حضارة مُعاقة.. كتابٌ يستكشف الجهالات المتحكمة بالوعي البشري
لا يتوقف السعي الإنساني نحو جني المزيد من التطور على صعيد التطور التكنولوجي وتوفير سبل الرفاهية، ومع كل ما حققته الإنسانية على مدار تاريخها من تقدم، فإن ثمة جهالات لا تزال حاكمة للوعي البشري.
في كتاب "حضارة معاقة.. إمكانات هائلة تدار بحكمة هزيلة واستغراق في صراعات البقاء"، الصادر حديثا عن دار ابن النديم للنشر والتوزيع ودار الروافد الثقافية، يسعى الكاتب السعودي إبراهيم البليهي إلى استكشاف تلك الجهالات وبحث أثرها في الوعي البشري المعاصر.
الأنساق الثقافية المتوارثة
حقق الإنسان في مختلف أنحاء العالم وفرة في الوسائل والأدوات وتقدمًا علميًا وتقنيًا إلى حد صار معه العالم مغمورًا بطوفان المعلومات والأدوات، ومع ذلك، فإن البليهي يجادل بأن كل ذلك التطور المادي لم يصاحبه تطور مماثل في وعي البشرية التي لم تتجاوز متطلبات البقاء، بل إن الإنسان ما زال بدائيًا ولم يصبه التحضر كما ينبغي.
يرجع البليهي ذلك إلى عدة أسباب على رأسها هيمنة الأنساق الثقافية المتوارثة على الوعي الإنساني الذي رغم تقدمه الظاهري ظل عاجزًا عن إدخال المعرفة والتحضر إلى صميم وعيه، وفي هذا يتشابه الإنسان في كل مكان، ولا تؤثر درجة تطور المجتمعات على استحكام الأنساق الثقافية المتوارثة.
في القرن الحادي والعشرين لا تزال الأمم تتوارث أنساقها الثقافية التي لم تتأثر تأثرا جوهريًا بالتراث الفلسفي أو بالتقدم العلمي أو التعليم، بل إن التغييرات التي أصابت أوضاع الأمم لم تكن سوى نتاج القوانين والنظم والمناهج والأساليب والنمو الاقتصادي والتقنيات المتطورة.
يقول البليهي: العقلانية السائدة في المجتمعات المزدهرة هي عقلانية قوانين ومؤسسات ونظم ومناهج وأساليب وإرادة وليست عقلانية أفراد أو مجتمعات، ومن هنا فالحضارة هشة لأن تفكير الفرد وقيمه وعاداته تظل مرتبطة بالنسق الثقافي المتوارث.
ويرى الكاتب أن ثمة انفصالًا حادًا بين الفكر الفلسفي والعلوم الموضوعية مقابل كل الأنساق الثقافية المتوارثة، وهو ما يمثل معضلة البشرية التي تحول دون تحرير العقل البشري، موضحًا: "الإنسانية ما زالت تتحكم بها أفكار الأموات وصراعاتهم وتاريخهم وأوهاهم وأساطيرهم وعقدهم وتحرير الإنسانية من انسياب ضلالات الماضي يقتضي قطع التدفق التلقائي واستئناف تكوين العقل البشري بمكونات مغايرة".
لم تتغلغل الأفكار الفلسفية في العقول بقدر يتيح لها التغلب على حالة التحجر على ما تم التطبع به، فالإنسانية ما زالت محكومة بثقافات متوارثة معادية للتفكير العلمي وترفض الانفتاح الثقافي وتتوهم كل ثقافة الامتياز وتحتقر الثقافات المغايرة.
يوضح البليهي تلك الحالة بقوله: أية مقارنة بين قابليات الإنسان التي تتيح له الارتقاء، وأوضاعه البائسة على المستويات الفردية والاجتماعية والإنسانية تؤكد فداحة الخلل والخسائر، فطوفان الجهالات واستمرار الفقر وانتشار الحروب وتنوع النزاعات وقتامة الواقع واندلاع العنف وتوسيع المخاوف وشيوع القلق وغيرها من الظواهر تؤكد أن الإنسان ما زال بدائيا متوحشًا، و تكشف الهوة بين التقدم العلمي وما هو كائن في الحياة الإنسانية.
معضلة التعليم
يعتبر البليهي أن النظم التعليمية الإجبارية جزء لا يتجرأ من مشكلة الجهالات الإنسانية، فالإنسان بصفته كائنًا تلقائيًا لا يستجيب للنظم الإجبارية ولا تؤثر في تكوينه سوى بقدر محدود لا يكون له دور في تغييره أو تطوير وعيه.
أدى ذلك إلى أن صار التفكير الموضوعي والرؤية الإنسانية من نصيب قلة من الناس بينما المتعلمون حتى في المجتمعات المتقدمة فإنهم قد يكتسبون فقط بعض المهارات المهنية التي تتيح لهم العمل من دون اكتساب الروح العلمية.
من جهة أخرى، فالتعليم بتركيزه على تخصصات غير مترابطة فيما بينها واعتماده على الولاء لما هو سائد في المجتمع، أنتج دارسين ليس لديهم اهتمام سوى بمتطلبات البقاء، فهو تعليم غير متصل بالوعي والأخلاق.
يرى البليهى أن الخلل يكمن في انفصال التعليم عن حركة الحياة وعدم إحساس الدارسين بتفاعل المواد مع واقعهم اليومي فنتج عن ذلك حضور الملل والسلبية والانسداد وغياب التفاعل وبذلك غابت الرغبة التلقائية في العلم والحاجة الملحة إليه.
ونظرًا لأن معضلة التعليم لا تزال قائمة في مختلف أنحاء العالم، فثمة حاجة إلى رؤية واضحة وقرار حاسم بالتغيير من قبل القيادات، لأن التغيير لا يتحقق بالأفكار وحدها بل بالعمل بجدية لتحويلها إلى واقع.
ومن الخطوات التي يراها الكاتب على طريق التغيير؛ إحداث تغييرات جذرية في مؤسسات التعليم، واختصار المراحل وتقليل المواد والتعامل المباشر مع مشكلات الإنسان وصعوبات الحياة والاستغناء عن الشكليات، والإيمان بأن التعليم الحقيقي انخراط في الحياة وتأثير في كيان الفرد.
مكتسبات الحضارة المعاصرة
رغم كل المثالب، يلفت الكتاب إلى أن للحضارة المعاصرة منجزات لا يمكن نكرانها، وإن كانت فيضًا من عقول أفراد محددين ولم تتطبع بها المجتمعات، هذه المنجزات هي نتاج الفكر الفلسفي والعلوم الموضوعية وثورة العقل الناقد.
ويشدد البليهي على أن المجتمعات العربية تحتاج لاستيعاب الدرس الذي قدمته الحضارة الغربية؛ درس مفاده أن العلوم والإبداعات المعاصرة كانت نتاجًا لنهضة الفكر، وأنها من ثمرات فكر المراجعة والتساؤل والنقد لما هو سائد ومهيمن.