يعنى إيه معرض كتاب؟
مش فاكر أول مرة سمعت فيها جملة معرض كتاب كان إمتى.. بس كل اللى فاكره إنى كنت لوحدى.. وإنى سافرت عشرين ساعة كاملة من سوهاج لحد رمسيس.. وإن كل اللى معايا مكنش يكمل جنيه.. وإن صاحبى اللى دلنى على المعرض وكان مستنينى فى العباسية هوه كمان مكانش معاه اللى يكمل جنيه.
كنا أطفال على باب الرجولة.. طلبة فى تانية ثانوى.. بنحب الكتب والندوات والأفلام ولعب الكورة برضه.. والسفر.
صاحبى ابن نجع حمادى كان عنده طلبة قرايب من بلدهم بيدرسوا فى الأزهر وساكنين جنب المعرض.. حكوله إنهم مش نازلين الإجازة لأنهم هيروحوا المعرض.. صوروله المعرض جنة.. ناس مشاهير من اللى بنشوفهم فى التليفزيون.. وكتب بالأطنان وأكل وفسح وممثلات.. صاحبى ولا يزال صاحبى حتى هذه اللحظة والذى يعمل فى الكويت منذ سنوات، تعمد أن يضغط على فكرة وجود الممثلات فى المعرض أمام بعض الزملاء ممن يحبون الشهرة والتمثيل وأهل الفن فيما حكى عن ندوات دينية عظيمة لمشايخ كبار من الأزهر وأماكن أخرى.. وبلاد أخرى.. حتى إن بلدًا عربيًا لم يجد وسيلة ليدعو إلى بلاده إلا بطباعة مصاحف وصور للكعبة يوزعها مجانًا.. اكتملت عملية الإغراء لكل الرفاق ونجح حسام همام فى تحريضنا نحن أبناء الستاشر سنة وبعضنا لم يكن قد امتلك بطاقة شخصية بعد على السفر للقاهرة دون معرفة أهالينا لأول مرة.. وحتى يضمن سفرنا أكد أن أبناء قريته من طلبة الأزهر لديهم مكان لإقامتنا طيلة الأسبوع.. لكن فى اللحظة الأخيرة تراجع المتحمسون ولم يبق غيرى وحسام.. وكان أول معرض.. وأول تذكرة دخول إلى هذا العالم الساحر من الإبداع والمتعة.. شاهدنا الأبنودى ونجم وحجاب ومحمد أبودومة وعشرات من المبدعين الذين منحونا كتبهم وكتب الآخرين مجانًا، فعدنا بعد أسبوع بشوال كتب نتفاخر به بين زملاء المدرسة وحكايات لا تنتهى عن القاهرة ووسط البلد والكورنيش وزهرة البستان.. والطريق من مدينة نصر مشيًا حتى ماسبيرو بعد نص الليل..
ربما لست وحدى صاحب الحكايات التى ارتبطت بالمعرض.. كل صديق أعرفه من أبناء الجنوب له حكاية.. وقصة.. وأسرار.. لكن يربط بينها جميعًا ذلك الفخر بأننا نملك ما لا يملكه غيرنا.
سنوات تزيد على الثلاثين مضت.. ولا يغيب عن الذاكرة كيف تحول المعرض فى بعض السنوات إلى رأس حربة ضد التطبيع مع الكيان الصهيونى.. وكيف أصبح أهم هايد بارك للمثقفين فى عالمنا العربى.. من ينسى وجود أدونيس. والماغوط على سبيل المثال.. من ينسى ندوات هيكل وأطروحاته سواء اتفقت أو اختلفت معها.. من ينسى حوارات الوزراء وكبار رجال الحكومة لسنوات وقت أن كانوا يعتبرون وجودهم فى ندوات المعرض حدثًا واستفتاء على شعبيتهم.. الشعر والحب والاقتصاد واللهو والسياسة والتطرف والعقل.. كل هولاء كانوا موجودين فى المعرض.. لكنهم اختفوا الآن.
المعرض لم يكن مجرد أجندة يصنعها بعض الموظفين فى وزارة الثقافة.. ولا هو مجرد تجميعة لدور النشر لتبيع شوية كلام متحاشين فى شوية ورق.. المعرض كان إلى وقت قريب حالة فريدة للتعبير عن حيوية مصر وقدرتها على الحوار والإبداع والاستمرار.. ولا يزال فى بعض جوانبه كذلك.. لكن استمرار الفعاليات بنفس طريقتها القديمة من أيام سمير سرحان حتى الآن بهذه الطريقة إهدار لقيمة المعرض وتقزيم للحالة التى صنعها فى عقول الملايين على مدار تاريخه.. وعلى الذين يراهنون على محبة هذه البلاد أن يعيدوا النظر فى شكل وعقل إدارة فعاليات المعرض.. عليهم البحث عن طريقة لإعادة الروح إلى جنباته التى صارت باردة.. وإن تخللت أجنحته بعض اللمحات مما كان.. جميل أن نحتفى بأن الملايين ذهبوا للمعرض.. وجميل أن ننشر صور الأغلفة الجديدة كل يوم.. والأجمل أن ننشر صور أطفالنا وهم يتفقدون المكتبات ويطالعون الكتب الملونة ويمرحون.. جميل أن نحتفى بآلاف الزائرين وهم يفترشون الساحات يصلون الجمعة ثم يواصلون رحلتهم فى أروقة المعرض فى مكانه الجديد بالقاهرة الجديدة.. ولكن علينا أن نعيد المعرض لسيرته الأولى.. ساحة للفكر والحوار والإبداع.. فهناك الملايين من أبناء مصر فى نجوعها وقراها فى بحرى والصعيد ينتظرون قطاراتهم التى ستقلهم إلى قصتهم الجديدة مع المعرض.