رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات مصور سينما».. تاريخ السينما بعدسة سعيد شيمى

حكايات مصور سينما
حكايات مصور سينما

كتابة روائية عن خلاصة التجارب العملية فى مواقع التصوير وعوالم ما خلف الكاميرا

فى كتابه الأحدث «حكايات مصور سينما» بجزءيه الثانى والثالث، يفاجئنا مدير التصوير السينمائى سعيد شيمى بحكايات لها مذاق الفيلم السينمائى. يأخذنا لنبحر معه إلى مصنع الأحلام، لا لنشاهد الفيلم فى صورته النهائية ولكن لنرى بأعين خيالنا ما عاشه وهو يصنع صورته السينمائية على مدار خمسين عامًا. فينقل لنا بلغة رشيقة وتصويرية الأجواء والكواليس التى دارت خلف الكاميرا، يرويها بنفس الدقة والانسيابية التى سجل بها ما يدور أمامها لنرى كيف صنع صورة الأفلام التى أحببناها. ينقلنا بسلاسة لعالم المغامرة التى تحيط بكل فيلم. فهو يحترف التشويق بالكتابة، كما احترفه بالصورة الدرامية. لا يكتب بقلم وإنما بكاميرا حرة مستعدة دائمًا لتقلبات الأحداث، وقادرة على التعبير بالكلمات عن نبض هذه الحافلة التى واجه فيها أصعب الظروف وهو يصنع لنا أجمل الأفلام. نبحر معه فى شغفه بفن السينما، ذلك الشغف الذى يبثه ببراعة فى قلوب كل الفنيين العاملين معه فيحفز هممهم ويبث فيهم من روحه الوثابة القادرة على الابتكار.

كتبه حافلة بالمشاهد السينمائية المكتوبة بالصورة، ففى كل جملة ستظهر صورة فى ذهنك، فأستاذ الصورة السينمائية الذى اعتاد الرسم بالضوء، يرسم الآن ومنذ سنوات فى سلسلة كتبه التى وصلت لخمسة وثلاثين مؤلفًا بالكلمات. وهى كلمات مضيئة وسلسلة تجذبك للدخول فى عالمه بشعور غامر بالبهجة والبساطة. وفى ثلاثيته التى صدرت مؤخرًا عن دار الهالة للنشر تحت عنوان «حكايات مصور سينما.. الغريب والخفى أثناء عمل الأفلام» لا يقدم لنا مذكرات بالمعنى المتعارف عليه، فهو لا يحكى فيما هو شخصى محض، لكنه يقدم خلاصة تجاربه العملية وذكرياته فى مواقع التصوير، وكواليس أفلامه ويلتقط صورًا لما جرى خلف الكاميرا. فالعام والخاص عنده مضفور فى جديلة واحدة. لا يقدم لنا الخطب أو عظات الأحد ولا حتى دروس الكبار، لكنه يقدم لنا شيئًا مهمًا جدًا وهو خبرة حياته مكثفة، دون أن يبخل بشىء قد ينير الطريق لشاب يقف حائرًا فى أوله. فستشعر بمتعة غير عادية من هذا السرد البصرى الفريد.

يتدفق أسلوبه فى سرد الحكايات ببساطة. وستدهشك مراجعته لكثير من الأحداث وكأنه يعيد رؤيتها وتقييمها ولفت انتباهنا إلى أن هناك طرقًا متعددة لتجاوز ما يواجهنا من صعوبات فى العمل. فلا شىء مستحيلًا وما نفشل فيه مرة سننجح فيه فى المرة المقبلة أو بعد المقبلة فهو لم يتوقف عن المحاولة أبدًا.

يزيح الستار عن الغريب والخفى فى عمل الأفلام، ويصفه وكأنه يكتب مشاهد سينمائية لكل مشهد فيه حبكته الخاصة، فقد عاش أكثر من نصف قرن خلف كاميراه، فكانت بالنسبة له كسلاح الجندى فى الميدان لا تفارقه، وتلازمه حتى فى أحلامه. التى يقول إنها كثرت بعد عمر السبعين، التى تدور كلها فى مواقع التصوير، يستعيد فيها ذكرياته الكامنة فى اللا شعور بشكل سيريالى يذكرنا بأحلام لويس بونويل. تزوره أطياف كل الذين عمل معهم، ويستيقظ متعجبًا لأن كل الذين كانوا معه فى الحلم منذ دقائق قد رحلوا من الواقع، فيترحم عليهم واحدًا واحدًا ويقرأ لهم الفاتحة. يطارده فى الحلم مشهد من فيلم «ضربة شمس» لصديق عمره المخرج محمد خان، ويتساءل لماذا يتكرر هذا المشهد بالذات فى الأحلام، فيكتشف أنه لا يحبه لأنه نفذه بشكل ردىء من وجهة نظره لهدف إنتاجى.

يحكى عن الجدل والتفاعل والتفكير وكيفية التعامل مع ما هو متاح والابتكار اللحظى الذى تتطلبه ضرورات العمل، والثقة والطموح اللذين كانا حافزًا للسينمائيين فى جيله ليصيغوا معًا مدرسة السينما الجديدة ويتحرروا من أساليب الماضى فى التصوير والإخراج والكتابة للسينما.

يحمل كاميراه وينطلق ليصور الأحداث السابقة عليه فى أماكن طبيعية. يلتقى على عبدالخالق والمونتير أحمد متولى فى المكتب الدائم للناقد سامى السلامونى بقهوة إيزافيتش فى ميدان التحرير، يعجب بفيلمه «أغنية على الممر» الذى اعتبره الرئيس السادات فيلمًا تحريضيًا ومنعه بسببه من التعامل مع التليفزيون، كما أوقف سامى السلامونى عن الكتابة لمجلة الإذاعة والتليفزيون. يصور يوسف بك وهبى فى فيلم «أغنية للحب والموت» فيعايش ونعايش معه سينما من عصر مضى. وتصبح له ذكرى مع الفنان الذى عاش ألف عام كتب فى مذكراته.

منذ بداياته يهتم بالجانب التطبيقى العملى فى مهنة المصور السينمائى، ويداوم على شراء الكتب الجديدة فى فن التصوير من مختلف أنحاء العالم، يستلهم من لعبة ابنه شريف «الاسكيتنج» فكرة ليصور قدمى عادل إمام على مستوى أرض الملعب بشكل حر تمامًا فى لقطات مدهشة فى فيلم «الحريف» لمحمد خان. يحمل الكاميرا وينام على سجادة صغيرة يشدها الميشانيست من أطرافها ويلفه بها حول الفنانة مديحة كامل ليصورها وهى ترقص فى فيلم «أبوالبنات»، فقد اعتاد أن كل طلبات المخرج قابلة للتنفيذ. صور لأحمد زكى عشرة أفلام ويعرف أنه يندمج فى التمثيل، ويخرج من ذاته ليكون الشخصية التى يمثلها. وفى فيلم طائر على الطريق ينسى أحمد زكى أن مدير التصوير وفنى الإضاءة فوزى لبيب مربوطان على مقدمة السيارة ويستعمل الفرامل بشدة فينقلبان أمامها وينجوان من الموت تحت عجلاتها بأعجوبة. 

وفى فيلم «البرىء» يضربه محمود عبدالعزيز بالكرباج مع السجناء بشكل غير مقصود. وفى فيلم «جريمة فى الأعماق» لحسام الدين مصطفى يخرج باللنش للبحر المفتوح الواسع فى منطقة مقبرة السفن ويغوص فى عالم خيالى لسفن عملاقة غارقة، ويصور ويصارع الأمواج ليحصل على اللقطات التى يريدها وسط المخاطر والأهوال. وفى أثناء تصويره فيلم «بئر الخيانة» للمخرج على عبدالخالق فى إيطاليا يصور مطاردة البوليس لنور الشريف فى مكان ملىء بالأعمدة وفجأة يقبض عليهم البوليس الإيطالى لأنهم دخلوا دون أن يدروا لحدود دولة الفاتيكان أثناء المطاردة ويصوروا فيها بدون تصاريح.

نجده أيضًا يتحدث عن حرصه الدائم على القيمة الفنية للألوان كإحدى أدوات الفعل الدرامى فى الفيلم. وضرورة استعمالها فى سياق التأثير بلغة السينما. ويكشف ضحالة الفكر السينمائى حين يلهو بالألوان ويستخدمها بطريقة خاطئة. وأهمية التسلح بالعلم والمعرفة والتصرف المبتكر، كما حدث معه وهو يصور فيلم «استغاثة من العالم الآخر» للمخرج محمد حسيب، حينما نسى الميشانيست حقيبة مرشحات الألوان واكتشف الأمر وهم فى عرض النيل، فابتكر مرشحًا للضوء ينقذ به الموقف. يتناول أيضًا الكثير من المواقف العجيبة التى تعرض لها بسبب أفلامه، فيذكر أنه تم استدعاؤه من الأمن العام لاستجوابه عن سبب تصويره فيلم داود عبدالسيد «وصية رجل حكيم فى شئون القرية والتعلم» وهو فيلم تسجيلى ساخر يعلق عليه جميل راتب بصوته ساخرًا من الجهل وأوضاع التعليم البائسة، ويسألونه أسئلة على طريقة: هل أنت شيوعى يا مستر شابلن؟ وإلى أى حزب سرى تنتمى؟ هل أنت متفق مع ما يتبناه الفيلم؟

وفى الكتابين ستجد الكثير من معانى الوفاء والصداقة بينه وبين هؤلاء المصابين بحب السينما والصورة الذين كانوا أعمدة رئيسية فى تطوير السينما المصرية وفن الصورة كأستاذه فى معهد السينما عبدالفتاح رياض، والناقد أحمد الحضرى عميد معهد السينما ورئيس جمعية الفيلم فى الستينيات. والخلاصة أنك ستعيش رحلة ساحرة مع هذه الكتب التى صاغها بمداد الافتتان بالسحر اللانهائى لفن السينما.