة الدفرسوار.. هل جعلك ذلك كأنك خضت الحرب فعليًا كما عبرت عنها؟
هذا حقيقي، زاملت المحاربين في منطقة الدفرسوار وسرابيوم، وحكوا لي عن الحرب، وكيف خاض المقاتل الفرد حربًا شرسة مستخدمًا قذائف الأر بي جي أو مدافع الفهد.. وحكي لي المقاتل مصطفى العايدي ما حدث خاصة أن كتيبته أسقطت طائرات للعدو، وفي أول إجازة ميدانية أهداني خوذة طيار إسرائيلي كانت نواة لمعرض مصغر للغنائم. وما زالت عندي رقعة صاج مكتوبة بالعبرية، تشير إلى حقل ألغام.
عانى الجنود من تأخر التعيين وحفروا في الرمال بحثًا عن قطعة خبز "جراية" أو رشفة ماء من "زمزمية". أتصور أن هؤلاء المحاربين في كبريت، والدفرسوار، وتبة الشجرة، قد خاضوا حربًا غير متكافئة لكنهم تمكنوا من انتزاع النصر في ظل أقسى الظروف.. ولا أنسى الدبابات المحترقة عند قرية "أبوعطوة" وأيضًا عند مدخل السويس التي حاول شارون دخولها فتصدت له المقاومة الشعبية الباسلة .. كل هذا سجلته في قصصي القصيرة التي فازت بجوائز أولى في سنوات 1974، 1975، 1976، وقد كرمت مرتين بعد أن فزت في مسابقات "أدب الحرب"، وهي سلسلة كان يشرف عليها جمال الغيطاني الذي كتب عن تجربتنا في الكتابة، ومعي سمير عبدالفتاح، ومعصوم مرزوق، وسيد نجم، وآخرون.
ـ هل ترى أننا أوفينا حرب أكتوبر عبر التناول في الأدب؟
ـ صدر أكثر من كتاب يضم تجارب في القصة ولدينا روايات مهمة لكنها ظلت حبيسة الكتب لأن الإنتاج السينمائي يتطلب ميزانيات طائلة، وهو شيء غير متوفر حاليًا .. أتذكر أن أسامة أنور عكاشة كلف بكتابة رواية عن الحرب، وتدخل خصوم له وأوقفوا المشروع.
ـ ما الذي يمكننا فعله في رأيك حتى نكرس لأكتوبر كملحمة مصرية خالصة؟
ـ الأجيال الجديدة لم تخض تجربة الحرب، ولكننا نجد كتابات سامقة يجب الالتفات إليها كما في كتابات كتاب مجيدين، مثل محمود الورداني، وأحمد ماضي، وفتحي إمبابي، ومحمد عبدالله الهادي، وأسماء أخرى غابت عن بالي .. هؤلاء رصدوا تفاصيل الملحمة لكن لم يتوفر مخرج سينمائي ليعالج النصوص باستثناء أعمال قليلة، منها: "الطرق إلى إيلات" و"الغريب"، وربما هناك اجتهادات أخرى.
ـ هل هناك قصص أو أعمال أدبية في ذهنك تدور حول فكرة أدب الحرب ويمكن أن نراها فيما بعد؟
ـ كتب عن الحرب كتاب مهمون منهم علي حليمة، وقاسم مسعد عليوة، ومحمد الراوي، وفؤاد حجازي، وغيرهم.. يحتاج الأمر إلى إعادة صياغة المكتوب وتقديم تجارب مسرحية أو سينمائية بشكل يجمع الخبرة بالتقنيات الفنية.
ـ في رأيك كروائي.. ما هي نصائحك للكتابة في أدب الحرب؟
ـ أتصور أن الصدق الفني أمر ضروري، والبحث عن وثائق عند المخابرات وإدارة الشئون المعنوية حتى تكون الكتابة مبنية على عناصر معرفية وأخرى جمالية .. المسألة ليست الرغبة في معالجة الحرب، بل قراءة ما وراء الصدام المروع الذي جعل هناك مقاتلين أشداء يرقون لسماوات الشهادة مثل إبراهيم الرفاعي، ومحمد زرد، وعاطف السادات، وقبلهم الشهيد عبدالمنعم رياض، أمام معدية رقم 6.
الاستناد إلى معرفة حقيقية وجانب معلوماتي أمر ضروري لكتابة وقائع الحرب الخفية، تلك التي لم تدون بعد في الأوراق.. على سبيل المثال منذ أربعين عامًا حملت جهاز التسجيل وزرت مدينة "الزرقا" وتحدثت مع أهل وجيران ورفاق سلاح الشهيد أحمد الأجدار، كما أن هناك أبطالًا راحلين، منهم محمد عبدالعاطي من قرية "شيبة قش" مركز منيا القمح، محافظة الشرقية.. المسألة صعبة لكنها ليست مستحيلة.
ـ هل ترى أننا في حاجة لمسابقات أدبية تكرس لهذه النوعية من الأدب بحيث يمكن كثيرًا استلهام روح أكتوبر في الأعمال الأدبية؟
ـ أعتقد أن مثل هذه المسابقات يمكنها أن تنعش هذا اللون الأدبي الذي أصبح نادرًا مع تقادم السنوات والابتعاد عن المشهد الذي كان مشتعلًا يومًا ما.. لقد قابلت الفريق مدكور أبوالعز وحدثني عن بطولات سلاح الطيران بعد شهر واحد من حرب يونيو وعلى التوازي، ثمة بطولات أخرى يمكن الاتكاء عليها.
ـ أترى أن مرور سنوات طويلة على انتهاء الحرب يمكنها أن تجعل استعادة الوقائع أمرًا صعبًا؟ كيف يمكن التغلب على هذه المعضلة؟
ـ أتصور أن دور الفن لا يكتفي بتقديم حقيقة ما حدث فقط، بل عليه أن ينهض لإنشاء بناء فني معتبر، لذلك فإن الوثيقة، والكتب المرجعية ككتابات محمد حسنين هيكل أو أحمد بهاء الدين، أو الفريق الشاذلي، وغيرهم يمكنها أن تسهم في جلاء النقاط الغامضة ثم لندع الدراما تسهم في تطوير الحدث، وبالتالي تقديم أعمال تحتفي بأبطال الحرب الشهداء خاصة في عملية نصب الكباري وتجريف الساتر الترابي، ثم مرحلة التمسك بالأرض قرب الممرات، بعد محاولات الاختراق.
في أعناقنا مهمة تثبيت اللحظات المتفجرة بعطاء وطني خالص، وهذا الأمر يتطلب رؤية جمالية وأخرى فكرية تجعل من النصوص الروائية مدخلًا لفنون رفيعة تمجد التجربة وهي تستحق ذلك، بكل تأكيد.
ـ هل يمكن أن يلعب الشعر دورًا في هذه المهمة؟
ـ بكل تأكيد، خاصة مع وجود قصائد لامست التجربة القتالية كما وجدنا عند صلاح عبدالصبور، ونزار قباني وأحمد عبدالمعطي حجازي، كما يوجد شعراء متحققون، أولئك الذين تناولوا الحرب عبر قصائد غاية في الأهمية ومن شعراء تلك المرحلة: درويش الأسيوطي، وفوزي خضر، ونصار عبدالله في الفصحى، أيضًا قصائد عبدالعزيز موافي وهو ضابط مقاتل، وأحمد عنتر مصطفى، وأحمد سويلم، وغيرهم.
أما في ديوان شعر العامية فلدينا قصائد فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب، ناهيك عن دواوين محمد كشيك ورجب الصاوي، ومحمد عبدالقادر وكاتب هذه السطور.
ـ وماذا عن العرض المسرحي "غنوة للكاكي"؟
ـ قرأ الكاتب محمد الشربيني ديواني "الخيول" الصادر في عام 1982، وقد وجد فيه مادة درامية تتناول شئون الحرب، فقام بإعداد العمل مسرحيًا ونفذ فعلًا، وقد شارك في المهرجان الأول لنوادي المسرح الذي عقد بمحافظة دمياط أثناء رئاسة حسين مهران للثقافة الجماهيرية.
كانت المسرحية توضح أن مئات الشهداء الذين خاضوا الحرب لم يقطفوا ثمار النصر والعمل أخرجه الفنان شوقي بكر، والألحان للموسيقار توفيق فودة.. كتبت عنه الناقدة منحة البطراوي في جريدة "الأهرام" فور مشاهدتها العرض 1990 "هو قصيد سيمفوني".. وقد وافق الدكتور أحمد جويلي على استمرار العرض لشهر كامل بعد اعتراض أصوات على مضمون العمل؛ فالحس الوطني كان هو الأمر المؤثر في تلك النوعية من المسرح الذي يجمع بين الدراما والتوثيق.
ـ في الأخير، كيف ترى أكتوبر والتعبير عنها أدبيًا، وما المناطق التي تحتاج إلى تاريخ؟
ـ هي حرب تحرير، خاضها المحارب المصري مستندًا إلى تاريخ عريق وعمق حضاري حقيقي، وقد كان بناء القوات المسلحة أمرًا في غاية الأهمية ولا ننسى رجالًا عظامًا أمثال الفريق أول محمد فوزي، والفريق الشاذلي والمشير الجمسي، كلهم رجال صنعوا النصر، وتحدوا الغرب الذي اصطف إلى جوار العدوان الإسرائيلي، ولا شك أن روايتي الثانية "وميض تلك الجبهة" لامست قلب التجربة، وقدم للرواية الناقد الكبير سيد الوكيل والرواية صدرت عن الهيئة العامة للكتاب عام 2008.
لقد حرصت على أن أبحث في الشق الإنساني لدى المقاتلين واهتممت بالأرضية التي وقفوا عندها، وأستطيع القول إن الحرب أسدل عليها ستار كثيف من النسيان بعد التحولات الدراماتيكية التي حدثت مع اتباع سياسة الانفتاح وأظنه سببًا كافيًا لتراجع الاهتمام بحقيقة ما حدث.