أزمة مسلسل ترفضه الأسر المصرية
تعددت أنواع الدراما ونوعية الموضوعات التي نشاهدها منذ بدء الدراما المصرية.. والتي تؤكد دور مصر الرائد في مجال الدراما والفنون.. وما زلنا نتذكر مسلسلات مصرية رائعة وممتعة حظيت بنسبة مشاهدة عالية وأقبلت عليها البيوت المصرية وتابعتها الأسر المصرية بشغف وإعجاب.. وبقيت في ذاكرتنا علامات مضيئة في وجدان المجتمع المصري وذاكرة المشاهدين المصريين وأصبح أبطالها نجوما وفنانين يضيفون في كل فترة دراما فيها إبداع وفن يتعلق به المشاهدون، ولكنه يحافظ على مستوى متميز ولا يحتوي على مشاهد فجة أو ألفاظ خارجة أو مضمون مسىء للقيم التي يحافظ عليها معظم المصريين في بيوتهم ومعيشتهم وسلوكياتهم حتى الآن، وكان معظم مسلسلات مصر حتى وقت قريب يعكس قضايا ومشاكل وأوضاع المجتمع المصري دون تطرف أو فجاجة أو خروج عن الأخلاق والمعايير المتفق عليها اجتماعيًا، وكان لي الشرف أن تم إنتاج مسلسلات عن كتبي الأدبية التي تتضمن قصصًا من الواقع المعيش في قضايا وأوضاع المجتمع المصري، كما عكست صورًا كثيرة من العلاقات بين المرأة والرجل والعلاقات الاجتماعية والأحوال الاجتماعية المستقاة من الواقع، والتي تعكسه وفقًا لرؤيتي، لكنها كانت دائمًا تمزج بين الرقي والمتعة للمشاهد ومحاولات تغيير المجتمع إلى الأفضل.. كما تشرفت بأنه تم اختياري على مدى ٦ سنوات في لجان تحكيم الوجبة الدرامية التي ستعرض على الشاشات المصرية خلال الشهر الكريم، وذلك حتى يناير ٢٠١١.. حيث بدأت بعدها فوضى عارمة في الشارع وفي الدراما لعدة سنوات حتى٤ ٢٠١.. حيث بدأ يعود الاستقرار والأمن تدريجًيا إلى بلدنا الحبيبة.
كما ظلت في ذاكرتنا منذ صغرنا مسلسلات متميزة وممتعة من النوع الاجتماعي أو الوطني أو التاريخ نعيد مشاهدتها كلما تم عرضها.. ونتذكرها وأحداثها وأبطالها باعتزاز مثل مسلسلات "رأفت الهجان، وفرقة ناجي عطا الله، وليالي الحلمية، وزيزينيا والمال والبنون، وونوس وأرابيسك والراية البيضا، والبخيل وأنا، وحديث الصباح والمساء، والملك فاروق والشهد والدموع، وضمير أبلة حكمت، وأم كلثوم، وقاسم أمين، وعائلة ونيس، وأوان الورد، ولن أعيش في جلباب أبي وهوانم جاردن سيتي وحكايات ميزو ويوميات زوج معاصر، وبوابة الحلواني، وأميرة في عابدين، ويتربي في عزه، وامرأة من زمن الحب ودموع في عيون وقحة" وغيرها الكثير.
إلا أننا في السنوات التي تلت أحداث يناير ٢٠١١حدثت تغيرات متتالية في مصر وظهر فجأة دخلاء في مجال الإنتاج الدرامي والسينمائي ورءوس أموال تنتج دراما تقتحم بيوتنا بشكل يومي، وتقتحم مناطق كثيرة من العلاقات بين الناس والعلاقات الاجتماعية بفوضي وبموضوعات مختلفة ومستهدفة للأسرة المصرية ومعظمها يظهر أسوأ أوضاع يمكن تخيلها، وكأن القصد منها تدمير قيم المجتمع المصري وإظهاره بصورة مشوهة تسوده البلطجة والفجاجة والمخدرات ورسم صور مشوهة للمرأة والفتاة والأم والزوجة المصرية، ومعظمها سيئ وفج ولا يقدم مضمونًا يذكر أو رسالة فيها رقي وقيم أو وعي ينير العقل ويرتقي بالمشاعر.. وهكذا شهدت الدراما فوضي مثلما حدث في المجتمع.. وكنت قد كتبت من قبل العديد من مقالات الرأي في صحيفة "الدستور" علي مدي السنوات الماضية منذ يناير ٢٠١٣حول الدراما التلفزيونية وخاصة التي تعرض خلال شهر رمضان المبارك في كل عام.. وهذا الشهر الكريم أخصصه كل عام لنقد الأعمال الدرامية الكثيرة التي تعرض فيه في مقالاتي بصحيفة "الدستور".. وكنت قد نبهت ولفتت النظر إلى أن الدراما منذ ٢٠١١تستخدم كوسيلة في تفكيك وتدمير القيم المصرية الأصيلة.. والعريقة.. بشكل ممنهج وبشكل مقصود.. وإن كنا قد بدأنا نري تحسنًا ملحوظًا في الـ٤سنوات الأخيرة بتقديم أعمال درامية جيدة ومتميزة ووطنية منها مثلًا الاختيار بأجزائه كلها وهجمة مرتدة وغيرها من بعض المسلسلات المتميزة.
ولأن الدراما هي من بين الأنواع الفنية المحببة إلى الشعب المصري التي يقبل عليها المشاهد والأسر المصرية بشكل عام طوال شهور السنة وخلال شهر رمضان الكريم خاصة.. فإنني هنا قد لاحظت مؤخرًا ومع ظهور كثير من المنصات الإعلامية وتعددها وكثرة القنوات الفضائية وانتشار أنواع عديدة من الفوضي الإعلامية حول مصر وفقدان المعايير المعنية أو الفنية السليمة وعدم وجود أي معايير لإنتاج الدراما عن مصر أو عن البيت المصري.. كما أن المنصات والقنوات الفضائية قد أصبحت تنتج برامج سيئة من مقدمات لا يعبرن عن الإعلام المصري أو الشأن المصري ويصدرن التخلف والأفكار الفجة والساذجة التي تدعو للتخلف والرجعية حول المرأة والمجتمع بشكل عام بخلاف أحوال مصر التي تتجه نحو المستقبل والتنمية والتنوير وتحسين أحوال المرأة وتقدم حقوق ومكانتها بخطي سريعة واضحة للكل.
كما أصبحت تنتج هذه المنصات الإعلامية بعض الدراما التي لا تعكس بصدق احوال المجتمع المصري بل تسيئ إليه .وأتوقف هنا عند مسلسل جديد عرض مؤخرًا وسبب غضبًا وسخطًا في الرأي العام في مصر ورفضت الأسر المصرية محتواه ونوعيته وموضوعه وكل من شاهده في بيته علي منصة إعلامية، والذي يعرض حاليًا علي منصة إعلامية ويقدم في قناة فضائية عربية.. وأقصد به مسلسل "أزمة منتصف العمر"..حيث نجده يتناول زنا المحارم بشكل فج ومن خلال مضمون يركز على الانحرافات الفجة والمريضة، حيث يتناول علاقة آثمة بين رجل وحماته بينما هو متزوج من ابنتها الشابة.
ثم يكتشف فجأة أن كلًا منهما حامل منه في نفس الوقت وهو رجل في منتصف العمر وصاحب علاقات كثيرة وعديدة ولديه عقدة من أمه التي يردد عنها أقوالا سيئة في الحلقات، ويطردها في ليلة فرحه ويتعامل معها بعنف رافضًا لوجودها في حياته، وهو كما يظهر لنا أيضا أنه ابن عاق وهو طبيب أسنان معجب بنفسه وتقع في غرامه كل النساء ولديه عقدة نفسية بسبب أمه ويقيم العلاقات العديدة مع النساء ويقطعها وفقًا لأهوائه الشخصية، ويؤدي دوره الممثل كريم فهمي وتقوم بالحماة، وهي أم الزوجة الشابة التي نكتشف أنها زوجة لها بعد عدة حلقات التي ربتها بعد عدة حلقات، وأن نري علاقتها العاطفية وانجذابها نحو زوج الابنة الشابة، وانجذابه إليها رغم أنه يعلم أنها أم زوجته الشابة الثرية المدللة.. والزوجة في منتصف العمر هنا هي الفتاة ريهام عبدالغفور التي تحمل من زوج ابن زوجها وهي زوجة مقهورة صامتة مسلوبة الإرادة باعتها أمها لتتزوج برجل ثري قبيح السلوكيات والملامح وفاسد وأكبر منها بفارق سن كبيرة، وهي تكرهه إلي درجة المقت.. لكنها تطيعه طاعة عمياء وتقوم بإدارة البيت وطاعة الزوج دون تذمر أو رفض لأوامره المجحفة بحقوقها كزوجة ولا يبالي بخدمتها المتواصلة له وطاعتها العمياء لأوامره وتفانيها لابنته الوحيدة المدللة، ثم تقيم علاقة عاطفية ثم جنسية آثمة مع ابنته.
والزوج أيضا رجل فاسد وعنيف وثري منحرف مثله ككل شخصيات، المسلسل أب منجرف نحو أنواع كثيرة من الانحرافات كالمخدرات والعلاقات الجنسية وتزوير الشخصية والطمع للمال والرغبة في الثراء بأي ثمن وتدور الأحداث والعلاقات المحرمة بين فئة الأثرياء الذين ليس لديهم سوي الانحراف والفساد والأعمال الاجرامية، وفقدان الشرف والكرامة، والابنة الشابة نراها ضائعة ومدللة وفاسدة وليست لديها أي مبادئ في حياتها فهي منذ البداية ابنة عاقة أيضا وتسيئ لأمها بالتلفظ الجارحة وتعاملها بجفاء وعنف واحتقار منذ اللقطات الأولي، وأيضا أخ الزوج غارق في الانحراف والفساد والخطط الشيطانية مع صديقة شابة له أيضا منحرفة ومزورة لشخصيتها ويضعان خطة لزواجها من الزوج المسن الدكتاتور طمعًا في ثروته التي كونها بالفساد.
وإذا كان أداء الممثلين جيدًا، إلا أنني أعتقد أن الفنانين المصريين لن يختاروا مثل هذه الموضوعات بعد الهجوم الضاري عليهم من الرأي العام في مصر، خاصة ريهام عبدالغفور وكريم فهمي اللذان قدما دورهما بنضج واضح في الأداء، إلا أنه من ناحية أخري فإن الأمر المزعج في المسلسل هو أن الإنتاج قد اختار إنتاج مسلسل يدور كله حول الخيانة كمضمون أساسي للمسلسل.. فهو سمة موجودة في كل الشخصيات التي تدور حولها الأحداث.. ولا نجد بين الشخصيات أي شخصية عادية أو طبيعية سوية أو حتي لديها رفض للانحراف، ومن المؤكد أنه في أي مجتمع سنجد أنه يوجد نوع من أنواع الصراع بين الخير والشر أو بين الحلال والحرام.. كما سنجد في أي مجتمع شخصيات طبيعية وعادية وناجحة أو عاملة أو جادة أو مكافحة أو محترمة، كما سنجد في المقابل أيضًا شخصيات منحرفة وفاسدة وفاقدة للقيم في المجتمع.. ففي أي مجتمع يوجد الخير والشر منذ بدء الخليقة.. إلا أن هذا المسلسل لا يوجد أمامنا فيه سوي الشر والخيانة والفساد وبيع البنات من خلال الأم، أيضا "أم ريهام عبدالغفور التي باعتها للرجل المسن المتسلط الدكتاتور الذي يمارس إذلالها وإهانتها والسيطرة عليها من خلال أمواله الطائلة.. ولا نري سوي علاقات آثمة أو محرمة أو سلوكيات منحرفة ومصابة بعقد نفسية صعبة".
وأنا هنا لا بد أن أؤكد أنني مع حريه التعبير وحرية الرأي تمامًا بشكل عام.. ولا أقدم نفسي كمصلحة اجتماعية وأنا فقد أقول إن هذا المسلسل لم يقدم لنا سوي حلقات فيها مباشرة وعدم حرفية وافتعال تقديم صورة سيئة للمجتمع المصرية، ولهذا رفضته البيوت المصرية وعبرت عن رفضه بوضوح وسخط ملحوظ علي مواقع التواصل الاجتماعي كلها.. وفي تقديري إن هناك علاقات لا ينبغي تقديمها بهذه الصورة الفجة المبالغ فيها مثل تقديم حلقة عن صدفة لا تحدث إلا نادرًا، حيث إن الزوجة الشابة لطبيب الأسنان اكتشفت أنها حامل منه في نفس توقيت حمل زوجة أبيها التي ربتها منذ صغرها، كما أن الزوجة الشابة لا تعرف أنها زوجة أبيها، لكنها تعنفها وتحتقرها طوال الحلقات رغم أنها تعتقد أنها أمها.. وهذا السلوك العنيف مع الأم نادرًا ما يحدث في البيوت المصرية إلا مع شخصيات منجرفة ومنحرفة. أما الصدفة التي أتحدث عنها فهي في الحمل في نفس التوقيت للمرأتين من نفس الرجل.. فهي تبدو غريبة ومفتعلة، ومن النادر أن يحدث الحمل لإمرأة في سن زوجة الأب، والتي هي هنا سنها فوق الـ٤٥ سنة ولا يكون الحمل طبيعيًا في هذه السن.. كما أنني أجد أنه من الضروري أن أتوقف لأقول إنه ليس في المسلسل أي رسالة للوعي أو لرفع درجة الوعي أو لتوصيل قيمة ما أو لحظة إنسانية أو شخصية نتعاطف معها أو لحظة تنوير واحدة.. وقد يقول البعض لي ولكن المسلسلات الأجنبية تقدم هذا وتقدم ما هو أسوأ من ذلك.
وأنا هنا أختلف مع هذا الرأي لأنني أري ككاتبة أعتبر نفسي ضميرًا للمجتمع، ومن حقي أن أقدم وجهة نظري بحرية في نقد أي شأن أو عمل درامي، من منطلق رؤية حرة، ومن منطلق حرصي علي مشاعر الشباب ورؤيتهم لهذه النماذج المنحرفة، ومن منطلق حرصي علي الهوية المصرية وقيمها العريقة، ومن منطلق الدعوة إلى عرض الواقع من خلال الدراما بحرية تامة ولكن مع اختيار مضمون ورسالة إنسانية تثري الوجدان وتمتع المشاهد بفن راقٍ وتحتوي على لحظة تنوير تنير للمشاهد الطريق، بل وقد تغيره إلى الأفضل وليس إلي الأسوأ.. ويمكن ببساطة ألا نكمل مشاهدة هذا المسلسل أو أي مسلسل إذا لم يعجبنا أو إذا ما رفضنا محتواه، وإنه علينا ببساطة أن ندير المنصة الإعلامية أو القناة الفضيحة؛ لنرى مسلسلًا آخر أفضل ولدينا الكثير من المسلسلات المتميزة والجيدة في الـ٣سنوات الأخيرة.