«جينالك يا طاهرة»| حكايات من دفاتر مريدى السيدة زينب: النفحات تصفى قلوبنا من الأحقاد.. وخدمتنا محبة فى النبى وآل بيته
الشفاه تتحرك بالذِّكر، والأجواء مليئة بالروحانية، على جانبنا خيمة تتسلل منها روائح الطهى، وأمامنا «نصبة شاى»، ومن خلفنا رجال يفرشون الحصيرَ ليُجلسوا الزوار، كنا فى رحاب السيدة زينب، حيث مسجدها العامر، وميدانها الملىء بمريديها القادمين من كل محافظات مصر، لإحياء الليلة الكبيرة لمولدها الشريف التى أقيمت أمس الأول، الثلاثاء، كان الكل يعمل ويقدم المساعدة لغيره، محبة فى حفيدة النبى وآل بيته الأكرمين.
معظم هؤلاء حضروا من محافظات بعيدة للغاية عن القاهرة، وتكبدوا مشقة الطريق، فلا يوجد أصعب من أن تسافر مُحملًا بالكثير من الحقائب والأدوات التى تكفيك لقضاء عدة أيام فى بلد آخر، لكن «أم العواجز» تستحق- كما يقولون- أن يُشد إليها الرحال.
التقينا «أيوب»، يحمل فوق ظهره ٨٥ عامًا، تُعجزه الشيخوخة عن النطق، بالكاد تخرج الكلمات من فمه، يجلس على كرسى وبجواره عصا مطلية بالذهب ويتلفّع بشال أخضر.
يكشف الرجل عن أنه قطع مسافة كبيرة من قنا إلى القاهرة للمشاركة فى مولد السيدة، ويقول: «أنا هنا لمحبتها وخدمتها، بدفع كل ما أملك لأجل إرضاء الله وآل البيت»، كما يبدى استنكاره للادعاءات المتهافتة بحرمانية الاحتفال بالمولد، ويضيف: «قالوا إن ده شرك وبدع وكفر، فين الشرك فى إنى بعمل خير وبوزع طعام للمساكين والغلابة؟ دى هى أم اليتامى وكله لخدمتها وإرضاء لله ورسوله».
وعن نشاطه اليومى خلال أيام الاحتفال بالمولد، يقول: «بنعمل الخير وبنوزع النفحات، ونذكر الله، ونصلى على الرسول، ونصفى القلوب من الكره والحقد».
وخلال تجوالنا داخل الميدان، التقينا «أم هاشم»، فى السبعينات من عمرها، تفترش مدخل عمارة سكنية عتيقة، وأمامها موقد صغير تطهو عليه الطعام لزوار حفيدة النبى دون مقابل، لدرجة أن المريدين لقبوها بـ«خادمة السيدة».
تحكى: «أنا هنا من ٤٠ سنة، بعد ما كان والدى ياخدنى كل مولد معاه وأنا صغيرة، وبقيت باجى لوحدى لأجل خدمة الزوار وبعمل لهم كل حاجة، وبغسل الصحون، وكله لوجه الله والرسول وأحبابه».
وتتحدث عن أسباب تسميتها «خادمة السيدة»، بقولها: «كتر حبى ليها ولجدها، أنا هنا بتعافى، مبحسش بتعب، مع إنى بافضل أسبوع كامل أطبخ وأغسل فى أطباق، مع إن سنى كبيرة، لكن مبحسش بالتعب طول ما أنا هنا».
وداخل ممر قديم متصل بالميدان، قابلنا «أم هلال»، ورغم أن عمرها الآن ٨١ عامًا، لا تزال تمتلك من الإرادة والإصرار ما يجعلانها تواصل زيارة السيدة وخدمة مريديها فى مولدها، مكملة مسيرة ٥٠ عامًا حافظت خلالها عائلتها على عادة تقديم الخدمة وإطعام المساكين فى المولد.
وعلى الرغم من برودة الجو، تبيت «أم هلال» منذ ٥ أيام داخل خيمة أقامتها فى ذلك الممر، رافضة أن تبيت فى أى مكان آخر، حرصًا منها على أن تكون دائمًا رفقة المريدين لتقديم الخدمة لهم.
تقول: «إحنا بنحب آل البيت ونحب نخدم مُحبيهم، وكله لله الواحد»، مستنكرة هى الأخرى الأقاويل المتطرفة بتحريم الاحتفالات بمولد آل البيت، وتضيف: «الناس اللى بتقول حرام وتشكك فينا مبسمعش ليهم، إحنا بنعمل لله».
وتحكى بتأثر وخجل عن نَذْرها وعطائها لخدمة آل البيت، وتقول: «إحنا زرعنا ذرة وبناخد إيراد اللى بيطلع من الأرض، ونجمع ونحط فلوس كلنا مع بعض، ونتشارك إحنا ومحبى آل البيت وأقاربنا فى مائدة لإطعام المساكين، وكل من يمر بياكل، إحنا كلنا بنعمل لوجه الله».
وتكشف عما اعتبرته مردود ذلك العطاء عليها، وتقول: «لما بكون تعبانة، بدل ما أصرف الفلوس عند الدكاترة بدفعهم فى الإطعام والحضرة، بعدها ربنا بيعافينى، واعتدت كل جمعة أعمل أكل وأجمع الأحباب وناكل، وكله لوجه الله والرسول، إحنا موحدين بالله، وبنطعم المساكين ومحبى آل البيت».
وعلى بُعد خطوات، انتبهنا إلى صوت ينادى «اشرب وصلِّ ع النبى»، وتوجهنا إلى صاحبه، وهو «مجدى»، واحد من مريدى السيدة، الذى نذر نفسه لسقاية زوار المولد، حاملًا عدة أكواب للمياه، يقدمها للمارة.
يستغرق «مجدى» فى حديثه عن محبته للسيدة، التى، حسب قوله، تناديه من أجل زيارة مولدها كل عام قادمًا من مدينة المنصورة، ويقول: «مجتش من نفسى، أنا هنا علشان نادتنى، بعمل خير وبشرب المارين، ويصلوا على النبى، واللى بيشرب فى كوباية بياخدها علشان محدش يشرب مكان التانى، أنا بعمل كده كل عام، وباجى مسافة كبيرة لخدمة ستنا زينب فى كل مولد لها».
ويواصل: «بكسب ثواب الشرب وثواب الصلاة على النبى لكل من مر، حتى لو لم يشرب، أنا هنا فى محبة ستنا زينب وخدمتها فى مولدها ومحبة آل البيت فى قلبى، والصلاة على النبى مكسبى من الدنيا، السيدة نادتنى لأجل عيون زوارها، وبقطع كل مولد مسافة من المنصورة إلى القاهرة لمحبتها».
وأمام أحد السرادقات التى تستقبل مريدى السيدة زينب، وقف رجل خمسينى بعباءة وطربوش أحمر يرتل بعض الكلمات، وقال إنه قادم من قرية تل بسطا التابعة لمحافظة الشرقية للمشاركة فى الاحتفالات، هو الفنان الشوبكى الذى قال: «نشأت فى بيئة فنية عند الحاج محمد الشوبكى، وهو فنان وأصل الفن الشعبى، وهويت الفن بعد وفاته ونزلت الموالد على يد الشيخ دسوقى النوبى وعملت برامج على قنوات التليفزيون».
وروى الشوبكى: «قلبى راح لأحباب سيدنا النبى ولما شاركت فى مولد زين العابدين قلبى راح فى حب آل البيت وكل ما أقدمه من مدح وذكر مجانًا».
وعبّر ببعض الكلمات عن حبه لمصر والرئيس، قائلًا: «أنا سيد الحضور وأتباهى بقائدنا.. مصر يا غالية يا أم النيل ياللى هواكى يشفى العليل ياما سهرنا ياما كافحنا وكان كفاحك يا مصر طويل.. مصر أمى وأبويا النيل وحدايا قلبى النيل ملهمش أبدًا مثيل فى الكرم يا كارمة الضيوف أنا عمرى زيك ما هشوف».
وعلى عتبة حارة صغيرة تجد رجلًا ستينيًا جالسًا يراقب زوار مولد السيدة زينب ليناديهم «اتفضل النفحة»، ولا يتوقف عن ترديد «الصلاة على النبى» بين كلامه، قاطعًا مسافة كبيرة من الأقصر إلى القاهرة لخدمة الرواد ويطعمهم ويسقيهم من خيرات الله التى حملها على عربة نقل هو وأولاده لخدمة آل البيت ومحبة «أم المدائن».
وقال الحاج دسوقى نوبى حفناوى، منظم إحدى موائد الطعام بمحيط السيدة زينب: «إن إطعام الطعام وجمع الأصدقاء من أجمل الأعمال وأفضلها، أنا خدام الغلابة كلهم بمجهودى لأجل الله وآل البيت وفلوس المائدة من أهل الخير وأنا بالمجهود».
بعباية وطرحة تجلس «أم العز» امرأة خمسينية جاءت من قرى الصعيد لتوزع الشربات على كل من يمر أمام مسجد السيدة، وتنادى «اشرب شربات ده فرح أم المساكين»، و«صلى على النبى»، تقف هى وأولادها الثلاثة لتوزع على كل من يمر مسلم ومسيحى بنظرة حب ورضا.
قالت: «أنا هنا علشانها دى جدها الرسول، باجى أنا وأولادى من المنيا وأهلى يستقبلونى عندهم فى البيت أسبوع المولد، وكل يوم نوزع الشربات أنا وعيالى لنكسب ثواب زوار السيدة وكل من يمر بالشارع أمامنا».
قال حمودة كامل من محافظة الجيزة: «بحب آل البيت من حب النبى لهم ولأن النبى قال أحب من يحب أهل البيت، مربية الأيتام كل من يحب السيدة زينب النبى يحبه وأن النبى قال أهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك، نحن سفينة النجاة، من تعلق بها نجا، ومن حاد عنها هلك، فمن كان له إلى الله حاجة فليسأل بنا أهل البيت».