رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«المجتمعات الإلكترونية» تعزز من قوة اليمين المتطرف «3»

تنامى ظاهرة «اليمين المتطرف» فى الدول الغربية.. هذا ما نفتش فى مسبباته، ونحاول أن نصل إلى مكونات مفهوم «المجتمعات الإلكترونية»، وهو مصطلح صار يستخدم فى الغرب ذاته للدلالة على الجماعات التى قامت بتشكيل أنفسها عبر فضاء الإنترنت، فى تنامٍ وانتظام وتحت أغطية فكرية وأيديولوجية حتى بات مصطلح «مجتمعات» أقرب بشكل واقعى للتعبير عنهم. أجراس الخطر دقت فى الدول الغربية وغيرها ممن شهد خروج تلك الجماعات وأعضاء التيار اليمينى من فضاء الشبكة الإلكترونية إلى أرض الواقع بغرض الفعل والتأثير، مرة بالعنف اللفظى والحسى، ومرات بالعنف المسلح، ومؤخرًا بالدخول إلى المشهد الانتخابى كأعضاء للبرلمانات واحتلال مقاعد وحيازة نسب لافتة فى حكومات بلدان عدة.

الدراسة التى قدمتها الباحثة المرموقة «ماريانا دياز جارسيا» التى تعمل فى معهد الأمم المتحدة الإقليمى لبحوث الجريمة والعدالة، حملت عنوان «دور المجتمعات الإلكترونية فى انتشار التطرف اليمينى».

فى الجزء الثالث من تلك السلسلة، نلقى الضوء على دور الخوارزميات فى تشكيل وتعزيز «المجتعات الإلكترونية». فوفق ما توصلت له الدراسة البحثية، أدت التكنولوجيا خاصة ديناميات وسائل التواصل الاجتماعى ومنصات المراسلة، دورًا مهمًا فى إنشاء المجتمعات اليمينية المتطرفة عبر الإنترنت وتوسعها. فقد تبنت ونشرت الجماعات اليمينية المتطرفة نظريات المؤامرة، من خلال تكييفها مع رواياتها التقليدية المعادية للأجانب وللحكومات، بهدف تقويض الثقة فى الحكومة والسلطة، وفى الوقت ذاته تعزيز الروايات المتطرفة وتحسين استراتيجيات التجنيد، وتحفيز الأفراد الذين يميلون إلى التطرف الذاتى على ارتكاب هجمات فى العالم الحقيقى. بالإضافة إلى ذلك، أتاح لهم هذا النهج تكوين قاعدة شعبية لا تعتمد على القرب المادى، ما يتيح للأعضاء الاجتماع بانتظام داخل هذا الفضاء الإلكترونى فى دوائر مغلقة، وقد كان هذا فعالًا إلى حد كبير فى نموذج إلهام هجمات «الذئاب المنفردة» على سبيل المثال.

أما الخوارزميات فيمكن وصفها بأنها مجموعة من التعليمات المحددة جيدًا تستخدم لحل مشكلة ما، وفى منصات التواصل الاجتماعى تمثل الخوارزميات آلية تقنية لفرز كيفية عرض المعلومات فى الأنظمة الأساسية، بناءً على الأهمية وليس حسب وقت النشر. هذا يعنى أن المستخدم سيرى محتوى أكثر ارتباطًا بما يعجبه، بدلًا من تاريخ وتوقيت نشر المحتوى، ما يزيد من احتمال تفاعل الفرد مع هذا المحتوى، علاوة على ذلك يمكن أن تعمل الخوارزميات بطريقة تعاونية من خلال توجيه المستخدمين إلى رؤية المواد المنشورة، التى تحتوى على محتويات مماثلة من قبل مستخدمين آخرين.

وقد حرصت إدارات منصات التواصل الاجتماعى على تصميم الخوارزميات بحيث يمكنها عبر الذكاء الاصطناعى القيام بإدارة تدفقات المحتوى باستخدام التوصيات، عن طريق تحليل الإعجابات والتعليقات، لتحسين إمكانية اكتشاف المحتوى. علاوة على ذلك يتم تنظيم التفاعل مع المحتوى من خلال تصنيف المعلومات، وتصفيتها لخلق حوافز وظروف تفاعل للمنشئى الأصلى للمحتوى. لذلك يظل دور الخوارزميات مهمًا ومحوريًا فى إنشاء «المجتمعات الإلكترونية» عبر الإنترنت، بسبب قدرتها على ربط الأشخاص ذوى التفضيلات المتطرفة واقتراح لهم محتوى مماثل، وقد أتاح تحديد الأولويات وإدارة المحتوى تلقائيًا لهذه الجماعات نشر منشوراتها بطريقة أسهل، لجذب المتابعين المحتملين. وقد رصدت هذه الدينامية من قبل الأجهزة الأمنية والاستخبارات فى دول عدة، استخدامها داخل دوائر أخطر الجماعات الإرهابية مثل تنظيم «داعش».

فى العادة تكون للمنصات الإلكترونية آليات إشراف يدوية وشبه آلية، لاكتشاف المحتوى المسىء والضار، ومن ثم التدخل لحجبه أو حذفه من الحسابات الشخصية للمستخدمين، وحرمانه من العبور إلى خاصية النشر والتداول. لكن الجماعات المتطرفة لم تكن لتقف مكتوفة الأيدى، فقد طورت هى الأخرى على نحو مقابل استراتيجيات عدة لتجنب اكتشافها، واستبدال قنواتها ومجموعاتها بسرعة فى حالة تعليقها أو اتخاذ قرار من قبل المنصات بقطع طرق التواصل فيما بين أعضائها. حيث يدرك مديرو هذه الجماعات وأعضاؤها التقنيون الآليات والضوابط المنفذة لتنظيم المحتوى، لذلك يطورون باستمرار سبلًا ومسارات بديلة لتفاديها. من أخطر تلك البدائل أن أعضاء هذه الجماعات استبدلوا الكلمات المسيئة التى يمكن اكتشافها تلقائيًا بواسطة آليات الرقابة فى المنصات الإلكترونية، بإنشاء لغة خاصة للتعامل فيما بينهم عبر الإنترنت بشكل عام. وهذه تقنية أخرى متطورة ومشفرة رقميًا باستخدام رموز وكلمات لا يفهمها ولا تلفت انتباه المراقبين آليًا أو بشريًا غيرهم، مما يؤدى إلى سهولة إخفاء أنشطتهم مع توفير إشارات سهلة لتحديد الهوية للأفراد ذوى التفكير المماثل.

من أشهر تلك المناورات التى نجحت تلك الجماعات فى تنفيذها خلال عامى ٢٠١٩ و٢٠٢٠، ما سمى بـ«عملية جوجل». وتمثلت فى القيام بحملة داخلية بينهم على نطاق واسع لاستخدام «كلمات مشفرة» يمكنها تجاوز أنظمة الاكتشاف التلقائى للشبكات والمنصات، الذى يعد الأحدث والأمهر فيه هو نظام الذكاء الاصطناعى للمحادثات الذى طورته شركة جوجل «Google's Conversation A١». وفيه بدأت تلك الجماعات فى استخدام مفردات تبدو غير ضارة لإخفاء لغة الكراهية، فأطلقوا على المسلمين لفظ «Skittles» وعلى الأمريكيين من أصل إفريقى اسم «Googles»، وإلى المنتمين للعرق اللاتينى رمز «Yahoos». فى حين كانت هناك أيضًا بعض الرموز تسير فى ذات السياق، مثل تحويل حرف «S» إلى «$» وإزالة المسافات بين الكلمات لتبدو الجمل ملتصقة يصعب تفكيك محتواها ودلالاتها. كما كان هناك حرص طوال الوقت استخدم المتطرفون فيها عبر الإنترنت منظومة إنشاء حسابات احتياطية، وبهذه الطريقة، يمكن للجماعات المتطرفة نقل المحتويات على الفور إلى حسابات جديدة لإعادة توجيه جماهيرهم. ففى بعض الأحيان، كان مسئولو هذه المجموعات يعيدون توجيه متابعيهم إلى حسابات بديلة على منصات التواصل الاجتماعى، وبالمثل فى تطبيقات المراسلة بحيث يكون من غير المرجح اكتشاف محتواهم، من قبل آليات الرقابة داخل الشبكات أو من عناصر أجهزة الأمن، التى بدأت فى تعقب خطابات الكراهية والحض على العنف الذى استشرى خلال الفترة السابقة، للحد من وجهة نظر تلك الأجهزة، أن أصبح مهددًا لحالة السلم الأهلى والاجتماعى. وهى هواجس نرى أنها فى محلها بشكل كبير وتستوجب تعقبها ومقاومتها، من أجل ضمانة بيئة أكثر أمنًا وسلامًا بين الشعوب والأعراق بعضها بعضًا، وداخل نسيج المجتمعات أيضًا، مما يعزز من الاستقرار الغائب أو المراوغ على أقل تقدير.