«قبض على نور الشريف بسبب الحسين بن طلال».. تفاصيل أزمات «بئر الخيانة»
في كتابه الذي صدر في ثلاثة أجزاء عن دار الهالة للنشر والتوزيع تحت عنوان ” حكايات مصور سينما.. الغريب والخفي أثناء عمل الأفلام ” يحكي مدير التصوير الشهير سعيد شيمي العديد من الحكايات المتعلقة بالمفكرين والكتاب والسينمائيين.
يحكي سعيد شيمي:" لي تجربةٌ سابقة مع المنتج سعد شنب بالتصوير خارج البلاد لفيلم (عنتر شايل سيفه) عام 1982، وهذه هي تجربتي الثانية معه في فيلم (بئر الخيانة) إخراج علي عبد الخالق، الذي صُوِّر بين مدينة الإسكندرية ثم روما عاصمة إيطاليا، ولندن عاصمة المملكة المتحدة، وكان الفيلم عن قصةٍ حقيقية من المخابرات عن جاسوسٍ مصريٍّ تم إحضاره، ولكنه انتحر في السجن بزجاج نظارته، وكانت نهاية الفيلم بالجملة الشهيرة (عاش خاين ومات كافر).
وعدني الأستاذ سعد شنب أنه سيتم تحميض علبة فيلم مصوَّرة بلندن في أهم معمل بها وهو (رانك) -والتحميض هو عملية إظهار نيجاتيف الفيلم في المعمل- وفي تجربتي السابقة لم يحمض أيَّ خامٍ في إيطاليا حتى لا تعلم نقابتهم أننا نصور، فلم يكن معنا تصريحٌ ولم يرد أن يدفعَ للنقابة نقودًا، ولذلك لم نحمِّضْ أيَّ علبة من فيلم (عنتر شايل سيفه) إلا في مصر.
أوروبا في ذاك الشتاء مرت بموجةٍ بردٍ وسقيع شديدة هكذا قالت الأخبار، وأنا أعلم بهذا الجوِّ من سفرياتي، ولذلك طلبت للسفر خامًا عاليَ الحساسية للضوء حتى يساعدني في التصوير في الجو الغائم دائمًا هناك، وفي أحيانٍ كثيرةٍ يكون الغمام داكنًا أكثرَ من اللازم وممطرًا كذلك.
عملت حسابي لذلك في خاماتي، ولكن طلبي تحميض ولو علبة لأطمئن على عمل الحركة الميكانيكية للكاميرا، فإن بها أجزاء من الزجاج والمرايا؛ أخشى أن تُصَاب بضررٍ أو كسر من ظروف الشحن والسفر في المطارات والانتقالات، وعمومًا أخذت معي احتياطاتي في هذه السفرية كاميرتين احتياطيتين، ولكن لم أستعملهما والحمد لله، ولكن حدَثَت لنا أشياء محرجة وظريفة ومفاجآت غير متوقعة.
بدأنا الفيلم وأنهينا جزءَ الإسكندرية في المدينة وديكور مبنى فوق سطح بيتٍ قديم مطِلٍّ على الميناء ثم سافرنا إلى روما، وفي الطائرة قال لي الأستاذ سعد: لا تستعملْ حاملَ الكاميرا في تصوير الشوارع، تعجَّبتُ وقلت له: ليه؟! فقال: ده عاوز تصريح، وطوال من انت حامل الكاميرا على يديك لن يكلمك البوليس أبدًا، بل سيرحب بك ويعتبرك سائحًا. قلت له: ولكنَّك لم تقلْ لي ذلك في الفيلم السابق، فقال ببساطة: نسيت أن أقول لك.
العدسة الزووم الضخمة الكبيرة (37-300) مللي لا زوم لها وشيلة زيادة، وفعلا كلُّ تصويرِ الفيلم بروما الكاميرا وهي محمولةٌ بيدي، وفي أحداث الفيلم مطاردة البوليس الإيطالي، بالطبع كومبارس وتمثيل، وبطل الفيلم نور الشريف، ثم يُعجِبُ المخرجَ مكانٌ مليءٌ بالأعمدة فيطلب التصوير هناك بين الأعمدة في جوٍّ شديدِ البرودة وغائمٍ، والأستاذ سعد قلق مني لأنني أصوِّر، فيقترب مني ويقول: أنت متأكد إن الصورة كويسة؟ فأقول له: إن شاء الله، لا تقلق.
القبض على فريق التصوير
وبدأنا تصوير المطاردة بين الأعمدة، وفجأةً ظهرَ لنا أفراد لا نعرفهم وقبضوا علينا، إنهم جنود أمن الفاتيكان السويسري المسؤول عن حماية المكان، وذهبوا بنا جميعًا إلى حجرة لهم في مبنى قريبٍ، فنحن نصوِّرُ من دولةٍ أخرى غير إيطاليا، في الفاتيكان بالطبع لم يكن معنا تصريح بالتصوير كما لم يكنْ معنا تصريحٌ لإيطاليا نفسِها.
دخل الأستاذ سعد وعلي عبد الخالق ونور الشريف إلى مقر الحرس السويسري، وبقينا نحن أمام الباب في الخارج مع البرد والصقيع مدةً كبيرةً؛ لا نعلم فيها ما الذي يدور في الداخل، وبعد عدة ساعات أُفرِجَ عنا بعدما اتصل -أعتقد- الأستاذ سعد بالسفير المصري ومدير الأكاديمية المصرية للفنون بروما- الفنان فاروق حسني؛ الذي أصبح وزير الثقافة من بعد، وكان تدخُّلُهم سبَبَ إطلاقِ سراحنا، ثم عرفنا من بعد أن السبب الأساسي للقبض علينا أن ملك الأردن الحسين بن طلال كان في هذا الوقت يزور البابا، واعتقد -أو خاف- الأمن أننا إرهابيون؛ نريد اغتيال الملك. هي صدفةٌ لا تحدث إلا في واحد من المليون، ولولا هذه الزيارة لكنا صوَّرنا دون أن يكلمنا أحد.
في لندن
انتقلنا بعد نهاية تصوير روما إلى لندن، وكان الجو أبشعَ وأبرد لدرجة أن الزيتَ الداخلي للعدسات كان يتجمَّد، فأقوم بتدفئة العدسة في جيب السويتر بيدي قبل الاستعمال... عدسات مصري أخذ على جونا الحار الجميل!
كنت أُذكِّرُ الأستاذ سعد بتحميض علبة للاطمئنان عليها من البرد، ملابسنا لها صوتٌ؛ وعندما تحتك ساقا البنطلون معًا في المشي نسمع صوت احتكاك الملابس (ناشفة) مثل الحجر، ونحن لم نتعوَّد على بردٍ من هذا النوع.
في أحداث الفيلم مطاردةُ سياراتٍ في طريق مطار لندن (هيثرو)، وأثناء التصوير أوقفنا البوليس الإنجليزي، وسألنا عما يحدث على الطريق؛ وخاصةً ونحن نضع الكاميرا بتجهيزٍ خاص خارج إحدى السيارات، وهذا لفت نظر البوليس فأوقفنا، وذهب الأستاذ سعد معهم ولا نعلم عنه شيئًا، لكننا سريعًا أكملنا المشهد ونحن نعلم أنه ليس مع الأستاذ سعد أي تصاريح، وبعد أن أنهينا التصوير ذهبنا إلى الفندق الذي يجمعنا جميعًا، وليلا حضر الأستاذ سعد وكنا قلقين عليه مع أننا نعلم أنه سيتصرف جيدًا، قال لنا بعد رجوعه: قلت لهم نعمل دعايةً لشركة الطيران، فصدقوه وتركوه. كم كان رائعًا هذا من الأستاذ سعد!
فيما بعد كان باقيًا لدينا أيامٌ قليلة للتصوير داخل المطار، فطلبت تحميض علبةٍ مصوَّرة كما وعدني، وقلت له: مش حصور بكره إلا إذا ذهبت إلى المعمل وحمَّضت العلبة.
وبالفعل ذهب بعلبةٍ مصوَّرة للمعمل، ونحن ذهبنا إلى المطار لاستكمال التصوير والعمل، وكان معه ابنه الشاب (يحيى)، ثم بعد مدة أتى (يحيى) وقال لي: بابا بيقول إن المعمل بيقول إن الصورة مهتزة في الفيلم!
جلست على الأرض
عندما سمعت هذه الجملة أصابني دوار ولم تحملني قدماي، وجلست على الأرض في مكاني، وكنا في صالة داخل المطار. فعلا هذا حدث لي، وليس هناك أي مبالغةٍ مني في ذلك، فالصورة تهتز هذا يعني أن الكاميرا أُصِيبت بعطب، ويعني هذا أنَّ كلَّ شيءٍ مصوَّرٍ ضاع ولا يصلح في روما ولندن، فأي خرابٍ شديد على المنتج سعد شنب؟!
ونحن في هذه الحالة مع المخرج علي عبد الخالق وباقي العاملين والفنان نور الشريف حضر الأستاذ سعد، فقلت له: أريد أن أشاهد العلبة فورًا، فقال لي: لا، أنا قلت للمعمل ياخدو مترين بس من نهاية العلبة ويتم تحميضهم ليطمئن المصور، فقالوا بعد التحميض الصورة مهزوزة.
أنا أصابني الجنون لحظتها، ثم رجعت الدماء إلى عقلي وجسدي واطمأننت وقلت له: مش حصور إلا إذا ذهبت إلى المعمل وحمضت العلبة كاملةً، وكررت كاملة فورًا، وتركته وجلست بعيدًا.
ولكن بعد أن هدأت؛ علميًّا يكون الفيلم داخل الكاميرا أثناء التصوير مشدودًا جيدًا بين بكرتي التغذية والسحب، وتتم دورة لفة ميكانيكيًّا طوال التصوير الأربع دقائق زمنية (وهي كل مدة تصوير العلبة كاملةً)، وعند انتهاء الفيلم وترك الشريط لبكرة التغذية في نهايته يحدث هذا الاهتزاز للصورة، وفي الغالب لا نستعمل هذا الجزء، والكاميرا تفصل في التصوير. الأستاذ سعد حمَّض في المعمل الجزء البايظ.
انتظرت بهدوءٍ أخبار المعمل وأنا جالس مكاني، ومر الوقت وجاء سعد شنب بالعلبة في يده، وقال: الصورة كويسة، مفيهاش هز ولا رقص ولا بوس... وهذا بعد ما نشف دمي.