رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«التحرش».. دائمًا بين قوسين فى الكتابة للطفل

تواجهنا أزمة فى الكتابة للطفل لا بد من الوقوف عندها قليلًا، وهى أزمة للأسف ليست وليدة اليوم، يمكننا القول إنها أزمة متوارثة، وهى ببساطة تجنب الوضوح والخوض فى التعبيرات الصريحة التى بالفعل يتعرض لها الطفل يوميًا، وتعترض طريقه وعقله ومسامعه لكننا نحن من يجب أن نفسرها له بكل وضوح وإنسيابية، نتجاهلها ونجبر كتاب أدب الطفل على تجنبها ونحثهم على "التحسيس" على العبارات والحذر عند تناول الكلمات، ولا أقصد بهذه العبارات مجرد السباب، أو كلمات خارجة عما أسميناه بقاموس الطفل اللغوى الذى خرج فقط من عقولنا نحن وسيطرت علينا، فى حين أن الطفل يملك قواميس المجتمع كلها، أخشى أن المقصود من كلمات نتجنبها هى الكلمات التى تتضمن أعضاء جنسية، فى حين أن اليونسكو نفسها أصدرت فيلمًا عن التحرش لا يتعدى الدقيقة قائمًا على كلمة واحدة من هذه الكلمات.. فتصير الإشكالية هنا.. ماذا أقول لطفلى بعد أن يشاهد هذا الفيلم.. كيف أفسر له تلك الكلمة؟ 
ببساطة الطفل سيسمعها من المتحرش الذى نريد منه تجنبه ويسمعها فى الشارع وبين الأصدقاء ولا ينتظر منا تفسيرًا ولا توضيحًا، لأن تكرارها سيعلمه معناها، وبالطبع سوف يتجنب السؤال حولها لأننا علمناه من خلال القصص والكتابات أن هذه الكلمات من المحرمات التى لا يجب الاقتراب منها، وبالطبع ولأن الممنوع مرغوب لدى الطفل، فسوف يحاول بنفسه ويعرفها، ثم يتجنبنا نحن الذين أشهرنا سبابتنا فى وجهه ومنعناه من معرفتها بوضوح وعلانية.  
لماذا لم ندرك أننا إذا أمرناه ألا ينطق بها.. لم نستطع منعه من سماعها! هكذا نضع الطفل نفسه بمشكلاته الحقيقية بين قوسين عند الكتابة له، ونقدم له ما يبعده عن الواقع المعاش، ونكون عندئذ راضين كل الرضا عما قدمناه. 
رغم أن المنظمات الكبرى اهتمت وغيرت، لكن دور النشر لاتزال تفرض قوالبها على الأديب، فقد وضعت مثلًا المدير التنفيذى لليونسيف هنريتا فور دعائم ثابتة لردع التحرش والحفاظ على الجنسين، ومن المفترض أن يعمم نظامها فى كافة الدول ليست الولايات المتحدة وحدها، حيث سنت قوانين للفحص المهنى والجنائى لكافة الموظفين فى أى مؤسسة تتعامل مع الأطفال وخصصت مستشارين خاضعين لها لمراقبة العمل والتحقق من البلاغات المقدمة، وقدمت الدعم المعنوى والطبى والنفسى بوضع متخصصين لمعالجة الحالات التى تعرضت بالفعل للتحرش، وخصصت تدريبات إلزاميًا للجميع عبر الانترنت ليناله كل فرد فى أى دولة لنشر التوعية وطرق التعامل مع كافة أنواع التحرش، ولازلنا نخشى الوضوح والعلانية والخوض فى الحقائق فى أدب الطفل، وكانت هذه مشكلتى منذ بدأت الكتابة للطفل منذ 24 عامًا.. كنت أخضع لقوانين دور النشر الكبرى التى احتكرتنى عشر سنوات ولم أصدر سوى كتابين وقتها بسبب خضوعى لسياسة النشر لدى الدار وسياسة المجتمع من احترام الألفاظ والكلمات ذات الطاقة الإيجابية وخاضعة للعرف الأخلاقى والتربوى الذى لا مانع لديه من استخدام الخيال والرمح بعقل الطفل بعيدًا لكى يسترخى وينام. 
وضعنا قوالبنا الجاهزة للكتابة للطفل على أنها حدودته قبل النوم، تمتلأ بالمواعظ وآداب التعامل والنصح اللطيف على ألسنة الحيوانات واكتفينا بذلك.. وسارت على نفس الدرب كل دور النشر.أتذكر حينها أنى تقدمت بكتاب جرىء بعنوان (أنا بنت) لمست فيه إحساس البنت بوقت بلوغها، وتغيرات جسدها التى توقعها فى حيرة الفرحة بالبلوغ والخجل من تضاريس جسدية تدفع الأعين للنظر إليها، وتحرمها من حريتها وتخترق خصوصيتها، فتنزوى الفتاة وتدخل فى عالم الانطواء والاكتئاب، ومن ثم تخرج فتاة مريضة نفسيًا لمجتمع لا يقدم لها مساندة، لأنها لم تجد من الكتابات ما يقدم لها المساندة والحلول لكى تتخطى تلك المرحلة. 

الغريب أن الدار أعجبت جدًا جدًا بالكتاب، لكنها اشترطت تعديلات بحجة أن الكتاب سوف يوزع فى دول عربية لا تقبل هذا النوع من الأدب، وجلست مع مشرف الكتابة لأدب الطفل وهى امرأة جميلة لكنها كلاسيكية ومتقولبة شأن الآخرين، ولما رأت أننى لم أتناول ألفاظا محرمة أو عبارات خارجة، قررت أن تحذف الإيحاءات التى أتوارى خلفها لتوضيح المعنى، ماذا يتبقى بعد ذلك أذن من الكتاب؟ ماذا يقدم.. مجرد لغة ساحرة بلا مضمون ولزاما على أن أعالج وأقدم حلولًا تخضع لقوالب التربية أيضًا، كيف يصدقنا الأطفال ونحن نجلس فى بروج عاجية بعيدة كل البعد عن حيواتهم؟ حقيقة أننا لا نراعى الطفل، بل نراعى قوانينا التى وضعناها لتغليف وتعبئة الطفل بعيدًا عن أحراش مجتمعه. 


احتفظت بالكتاب لنفسى حتى الآن ولم ير النور، وكان موضوعه مهمًا وقتها قبل أن ندخل   فى عالم الميديا والانفتاح الاخلاقى الذى تضاعفت فيه كل أزمات الطفل، بل وظهرت أمراض جديدة تعاملنا معها بنفس الفكرة، لا وجود للتغير ولا مجال من الخروج عن القالب المتحجر الذى نكتب بداخله للطفل وندفعه للتعايش معه، ولم ننتبه أننا بذلك نصنع طفلًا مزدوج الشخصية.. بل متعدد الشخصيات.. يحيا مع الأسرة بوجه أخلاقى مطيع يستمع إلى حدودته قبل النوم للاسترخاء، ويحيا مع أصدقائه بوجه المتنمر والمتمرد والمنطلق بلا قيود يتلفظ بما يتلفظون به بلا رادع ويتعامل مع نفسه مرة بكره الذات، ومرة بتقبلها، ومرات بعنف ومرات بانطواء وتشتت.. وهنيئًا لنا بمرضى نفسيين جددًا.