رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البالون الصينى.. وبدء فصل الألعاب الخشنة!

باستخدام أعلى التقنيات التكنولوجية والعسكرية؛ تنفذ البحرية الأمريكية على مدار الأيام الماضية عملية دقيقة ومكثفة لجمع كل أجزاء المنطاد الصينى الضخم، الذى نجح الجيش الأمريكى فى إسقاطه بواسطة طائرة مقاتلة قبالة سواحل كارولينا الجنوبية السبت الماضى. 

تشترك فى عملية البحث السفن الحربية المزودة بالتقنيات القادرة على تنفيذ مهام من هذا النوع، كما تساعدها بعض الزوارق والطائرات المسيرة فيما يحتشد على البر من خلفهم، فريق النخبة من مهندسى مكتب التحقيقات فى كوانتيكو بولاية «فرجينيا».

المهمة التى ينخرط فيها هذا الفريق الضخم من المحققين العسكريين والاستخباراتيين، مدعومين من خبراء التقنيات الرقمية، هى تحليل كل القطع من بقايا البالون الصينى المستعاد، فى محاولة للوقوف على كل ما جمعه من معلومات استخباراتية أمريكية. وفى نفس الوقت السعى لتحليل القدرات التقنية للبالون، بما فى ذلك نوع البيانات التى يمكنه اعتراضها وجمعها، فضلًا عن الأقمار الصناعية التى تم ربطه بها. وفى ذات المهمة الدقيقة يتحتم على هذا الفريق، أن يقدم لجهات الاختصاص وفق تحليلاتهم ودراستهم للبقايا المعثور عليها، تحت أعماق تبلغ ١٥م تقريبًا وبامتداد مساحة تقارب «١٥ ملعب كرة قدم» بحسب فريق البحث، نقاط ضعف هذا البالون وأفضل الطرق لتتبع مناطيد المراقبة الجوية فى المستقبل. ووفق ما ذكره الجنرال «جلين فانهيرك» قائد القيادة الشمالية الأمريكية، أن البالون يبلغ طوله ٦٠ مترًا ويحمل مجموعة أدوات استشعار طويلة أسفله، قدرها وفق الرسوم التخيلية بأنها كانت بحجم طائرة صغيرة.

استخدمت البحرية الأمريكية السفن القادرة على رسم خريطة دقيقة لقاع البحر فى المنطقة التى سقط فيها البالون، عبر إجراء أكثر من مسح ضوئى لجميع الأجزاء المتبقية من البالون بما فيها منطقة العثور، حتى يتمكن المحللون الأمريكيون من الحصول على صورة كاملة لأنواع المستشعرات التى يستخدمها الصينيون، وصولًا إلى فهم كامل وإجابة شافية عن سؤال استخباراتى مهم، هو: كيف تمكن البالون من النجاح فى مناورة أجهزة ووحدات الرصد الجوى الأمريكى؟ فقد كان هناك تأكيد أولى لدى السلطات الأمريكية؛ خرج من البنتاجون إلى البيت الأبيض فى أيام التحليق الأولى «٢، ٣ فبراير» أن المنطاد يحلق على ارتفاع شاهق، فى مسار أعلى بكثير من خطوط الملاحة الجوية، وأنه لا يمثل تهديدًا عسكريًا أو ماديًا للأمريكيين على الأرض. وهنا كان التقدير أن البالون يحلق على ارتفاع يزيد على ١٨ ألف متر، لكن استشعار الخطر وبدء التعامل الجاد مع الأمر، ربما جاء مع تحليق البالون فى سماء ولاية «مونتانا» شمال غرب الولايات المتحدة، التى تحتضن منشآت عسكرية حساسة مما دفع الحديث والشكوك فى واشنطن أنها إزاء «عملية تجسس» صينية عالية التقنية.

بكين أعلنت رسميًا منذ بداية تعقيد المشهد، أن الغاية من المنطاد كانت علمية، وأن وصوله إلى الأجواء الأمريكية جاء بشكل عرضى، نافية بشكل قاطع أن يكون هدفه التجسس على المصالح الأمريكية، كما وصفت عملية إسقاطه لاحقًا بواسطة العسكرية الأمريكية بأنه رد فعل متجاوز ومتطرف للغاية. الجانب الأمريكى بالطبع لا يميل لتصديق هذا التبرير الصينى، بل هناك ما يشبه اليقين بأن هذا المنطاد الأخير هو جزء من «برنامج مراقبة» واسع النطاق يديره الجيش الصينى، وهذا البرنامج يتضمن إطلاق عدد من البالونات المماثلة من قبل، انطلقت جميعها من مقاطعة «هاينان» الصينية. لم يتوافر بعد لدى الاستخبارات الأمريكية العدد الدقيق لأسطول بالونات المراقبة الصينية، لكنها تؤكد أن هذا البرنامج أجرى ما لا يقل عن عشرين مهمة، فى خمس قارات على الأقل فى السنوات الأخيرة، كما نفذ ما يقرب من ست عمليات جوية داخل المجال الجوى الأمريكى، لم تكن بالضرورة فوق الأراضى الأمريكية بشكل مباشر. هذه المرة كانت إدارة بايدن أمام «حالة حرج» وسط آراء متضاربة حول التعامل الأمثل، بتجاوزه أو إسقاطه، وكلا الأمرين له توابعه الدقيقة، فى النهاية انتصر الرأى العسكرى الاستخباراتى الذى انحاز إلى إسقاطه خارج الأراضى الأمريكية، خشية احتوائه على غازات ضارة أو توقع حدوث خسائر جراء الحطام المتساقط.

من أبرز المعلومات التى جرى الكشف عنها خلال أيام تلك الحادثة، هو أن بالونات التجسس عبر التصوير فائق القدرة، قد تكون أفضل فى الاعتمادية عن الأقمار الاصطناعية، من حيث جودة البيانات والصور المخزنة على أجهزة كلتا الوسيلتين. فأكبر ميزة لدى مناطيد التجسس أنها قادرة على دراسة منطقة لفترة زمنية أطول، باعتبار أنها تستخدم فى تحليقها جوًا مزيجًا من التيارات الهوائية وجيوب الهواء المضغوط، التى يمكن أن تمثل شكلًا من أشكال التوجيه، مما يساعد ذلك فى إبقائها أطول مدة ممكنة، كما يوفر لها قدرة على التصوير الجوى الأعلى جودة والأكثر دقة، ويبقى أنها بالطبع أقل كلفة وأسهل بكثير فى الإطلاق مقارنة بالأقمار الاصطناعية. وإن كان هناك رأى مقابل طرح التساؤل عن جدوى ذلك الأمر، بل وهل استفادت الصين حقيقة من برنامج من هذا النوع، استنادًا إلى فرضية أن البالونات قد تتمتع بميزة التحليق لفترة أطول فوق أهداف معينة، لكن قدرتها على جمع المعلومات لا تختلف اختلافًا جذريًا عن الأنظمة الأخرى المتاحة للصينيين. فمغامرة كبيرة من هذا النوع قد لا تساوى توفير المنطاد لدقة أفضل فى صوره، فى الوقت الذى لا يوفر معلومات أوفى مقارنة مع الأقمار الاصطناعية!

لهذا بقيت بعض من التساؤلات مفتوحة، حول توقيت هذا الإطلاق الصينى، وما هى الدوافع الحقيقية لاستخدامه فى هذا الوقت بالتحديد.. هل لمجرد تأكيد بكين قوتها وقدراتها الحديثة، فى وقت ترغب فيه بالهروب من واقعها الداخلى الذى لا يسير فى أفضل صورة، بالنظر إلى تباطؤ النمو الاقتصادى والاحتجاجات الأخيرة المرتبطة بإجراءات التعامل مع جائحة «كورونا». أم أن الأمر يدشن فصلًا جديدًا من الألعاب الخشنة بين واشنطن وبكين، باتت الصين من خلال تلك الحادثة، على أهبة الاستعداد للولوج فيه، بل ربما تكون قد بدأته بالفعل رغم تساؤلات حجم الاستفادة الصينية التى لم يكشف النقاب عنها بعد.